عاطف محمد عبد المجيد
يُعد عزت الطيري في مقدمة الشعراء خفيفي الظل، إذ تبدو خفة ظله واضحة في مسامراته، حكاياته، أو حتى في نِكاته التي يتم حشوها باللي بالي بالك.كما تبدو هذه الخفة أيضًا في قصائده الساخرة، التي يلعب دور البطولة فيها قط أو كلب أو سواهما. يحكي الشاعر أحمد الجعفري أنه في افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب ذات سنة، وجّه الرئيس مبارك حديثه إلى فاروق حسني وزير الثقافة حينها قائلًا له: ” طَلَبْ عزت الطيري يتّنفّذ عشان معقول جدًا ودمه خفيف أوي “.
كما يروي مزحة تقول إن الناس تسأل الشيخ محمد عبدالحافظ الطيري: ” انت تمشي علىٰ رجليك، وولدك عِزّت يركب موتوسيكل؟! فيرد الوالد: طبعًا..هو أنا أبويا أحسن من أبوه ؟!“ هذا الأب، هو نفسه الذي نال منه عزت الطيري أول علقة ساخنة، عندما ضبط معه خطابين مختلفين فى الهدف والمناسبة، الخطاب الأول كان خطابًا عاطفيًا موجهًا إلى زميلته فى الفصل، يعبر لها عن حبه ويطلب منها موعدًا فى الهجير يوم الجمعة عند النخلات الثلاث.أما الخطاب الثانى فكان موجهًا إلى جمال عبدالناصر، يعبر فيه عن إعجابه ببطولاته، ويقول له إنه يحبه، رغم أن والده يبغضه ويناهضه وينتقد حكمه. غير أن هذا الوالد أيضًا كان يُخفى إعجابه به وبنبوغه المبكر وأسلوبه الذى يفوق سنه.
يتغزل في نفسه
الطيري الذي اختار أن يبقى ويستقر في نجع حمادي في أقاصي أقاصي الصعيد، لم يمنعه بقاؤه هذا من أن يتجاوز حدود المكان، وأن يصل إلى عين وأذن القاريء في كل مكان، سواء في مصر أو في خارجها.وكم شارك في ندوات ومنتديات وفعاليات شعرية وإبداعية هنا وهناك، رادًّا بهذا على الذين يظنون أن الذيوع والانتشار لن يُنالا إلا بالهجرة إلى القاهرة عاصمة كل شيء، حيث الأضواء والنشر، والأهم منهما: حيث العلاقات !
في ديوانه ” في مديح سيدة الأقحوان ” يحتفي عزت الطيري بنفسه، شاعرًا وإنسانًا، مُتغزلًا في نفسه، مُكثرًا من ذكر اسمه في عديد من قصائد الديوان.إنه المسكين، كما أطلق على نفسه في أولى قصائد هذا الديوان، وهو رجل أنقى من قلب طفلة، يخشى خوض غدير عذب، ومسكون بصبايا الماء وحوريات الأحلام.” أحيانًا أتغزّل في المدعو/ عزت / وأقول له / يا أجمل مسكين وضعيف/ في هذا العالم / يا أحلى مظلوم / يا من تركتك النسوة لسراب وضباب“.
الطيري يحاول أن يقدم في قصائده كل الفنون، ففيها القصة القصيرة والفن التشكيلي والموسيقى والكونشرتو الشعري، كما يحاول أن يعيد صياغة الموسيقى لتصبح خاصة، ولكن ما المانع أن تكون القصيدة قصة، مثلما يتساءل هو.الطيري الذي يفضل كتابة القصيدة القصيرة جداً، يراها من أصعب أنواع القصائد، ولابد من أن يكون كاتبها على درجة عالية من الموهبة متسلحًا بأدوات استثنائية لا توجد في غيره من الشعراء، ويزعم أنه بقصائده هذه خطط طريقًا جديدًا مشى عليه العديد من الشعراء بعده! فعزت الطيري يحسب حساباته كي لا يخسر.فى الصبا المبكر كان الطيري يقرأ الشعر القديم، رغم أنه كان يجد صعوبة بالغة فى فهم معانيه، لكن هذا الجو الغامض الساحر كان يشده وهو يطالع عنترة وأبا تمام.إلا أنه وجد ضالته فى شعر أقل صعوبة، وأقرب إلى وجدانه وهو يتصفح دواوين حافظ، وعلى محمود طه، فيما حظى إبراهيم ناجى بحبه كله، وراح ينظم قصائد عاطفية، ويكتب تحتها شعر ناجى الصغير، وشارك ناجى فى حبه له صالح جودت الذى شدته موسيقاه، ولغته الآسرة، وعذوبة جمله، وانتزع حب ناجى وصالح من قلبه شاعر يفوقهما رقة، وصدقًا وحميمية، لكنه من جيل مختلف عن جيلهم، هو الشاعر عبد القادر حميدة، وفى بيته القديم الذى خصصه أبوه للمدرسين المغتربين، والقادمين من الوجه البحرى والقاهرة، سكن الفنان التشكيلى على حسين أبوالعلا مدرس التربية الفنية، الذى دلّه على عوالم أخرى أكثر تطورًا، وازدهارًا، وأهداه دواوين صلاح عبد الصبور، فأحس أن ذائقة جديدة نبتت فيه وأن شيئا طارئًا هب عليه، وعندما أعطاه ديوان ” مدينة بلا قلب ” لأحمد عبد المعطى حجازى قال: هذا ما كنت أبحث عنه طوال عمرى، واعترف أن هذا الديوان كان له الأثر البالغ فى تكوينه في ما بعد، فقد تخيل نفسه ذلك القروى الساذج الذى هبط الى المدينة فلم تجبر خاطره فراح يسبها ويلعنها.بعذ ذلك دخل ” أمل دنقل ” على عقله بقامته المديدة، وجزالته، وفخامة جمله، وتلك التقفية المحكمة وطريقته فى القبض على القصيدة من أولها إلى آخرها، وهذا الصك ” الدنقلى ” الذى يميز قصيدته عن الآخرين.وفى نفس الحجرة فى بيته كان يشارك على حسين الفنان التشكيلى، مدرس اللغة الفرنسية صالح على حسين الذي دله على بودلير وعلى أزهار الشر وجان دوفال، حبيبته الزنجية المتوحشة، وأمده بدواوين الشعراء الفرنسيين مترجمة، وأدخل فى عقله أن الشعر الحديث الذى قرأه لصلاح وحجازى ما هو إلا اقتفاء لقصيدة الشعر الفرنسية.
قامة شعرية
عن الطيري يكتب الشاعر العراقى لؤى حقى قائلًا: لا أعتقد أن هناك صوتًا ظهر بعد أمل دنقل، زمنيا، بأهمية صوته الشعري المُجدِّد، بالغ الرهافة والتفرد والخصوصية, بكل هذا العطاء الثر الذي يغترف من بحر إبداع هائل بكل سهولة ويسر، وتواصل لا ينقطع , فهو بحق مَن ينام ملء جفونه عن شواردها كما يقول المتنبي.إنني كلما قرأت له نصًّا جديدًا يتملكني سؤال حائر: كيف يستطيع بلمسة ساحر أن يُحوّل كل ماهو يومي بسيط إلى شِعري كثيف التركيب، عالي الدقة والإبهار, وأعتقد أن النقد العربي سيقف طويلا أمام تجربته الشعرية الكبيرة التي لم تنل بعضًا من حقها في عصرها كعادة كل الانعطافات الشعرية الكبيرة والمهمة في تاريخنا الأدبي, وسيُلام كل مَن لم يرها وكل مَن رآها وتغافل عنها عامدًا أو جاهلا.ثم يفخر حقي أنه عاصر قامة شعرية عالية مثل عزت الطيري. كذلك يكتب أحمد الجعفري عن الطيري فيقول: ” الشاعر المُهرج هندي الملامح، رأيته هناك في نجع حمادي عام 1988وشاركته أمسية شعرية تعجبتُ، بعدما عرفته، كيف لم أنل نصيبي ليلتها من سخريته.لم أكن جديرًا بقدر ما كان مُكْبِرًا مُشجعًا، صرنا صديقين، وظللت معنيًّا بالبحث عن المَعَين المتجدد الذي ينهل منه هذا الشاعر، كان الدأب والاطلاع والبديهة والموهبة والذائقة والقراءة والاستماع والسفر والتجارب العاطفية، الفاشلة بالطبع، وصحبة الشعراء الحقيقيين والحضور والنشر والقلب الوسيع والروح الباسمة، و.. جميعها كانت مفردات التجدد لديه، ما جعل أكابر الشعراء والنقاد والكتاب يعرفون له مقامه بينهم، الأمر الذي حدا بشاعر مثل محمد الفيتوري لأن يقول: إن الشعر في مصر هو عزت الطيري.لم تكن مصر فقط هي ساحته، بل امتد صوته الشعري مثاقفا لأفهام المتلقي العربي من المحيط إلىٰ الخليج صادحًا في منتديات، أو ناشرًا في أهم الدوريات الشعرية في كل الدول العربية.ولا يكاد مثقف مصري إلّا وأعجب بشعره ورأىٰ بعينيه إعجاب من يحترمهم به حتىٰ وإن اختلفت مدارسهم الشعرية مع ما اختاره لنفسه من صوت شعري وقاموس يخُصّانه ويشيران لتفرده وشاعريته، لعشرات الأعوام كان الإبداع طابع البريد وسيلة عزت الطيري لفرض حضوره وتحقيق جدارته، علىٰ غير ما فعل شانئوه من اقتفاء النقاد والناشرين في مقاهيهم وباراتهم ومكاتبهم.
عزت يواصل عطاءه دافعًا ومشجعًا ومعلمًا لتلاميذ كثيرين زارعًا لحديقته، يأكل من عمل يده، وليس من فبركة المكافآت من الهيئات والمؤسسات.عزت بهجة خلانه وبسمة ندمانه لمَا له من حُسن محاضرة وزكي مفاكهة.عزت: استمرْ معنا شاعرًا ومُهرجًا وهندي الملامح، فأنت يا صديقنا أجمل ملامحنا “.
الشاعر الحقيقي
الطيري يرى أن الشاعر الحقيقى هو من يفسح المجال لكل مجالات الإبداع الشعرى، ويعتقد أن لكل نوع حلاوته ومذاقه، إذ ليس كل شعراء الشعر العمودى من العاديين والخطابيين والنظامين، فقصائد البردونى غاية فى العظمة، وكذلك قصائد الجواهرى وعمر أبو ريشة.بل إن فى شعر المتنبى وابن الرومى حداثة تفوق حداثة الحداثيين، وفى قصيدة النثر نماذج مشرقة وإضاءات وإشراقات لا نجدها فى القصيدة التفعيلية، مثل إبداعات أدونيس ووديع سعادة ومحمد الماغوط والأجيال التى تلَتهم.لكنه يعيب على كثيرين من شعراء قصيدة النثر هذا الغموض المفتعل والإيغال فى الايروتيكا ومحاكاة قصيدة النثر الأوروبية، وعدم اهتمامهم باللغة..كما أن بعضهم دخل على كتابة النثر مباشرة دون أن يمر على القصيدة العمودية والقصيدة التفعيلية استسهالا أو إفلاسًا. كما يرى أن والشاعر الحقيقى هو الذى يتابع باهتمام كل إنجازات الرواية العربية وغير العربية وكل إنجازات القصة القصيرة.عندما ظهر الطيري كان رفاقه يكتبون القصيدة الغامضة، بفلسفاتها وتنظيراتها، وإقحامها للثقافات، وتطعيمها بالأساطير وأبطال التاريخ وفرسان الحكايات، وكتابة القصيدة الكيميائية التى لا تجنح للروح بقدر جنوحها للعقل، وأصبحت القصيدة عندهم بما يشبه الفسيفساء والأرابيسك. أما هو فقد ظهرت قصيدته لتحمل وجهًا مغايرًا، خاصة وهو لم يكتب إلا نفسه وما يحيط به من شجون وهموم العصر، وبالتالي أصبحت قصيدته هى السهل الممتنع، دون إسفاف أو تدنٍّ ودون غموض أو مغالاة، فأحبها الناس واقتربوا منها وشعروا أن قادمًا مختلفًا عن أبناء جيله ولاحظوا أن شخصًا يتعالى على القارىء ويفرد عضلاته وأن شخصًا يقترب من القارىء بنص يحترمه.
بدأ الطيري الكتابة مبكرًا وهو طفل حيث كان الابن الوحيد لحضرة ناظر المدرسة الأزهرى والمثقف والسياسى الوطنى الذى بنى أول مدرسة ابتدائية فى قريته والقرى المجاورة على أرضه وكرّمته وزارة المعارف وعيّنته ناظرًا بها مدى الحياة، فصارت همه الأكبر ومعشوقته وهدفه فى الحياة.وقد نشر الطيري أول قصيدة له فى مجلة ” صوت الشرق ” التى كانت تصدرها السفارة الهندية فى القاهرة وكان يرأس تحريرها الشاعر خليل جرجس خليل.الطيري يرى أن عالم النشر الإلكترونى عالم غريب، وساحر وخيالى، تسوده المجاملات، والشللية، ويُطبق فيه مثلا غريبًا ” علِّق على أعمالى أعلق على أعمالك” وإن لم تعلق نبذوك وأهملوك وحاكوا ضدك المؤامرات.الطيري لا يكتب الشعر فقط، بل يكتب أنواعًا أخرى من الإبداع، كالقصة القصيرة، وله مجموعة قصصية لم تطبع حتى الآن، ويكتب شعر العامية، وله مجموعة أصدرتها الجامعة بعنوان” أحزان شاعر قروى” إلى جانب هوايته للرسم الذى مكنه من الالتحاق بكلية الفنون الجميلة لمدة شهر، وتركها ليلتحق بكلية الزراعة تحقيقا لرغبة والده فى أن يكون مهندسًا زراعيًا، يشرف على مزرعته فى القرية، ولكن وجد أن الشعر هو ملاذه وبيته، وحلمه والشاطىء الجميل الذى يقضى مع أعشابه وطحالبه وقواقعه وشموسه أحلى لحظات عمره.
الطيري الذي يؤكد أنه مؤمن بالقسمة والنصيب، وبمقولة قدر الله وماشاء فعل، يظن أنه المظلوم الوحيد فى جيله كله، وليس التاريخ وحده هو الذى ظلمه، لكن الجغرافيا أيضًا ساهمت فى هذا الظلم، فإقامته فى قريته التى لم يغادرها إلا لمامًا، حرمته من أشياء كثيرة على حد قوله.
أقنعة الملائكة
الطيري صاحب القلب الوديع الشاب يرى أنه ليس فى العمر بقية، ولذا من حقه أن يحلم بطباعة دواوينه التي أعدها للطبع ، ويبدأ فى كتابة سيرته الذاتية، ومن خلالها سيكشف الكثير من الظواهر السيئة فى الحياة الثقافية، ويبوح بأسرار كثيرة احتفظ بها فى السنين الماضية مُدعمة بالوثائق والخطابات والصور تفضح الوجوه التى ترتدى أقنعة الملائكة، وفى نفس الوقت ستزيح الغبار عن أوجه مضيئة لحِقَ بها الظلم وآن لها أن تأخذ حقها.كذلك سوف يكتب مذكراته وحكاياته وماعايشه فى السنين الماضية. عزت الطيري الذي بات معروفًا الآن في ربوع الوطن العربي، لا يزال يرى أن بُعده عن أضواء العاصمة ظلمه كثيرًا، وجعل مَن هم دونه يتسيدون الساحة وينتشرون كالجراد فى كل مكان، لا عن موهبة، ولكن عن قدرة عجيبة بمعرفتهم من أين تؤكل الكتف، فهم فى المؤتمرات الدولية وفى المهرجانات العربية وفى الاحتفالات الداخلية وفى معارض الكتب، وهم على دراية كاملة بموعد وصول الضيوف العرب والضيفات، والقادمين بشأن مهرجان أو ندوة أو مؤتمر، فيحملون لهم باقات الورود، ولا مانع من اصطحابهم إلى أى مكان يودون الجلوس فيه، وهذا معناه أن المستضيف والمرحب سيكون عاجلا أو آجلا ضيفًا عليهم فى أقرب احتفالية فى بلدهم.الطيري المتابع الجيد لكل ما ينشر فى وطننا العربى من دواوين وكتب نقدية وروايات ومجموعات قصصية، تعلّم، كما يقول، من محمد القيسى رحمه الله كيف يحوِل العادى والمتا ح من وجهة نظر الآخرين إلى أشياء غير عادية، لذا فقد لاحظ النقاد أنه يكتب فى أشياء لا تخطر ببال أحد من فرط عاديتها، لكنها تتحول على يديه إلى أشياء أخرى لا تخطر ببال أحد! وقبل أن أضع النقطة الأخيرة في هذا البورتريه الذي كتبته عن عزت الطيري، وأهديه بلا مناسبة، على طريقة الطيري الكوميدية، لعاطف محمد عبد المجيد، أردد قصيدته:
بمسدسِ الحلوى
أخيفُ مُطاردى
فإذا تولىَّ هاربًا مِنِّى
أكلتُ مُسدسى.