عروس الصورة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين حمدي

فى المطار ضغط على يده زوج أخته معزياً .... البقاء لله كان أملها الأخير أن تراك, ألف رحمة ونور عليها والدتك عاشت معززة وماتت مكرمة, ارتاحت فقد طالت رقدتها ولم نقصر فى طبيب أو دواء ... غيبوبة أخيرة كانت تفوق منها لحظات وكأنها بتكلم المرحوم والدك وكأنه معها فى السرير, نفسها راحت لحلاوة المولد جبتلها علبة ملبن بالفستق ... عيب يا راجل ما تقولش كده دى المرحومة كانت فى منزلة والدتى وأكثر, طبعا أطمن الخارجة كانت من الحامدية الشاذلية والسرادق كبير حتى الأقارب جائوا من البلد وباتوا عندنا بعد عشاء مشرف, اسمك على رأس النعى يسبقه لقب دكتور وخبير فى البنك الدولى وكتبنا عن الوالد أنه كان مدير المعاشات ... مش فارقة مدير من مفتش . مندوب على درجة وزير جاء للعزاء ومكث فى الصدارة طوال قرأة سورة ياسين .... تخيل التربى صمم على ورقتين بمائة لفتح المدفن, عالم حرامية حتى أختك بلسانها الطويل ما انت عارفها سألت التربى هو الباب كان معصلج فى فتحه اوى كده.

فى الصالة واجهته كتل السواد تعتلى الطقم المدهب ومع أطلالته هبت اكتر من سيدة تتمتم صبراً وسلواناً وسارع اكثر من صدر لضمه ويربت عليه … تراجع موج الكتل خاشعاً عندما قام يجر قدميه إلى حجرة المرحومة, وحده دخل وأغلق عليه الباب .. السرير النحاسى بأعمدته الطويلة كمقام لأحد الأولياء . داير الدنتيلا منسوج عليه نساء لهن أجنحة . المراتب والأغطية ملتويه منزاحة إلى الحائط, الكنبة يتشبث بها غطاء زهوره باهتة, خيال أمه فى جلستها فوقها مستندة ظهرها على الجدار تضم تحتها ساقين متورمتين بجوارب طويلة سوداء, مرآة دولابها المكسورة فى الضلفة تصدر صريرها المعهود, رائحتها العطرية الرخيصة تتسلل إليه من بين كومة الملابس … لم يجد شيئا لم يتوقعه, فساتينها الداكنة باردة يملأها خواء  قطعة القماش التى أرسلها لها من زمن جديدة مازالت فى غطائها الأجنبى, حقائب يد عميقة بداخلها أوراق قديمة وأحجبة ومكحلة …. وجد صورة زفافه يقف فيها مبتسما بشارب رفيع إلى جوار عروسه أبنه خالته … تذكر ما كانت والدته تقوله عليها … كاملة ومسمسمة … فى زاوية المرآه المكسورة تحسس شعره الذى تقلص وعروقا ناتئة فى صدغيه النحيلتين.

 عروس الصورة فى مخبأ دولاب أمه خرج يبحث عنها فى غياهب السواد .. وجدها تمد يدها وأصابعها مفرودة تنتظر الجواب, على وجهه رسم أبتسامة وضع فيها كل ما أستطاع من شوق وتشبث بأصابعها يلوكها فى شوق … لم تتغير كثيراً .. كاملة ومسمسمة, الزمن سطر تحت عيونها خطاً دقيقاً زاد فى النظرة جاذبية, على نحو مفاجئ شعر أنه يفتقد الحياة وأنه كان يحيا سنواته الأخيرة ميتا بدونها .. حاجته هائلة للبكاء, إلى أن يهرع إلى صدرها صارخاً يقول لها .. ألحقينى أمى ماتت وانا وحيد وفى حاجة إليك.

 رنين تليفون من الخارج يعيده إلى وعي … ترنك من الخارج . طالت محادثته بالأنجليزية مع فيولا وعدها بطلبها يوميا فى مثل هذا الموعد …. وضع السماعة وفى خياله مقارنة بينها وبين بنت خالته, لطالما شعر بها وهى فى أحضانه وتمناها نائمة على صدره فى نفس اللحظة التى كانت فيولا بين ذراعيه …. كم كان يفتقد انفاسها الحارة وهى معه فى الفراش بدلاً من مشاعر فيولا الباردة حتى وهما فى قمة نشوتهما كان يشعر ببرودة مشاعرها برودة قبلاتها واحتضانها له.

 سادت تضاريسه الأرق . فى الليل بدأ يستعيد ذكرياته معها أول قبلة بينهما أول كلمة حب نطقها أول كل المشاعر التى لم يشعر بها إلا معها …. يحس فى داخله ناراً وفى قلبى لوعه وإشتياق إليها, مع الفجر نام وقام بقرار أقرب إلى النزوة, إصرار الفلينة على الطفو . أبتهل ألا تكون النمرة قد تغيرت أدار تليفونه القديم . أرجع قلبه ردها المعهود على السماعه … أيوه … أخذته نبراتها المألوفة المنعشة . هذا الصوت تمدد ليسكن قلبه زمناً … بنت خالته . زوجته السابقة . تلك التى تركها فى لحظة جنونية لاهثاً وراء حلم السفر الذى كان يراوده طوال حياته …. شرح لها أنه لم يبقى سوا يوم واحد على سفره . ما بيننا إنتهى. أبداً, عايز أشوفك … أتفضل زورنا فى البيت وتعرف على زوجى, حكيت له عنك كتير, فيها أحراج . متفهم وعاقل وخلاص كل شئ بيننا مضى وراح …. لأ شئ مات . فى أنتظارك الساعة 5, سلام.

 فى التاكسى كانت الشمس عند تقاطع الشوارع تغيب متلكئة, العنوان تضلله أنفاق وكبارى ومنحنيات جديدة . للبواب ألقى تحية فهب واقفاً  . الدرجات صعدها وثبات تماماً كالماضى . تليفزيون شقة الدور الثانى مازالت مسلسلاته تصرخ من بئر السلم . الدرجة المنزلقة مع لفة البسطة التالية .. أمام الباب توقف لاهثاً .. كان وقتها يدير المفتاح والأن جرسها يعزف موسيقى . نور الصالة يضاء . طفل أسمر بنظارة وشعر مجعد فى بيجاما  … أبنها, كان يعلم بأمر الأطفال لكن المفاجأة جعلته متردداً, أتفضل يا دكتور .. لا شئ تغير, الستائر الوردية الكثيفة وحجرة السفرة بتمثالها المعدنى والفوتيهات القطيفة الرابضة كلها مكانها .. فقط قدماه لا صوت لهما, كانت أمنيتها أن تغطى الأرض بالسجاد الموكيت, الرجل الأخر أقبل  . زوجها أسمر بنظارة وشعر مجعد يحمل طفلة سمراء بشعر مجعد …. منذ اللحظة الأولى بقى مسيطراً . أهلاً وسهلاً بنت خالتك جاية حالاً, لحظات صمت طويل والصغيرة تتملص من حجر أبيها تعتلى كتفه … عفريتة ومدوخة أمها, ربنا يخليهالكم  … أتى الولد يتعثر بصينية الشاى وجلس بجوار أبيه نسخة مصغرة منه, تعرج الحديث بين السياسة والأحزاب والرياضة … أقبلت . أتت نحوه مصافحة, خالتى كان نفسها تشوفك قبل ما تموت … زوجها عزم عليه بسيجارة فلم يرفض رغم أنه لا يدخن, قامت تصب له الشاى, عارفة مزاجك 3 ملاعق سكر فقط … حركت ملاحظتها ذكرياته الراقدة …. بصمات أصابعه وشفاهه المطبوعة فى خياله على جسدها كأنه لم يحدث فراق, هذا الرجل الذى ينام بجوارها إلم يلاحظ هذه البصمات ؟ لماذا لم يسألها عنها ؟

 إلى زوجها توجه كلاما بلهجة حميمية متقاربة لم تخاطبه بها أبداً عندما كانا زوجين , شعور إنه منفى . مهزوم . تدحرجت قطرة عرق وسط جبينه, فى مواجهه أحساسه بحسد رفيق وندم غامض وجد نفسه يندفع فى الحديث عن فيولا على أنها زوجته .. رغم وضعه فى بيتها حتى الأن بدون زواج, وعندما أضاف إنها تعامله بحب وعشق لم يرى مثلهما لمجرد إنه عربى, أبتسم فى داخله ساخراً من كذبه وتذكر رفضها أن تأتى معه حفل تكريمه لأنها لا تحب أن تكون متواجدة بمكان به عرب.

   الزوج تململ واعتذر للحظات فأولاد عندهم مدرسة فى الصباح وساقهما أمامه بعد تحية روتينية, تركها معه وحدهما . فى جلستها جسدها يتمدد فى تناسق مثير , اللحظة مهيأة لقول ما ينبغى ان يقال منذ البداية … واحشانى, لو قامت سيهرع خلفها تعرفه مجنون  .. تلك المتوهجة فى ملابسها الرسمية كانت فيما مضى تخطو بين هذه الغرف فى قميصها الستان المشقوق . تقف أمام البوتاجاز . يلاحقها واصابعه ولا تكف عن عصر جسدها ويده لا تهدأ فى سياحتها على شعرها وصدرها , يطفئ عيون النار . تغادر الحمام يشع جسدها الخمرى داخل المنشفة القصيرة البيضاء برائحة الصابون والعطور ……..

 أفاق على صوتها: أصبلك فنجان جديد

نظراته تزعجها تلخبطها ,تشيح بوجهها عنه, يقترب بوجهه منها , يشعر إنه يشم رائحة شفتيها تلك التى لم يشبع منها, تقطيبتها يعرف معناها … موحشتكيش , لازمته ايه الكلام ده من فضلك كل شئ بيننا أنتهى . انا لسه بحبك, وانا كنت بحبك .. كنت .ودلوقتى أنا متزوجة وعندى أولاد أنت عندك ايه ؟؟… شعر أنه لا يقوى على مواجهتها فنكس رأسه أرضاً فأكملت كلامها .عندك مال وعلم وفيولا أنا عارفة إنك بتكدب بخصوص فيولا الأم دايما تعلم عندما يكذب أبنها . وأنت بتكدب لأنك كنت زوجى وأبنى وابويا وفى الأخر سيبتنى رغم إنى كنت لوحدى يتيمة فقيرة معنديش إى حاجة تعوضنى غيابك ولا حد يقف جانبى .بس ربنا عوضنى بزوجى اللى أنتشلنى من حزنى عليك وساندنى وحبنى وقوانى بحبه ليا , شهرين كنت بترجاك إنك ماتسافرش وتسيبنى لكنك سافرت وعارفة إن ده مش سبب تركك ليا, كنت عاوز أولاد, مش ذنبى إنى مكنتش بخلف . ده ذنبك انت, انت اللى عاقر ولكنى عمرى ما جرحتك وواجهتك بالحقيقة … رفع إليها رأسه مصدوماً من المفاجأة هل هو من كان السبب فى عدم الأنجاب وهى من أخلاقها وحبها له رفضت مصارحته أخفت عنه عجزه . تحملت أهانته لها وألحاحه بأنها لابد أن تذهب للطبيب وكلامه إليها بأنها لا يطيق أن يعيش معها لأنها عاقر … ألهذه الدرجة كانت تحبه, غصه ألم بدأ يشعر بها فى حلقه . شعوره بالندم يدفعه إلى الأعتذار لها . إلى أن يقبل رأسها وقدميها أن أستطاع . كم كان غبى عندما أضاعها من يده, غصه الألم فى حلقه تزيد . عيناه تكاد تقفز منها دموعه, نظرت إليه فى تحدى واضح ومقاومتها للبكاء تمزق صوتها . أنا يمكن قريبة اوى منك لكن فى الحقيقة أنا بعيدة جداً عنك.

 أصوات خطوات تقترب تعود لتجلس مكانها وتحاول التظاهر بأنها طبيعية, يحاول أن يسيطر على نفسه ويأتى زوجها متسيداً. شعر بتطفله داخل المكان قوة طاردة تبعده .ينهض من مقعده بجدية مفتعلة . أنا سببت لكم قلق . أبداً حضرتك أنست وشرفت ولازم الزيارة تتكرر.. شيعاه متلاصقين فى فتحة الباب, يداه مزقت بطانة الجيب الذى أستقرت به يداه وصورتها وهو بجانبها بشاربه الرفيع . هبط درجات السلم متثاقلاً, يبحر فى بحر هواجسه … القاهرة لم تعد مدينتى.

 ابتسمت وهى فى فراشها الأن تستطيع أن تنام وهى راضية فأخيراً شعرت بأنها أنتصرت عليه ودفنت حبها القديم, نظرت إلى الوسادة بجوارها وأبتسمت لزوجها النائم وطبعت قبلة على وجهه واحتضنته ونامت.

 

 

مقالات من نفس القسم