عزت القمحاوي لـ “الكتابة”: الروائي يكتب نفسه.. وكل مجهوده إخفاء هذه الحقيقة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 57
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: حسين عبد الرحيم

عن الغرابة والاغتراب، عن مساحات لا نملكها من السسفر في الزمان والمكان، كان كتابه “غرفة المسافرين” وطبعات ثلاثة، تؤكد جدارة الكاتب الروائي “عزت القمحاوي”، في قنص المتعة والجمال والدهشة، بل ثبوت وتجلى موقفه مع مفردات مراوغة لا يقينية تلمس بها ومن خلالها الكاتب عتبات اخرى لمعنىى الحياة والوجود والسفر والفقد والموت والحياة. تلك محطاتنا في العمر يدهشك السارد عزت القمحاوي بتقطيرها وتسييل جماليالتها  من عنوان لآخر. من “بلاد التراب والطين” لـ “غرفة ترى النيل” والحارس والسماء على نحو وشيك  ويوميات الغرابة والدهشة في “غرفة سامي يعقوب”  لكتاب الغواية، والأيك، و”يكفي أننا معا”ً. في أكثر من عشرة عناوين تكمن براعة السارد بالفلترة والنصوص العابرة للأنواع، ولغات حادة للحواس وتفعيل الحدس بتتبع أثر الحدث الوجودي الفلسفي في الغالب. كان هذا الحوار لـ “موقع الكتابة” مع الكاتب الروائي عزت القمحاوي، الحاصل على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية عن روايته “بيت الديب”، وترجمت نصوصه لكل من اللغة الإنجليزية والصينية والإيطالية .

سألته بداية.

– نبدأ من الأحدث، كتاب “غرفة المسافرين” تلك العتبات والمحطات الجديرة بالتوقف أمام معاني العزلة والسفر والغرابة والخواء وسطوة الجمال وخيباته؟

ـ أريد أولاً أن أعبِّر عن سعادتي باستقبال الكتاب. في الحقيقة لم أتوقع أن يجد نصي الأقرب إلى الفلسفة هذا الصدى الواسع. أظن أن هناك من قرأني للمرة الأولى في غرفة المسافرين. إن كان هناك من قصدية في الكتابة فهي رغبتي التي أحاولها عبر الأعمال الثلاثة الأحدث: “يكفي أننا معًا”، “ما رآه سامي يعقوب”، ثم “غرفة المسافرين”. روايتان ثم كتاب عابر للأنواع الأدبية. وما يجمع الثلاثة هو محاولة اختبار قدرة الخفة وأحيانًا السذاجة على قول أشياء أكثر عمقًا.

في رواية «يكفي أننا معًا» وكتاب «غرفة المسافرين» حفاوة بالرحلة، من حيث هي نشاط احتفالي بالحياة. في الرواية عاشقان سافرا إلى الأماكن التي اصطحبت القارئ إليها في «غرفة المسافرين» وفي الكتابين يحضر المشهد الوصفي للمكان، لكن بعمق نفسي وتأملي للشكل الاحتفالي بالحياة في أماكن السياحة. حتى أن جمال منصور بطل الرواية يسأل الطبيب في جزيرة كابري: هل هناك موت هنا؟ فيجيبه الطبيب الإيطالي: الموت موجود في كابري كما في كل مكان لكن السيَّاح لا يحبون رؤيته.

في السفر هناك تواطؤ على الاحتفال، وتحت هذه الاحتفالية تكمن الأسئلة حول معنى الزمن، والوحدة، وسطوة الجمال، والخيبة التي تكمن في حتمية الفناء التي تطارد الإنسان، الذي يحاول جاهدًا جيلاً بعد جيل الوصول إلى عشبة الخلود دون أن ينالها. وليس أمامه إلا أن يستسلم لسطوة الجمال، على ألا يتأمله بالعمق الذي يجعله محزنًا ومخيفًا.

كانت كتابة «غرفة المسافرين» لعبة ممتعة، ثم بدت مثل نبوءة بحرمان العالم من متعة السفر بتأثير لعنة كوفيد، لكن يبقى العزاء أن بوسعنا السفر في كتاب.

-عن اليقين كمصطلح مجرد أو مراوغ  في كتاباتك، كيف كانت ونمت عتباته في الثقافي والشخصى والوجودى في ما  قبل الشروع في السرد أو ما بعد رحلتك مع الكتابة عبر ثلاثة عقود؟

ـ اليقين هو رحلة بحث. «رب أرني» سؤال كل البشرية بمن فيهم الأنبياء، وبينما يحصل الأنبياء على مطلبهم يواصل البشر العاديون سعيهم إلى جواب، وكلما جدوا في البحث تتكاثر الأسئلة، ويحدث أن يكون أحد هؤلاء المتسائلين كاتبًا فيتشارك أسئلته مع الناس. وهذا أنا تقريبًا. واحد من الباحثين عن أجوبة، ولا تستطيع مسيرة الكتابة إلا أن تضاعف الأسئلة وتكررها.

– الموت وهواجسه ، هو الكامن فى كافة عناوينك التى بلغت الآن الخمسة عشر، ما بين فضاءات القص والرواية ، فكيف كانت الدوافع لكتابته، وما هو حجم المعيشى والحياتى ودورهما فى طغيان هذه الأفكار في سرودك؟

 ـ عندما تكون مريضًا بالسؤال، فلابد أن يفاجئك سؤال الموت. وعندما تبدأ حياتك في مجتمع يعرف بعضه بعضًا كمجتمع القرية تصافح الموت يوميًا. في المدن الكبيرة لا يرى الأطفال إلا الموت في إطار العائلة، وربما تحميهم الأسرة من مشاهد الموت ومجالس العزاء، ويموهون عليهم أسباب الغياب، فلا يلتقون بالموت إلا بعد أن يكبروا. القرى لا تخفي شيئًا من حقائق الوجود كما تستطيع المدينة أن تفعل. لهذا، فإن المرض بالسؤال والنشأة في قرية جعلا الموت بارزًا في كتابتي. وللآن أحاول أن أفهم سره. مشهد الجسد الميت مخيف في معناه. أن يتحول شخص مفعم بالحياة إلى جماد، أن يتشابه جسد الطيب وجسد الشرير في لحظة. أن يتشابه الحيوي ومن كان خاملاً، السعيد والحزين. لم أزل أفكر أين تذهب فجأة الأفكار والأحلام والضغائن التي كانت منذ لحظة في جسد حي. هذا شيء مرعب.

—فى غالبية مشروعك السردى، هناك الوقوف على الحواف، ما بين الموت والحياة العشق والهجر والخيبات، القفول والسطوع، النوم والاستيقاظ، ليتك تحدثنا عن دوافع وقوفك الدائم عند هذه العتبات؟

ـ البندول هو المثال الأعلى للإنسان المتسائل. وكل شيء يستدعي ضده ويوقظه. لهذا وجدت رواياتي التي تحتفل بالموت من يقرأها بوصفها دعوة لاقتناص الحياة. الكتابة عما فات وما هو ميت ما دعوة للأحياء كي لا يقعوا في الخطأ ذاته. في «غرفة ترى النيل» دخل عيسى المستشفى للراحة من آلام الأورام ليس أكثر. كان الأطباء متيقنين من أنها مسألة أيام، ومع ذلك كان يتلذذ بالمتبقي له. كوب شاي بالنعناع. أرخص متعة في حياة المصريين، يتذوقه عيسى ويهتف سعيدًا: عظمة!

في هذا الرجل الكثير من روحي، وأنا أرى أن تقدير المتع الصغيرة ليس عملا ضد الموت فحسب، لكنه عمل ضد الفساد. أزعم أن من تربى على فن الاستمتاع بالعطايا الصغيرة للحياة لا يمكن أن يفسد، لأنه لن يطمح إلى مراكمة أشياء لا يحتاج إليها.

على ذكر “غرفة ترى النيل” هناك تأمل الراوى للوجودى والفلسفى وما وراء الموت، كذلك السخرية من العزلة، ما هى رؤية السارد عزت القمحاوى للعالم الواقعى. وهل هناك تماس فى ما بين المسارين الإبداعى والواقعى ؟

ـ هناك تأمل للعزلة وسخرية منها في الوقت نفسه. سخرية من الجبن والمعرفة التي لا يتبعها اتخاذ موقف في أول سطر من الرواية «ليس في الردراك أي نبل». لأن الرواية ضد اليقين وترحب بالحيرة والمتناقضات، أما عن التقاطع بين الكتابة والواقع وبين بطل رواية وشخصية الكاتب، فأنا أعتقد أن الكاتب يكتب نفسه، وكل مجهوده يتمثل في إخفاء هذه الحقيقة.

– ما بين القرية والمدينة، الريف والحضر تكمن مفارقة جماليات السرد والدلالات الفلسفية فى رؤيتك للعالم، كيف جاءت الاختيارات أو الدوافع الفنية أو المعيشية لبلورت هذه المساحات الفريدة والجلية فى كتابات عزت القمحاوى؟

ـ لا بد أن أشعر بالامتنان لصيغة التقدير في سؤالك. وأقول لك إنني أرى أن الكاتب بحاجة إلى ملامح روحه الخاصة التي تتكون دون إرادة منه ويساهم فيها المكان ونوع التربية التي تلقاها والانتماء لأرض محددة وجماعة بشرية محددة، وفي الوقت نفسه بحاجة إلى الفكر، وهو عالمي لا يعرف الحدود. الحياة مهمة جدًا، لكنها فضفاضة تقول القليل في زمن طويل، بينما الكتب ذكية وكثيفة المعارف. وهكذا فإن للنشأة حصة وللآباء في الكتابة من مختلف الثقافات حصتهم في تكويني.

– عن العزلة آلياتها وتوغلها فى سرودك من عنوان لآخر. هل هناك دور للتربية أم هى رؤية الكاتب، حدثنا، هل هى مسألة اختيارية أم قدرية اكتملت وتغذت على مشوار الحياة والظرف السياسى والوجودى؟

 ـ قبل أن تصبح العزلة خيارًا ضروريًا للكتابة، كان الانطواء طبيعة منذ الطفولة. ولا يمكن أن تعرف سر ذلك. أنت تجد أخوة تلقوا التربية ذاتها وبينهم الانطوائي والمنبسط. لكن إذا تحدثنا عن واقع فقد وجدت نفسي ذلك المنطوي، وأعتقد أن الصحافة التي توجهت إلى دراستها متوهمًا أنها الوجه الآخر للأدب كانت آخر مهنة يجب أن أعمل بها.

على كل حال، عندما اكتشفت أن الكتابة شيء لا يمكنني الاستغناء عنه، كان لابد أن يتدعم الانطواء بحرص على إدارة الوقت. خصوصًا وأن العمل الصحفي كان يأكل الكثير من وقتي، وكان لابد أن أدفع مرغما، وبعد ذلك أحافظ على ما يتبقى وأحرص عليه حرص البخيل

– فى “السماء على نحو وشيك” هناك استدعاء لباتريك زوسكيند فى رواية الحمامة. هل لهذا الاستحضار إضافة لرؤية شمولية أم هو تأويل لماهيات التأمل لفراغات الوجود وعدمه والنفس وجسدها؟

ـ النص السردي حوار مع الوجود، والقراءة جزء من وجودنا، لذلك فالعديد من الكتاب يتذكرون في نصوصهم نصوص غيرهم إما لأنهم يحبونها فيستشهدون بها أو حتى لا يحبونها فيغمزونها. حتى العظيم دوستويفسكي تجده يذكر غيره؛ فيضع دونكيشوت في يد قارئ الرواية أو يجعله يسخر من كاتب معاصر لا يسميه لكننا نعرف من السياق أنه تورجنيف. نجيب محفوظ تجد إعجابه بسلامة موسى في الثلاثية ـ دون أن يسميه ـ كما يذكر فلاسفة ومفكرين في «ثرثرة فوق النيل». وبالنسبة للسماء على نحو وشيك أنت تشير إلى قصة «عتمة صباحية» وهي علاقة حب بين بطل القصة وبين زوج يمام بنى عشًا في نافذته. القصة شخصية جدًا. تعايشت فيها مع تبادل الذكر والأنثي الرقود على البيض تحت ناظري حتى ولدت الحياة الجديدة وكانت تسلية جميلة فيها الحب، وكان طبيعي أن أتذكر نوفيلا باتريك زوسكيند، حيث العلاقة العدائية والرعب من نظرة الحمامة.

– عن القهر والتسلق والعصف فى رواية “الحارس” وهذه الظلال فى أعمالك الأخرى، ما هى مساحات القمعى والسياسى ودورهما فى تسطير هذا العنوان؟

 ـ عندما ارتضى الإنسان العيش في مجتمع كان ذلك يعني تلقائيًا التنازل عن جزء من حريته (أو فوضاه) لهذا كان القانون وكانت مؤسسات القمع شرعية للحفاظ على حصص متقاربة من الحرية للبشر. لكن القوة تُغري، لأن مؤسسات العقاب يديرها بشر. وبدون رقابة مجتمع ديمقراطي يمكن أن يقع الإنسان المنفذ للقانون في غواية القوة، حتى يبدو أسير هذه الغواية. لدينا فيلم عظيم هو «زوجة رجل مهم» لم يتوازن الرجل المهم عندما أحيل للتقاعد، وكان انهياره بسبب ذلك الخلط بين شخصه والمؤسسة التي يمثلها.

وأنا أحاول أن أفهم هذه الغواية وأفكك مرتكزاتها الفكرية والنفسية، التي توقع الأذى بالضية والجاني على السواء. عدم معرفة منفذ القانون المسافة بين جسد المؤسسة وجسده الخاص يوقعه في الأسر ويجعل منه ضحية وهمه.

– مساحات الحسى والحدثى منثورة بوعىى وتحديدا فى رواية “سامى يعقوب”  و”كتاب الأيك” وهذا رغم واقعية الأحداث، حدثنا عن ماهيات أو مقومات التخطيط للتقنية أو اللغة والجماليات فى كتاباتك والتى تعتبر من أبرز سماتك ؟

ـالحدس والقدرة على التوقع والتخمين ملكة نملكها كلنا، وتنمو بالتأمل والإنصات للذات، أما الحسي فهو اختيار.

 

 

 

مقالات من نفس القسم