محمود حمدون
أَدْمَنَ عمي الأوسط قراءةَ كلِّ ما كُتِب عن عالمِ الجنِّ وتحضيرِ الأرواح. لا زلت أذكر المجلدات العتيقة وأكثرها غموضًا تحت عنوان: “شمس المعارف”، “الدرّ المنظوم وخلاصة السرّ المكتوم”، “اللؤلؤ والمرجان في تسخير الجان”. تحذيرُ عمي الشديد بألّا أقترب منها أو من باقي الكتب والمخطوطات ما زال عالقًا في ذهني.
ومبلغ علمي أنه أنفق معظم ماله الخاص على شراء الكتب والحاجيات اللازمة، وكذلك كلُّ ما كانت تغدقه عليه أمه، وما ورثه عن جدي، بخلاف ما اقترضه من الغير ولم يرده.
أذكر أن جدتي جاهدت كثيرًا لإصلاح حاله، بخاصة عندما انقطع عن عمله الحكومي في سبيل مهمته “المقدّسة” حسب زعمه. حتى أنها عرضت عليه جميلاتِ العائلة وغيرهنَّ من البلدة والمدن المجاورة، إذ ظنت أن الزواج إصلاحٌ وتهذيب للرجل الأخرق. لا زلت أذكر حديثها معه ومع أفراد الأسرة: لابد له من امرأةٍ تأخذ بلجام هذا الثور الهائج؛ العمر يمضي، عمّا قريب لن تؤنسه غير الوحدة واجترارُ ذكريات الصبا، فتجنّب سخرية الناس والفرار من أعينهم.
لقد خصّص “ناجح” غرفةً واسعةً، وضع فيها مكتبةً خشبيةً صنعها وفق مقاييس محددة تمتدُّ ما بين الأرض إلى السقف، تلفُّ جدرانَ الحجرةِ من جوانبها الثلاثة عدا الباب. زاخرةٌ بكتبٍ قديمةٍ ومخطوطاتٍ نادرةٍ، ينفق ساعات يومه في القراءة والتحضير، ينام ساعاتٍ قليلةً ولا يغادرها إلا لضرورة.
قال لي مراتٍ إنّه قادرٌ أن يهب باقي ثروته لمن يأتيه بكتابٍ من هذه الكتب، وأشار بيديه إلى الحوائط المكتظة. غير أنّه رهانٌ لم يفز به أحد، أو لعل الناس لم يلتفتوا إليه، ربما لإيمانهم بصعوبة الوصول إلى نسخ أخرى، أو لاعتقادهم في عبثية ما يفعله هذا الرجل.
أفنى عمي ناجح ستة عقودٍ من عمره، الذي تجاوز السبعين سنةً، في صراعٍ مع الجن. برّر ذلك ذات مرةٍ ودون أن أسأله، قال: «أنا وريثُ أبي آدم؛ هؤلاء أستنزلهم واستعيذ منهم علانية، سيخضعون ويسجدون لي. رجائي الذي أعيش من أجله أن أنهي هذه المهزلة الدنيوية».
ـ لكن، لم يفعلها كبيرهم، فهل يفعلها الأحفاد من بعده؟
ـ ردّ بنبرةٍ عاليةٍ تميل إلى التوبيخ: «لا، سيفعلونها معي أو على الأقل بعضهم، نيابةً عن الجميع، بالوكالة عن الأصل. القاعدة أن تصرفات الفرع تلحق بالأصل، كما تعلم. لن أغادر هذه الحياة حتى أحقق هذه الأمنية التي كدت أهلك في سبيلها. حال تحقق ذلك سأقول لأبينا: فعلت ما لم يحدث معك، أخذت بثأرك».
أشفقت على عمي من عقله وما يحدث به؛ ندمتُ، وشيوخُ العائلةِ وعجائزُها ندموا أيضًا أننا لم نضرب على يديه مبكرًا للكفّ عن جنونه هذا. كم ظنّوا أن تركه وقَوّاه شرُّ نفسه سيُبعده عن جلساء السوء، تسريةً له عن فشله في الوصول إلى الجامعة أسوةً ببعض شباب العائلة النابهين.
غير أنّه غافلنا جميعًا، أو أننا تغافلنا عنه، فانكبَّ على عالمه، يغوص فيه إلى أعماقٍ لم يبلغها أحد. أهمل النساء، وقال إنّهنَّ يشغلن المرء عن النجاح وبلوغ الآفاق الجديدة، وأنه يرجو أن يكون له من اسمه نصيب. أذكر أنه أخبرني أن الشهوة عدوٌّ لدود للذهن الصافي القادر على سبر أغوار أي مشكلة.
ستون سنةً وهو يجِدُّ السير في الطرقات، يقطع الفيافي وراء الجن، يراودهم عن أنفسهم، يناورهم، يوهمهم أنّه السيد عليهم، ثم يغافلهم فيهربون من بين يديه.
فلمّا انقضت الستّة عقودٍ كاملةً ويأس الشيخ من بلوغ غايته، أحرق أغلفة الكتب القديمة، دفن بعض المخطوطات السرية في أماكنٍ لم يخبر بها أحدًا، ثم ذهب لزيارة قبر أمه في الجنوب، يحمل بين جنبيه طموحًا لم يكتمل، وفي نفسه شيءٌ من عدمِ ارتياح.