في ذلك الوقت – تحديدا- كنت قد بدأت التعرف على شعر “جيل السبعينيات”،وأقرأ عن معاركهم وبياناتهم الشعرية أيام كانوا شبابًا.فرأيت أنهم من أكثر الأجيال تمتعا بالثقافة العميقة. لكنني لم أعرف لماذا وجدت –آنذاك- حائطا أسمنتيا يقف حائلا بيني وبين شعرهم. وكلما استمتعتُ إلى أحدهم كلما علا الحائط أكثر. سأستثني فيما بعد الشاعرين أحمد طه وعبد المنعم رمضان من هذا الضجيج.
كان حلمي سالم -رحمه الله- أول من تعرفتُ عليه في جيل السبعينيات في ندوة شعرية بجامعة عين شمس- وكنتُ لم أزل بعد بالسنوات الأولى بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. وقد بدا لي وقتها أن حلمي سالم هو الأكثر نشاطًا وصخبًا في جيله.
لازلت أذكر كيف مهذبًا في سلوكه معنا، نحن الطلاب، وحين استمع إلى قصائدنا أبدى تشجيعه للجميع. لكنه استوقفني أنا- دون الآخرين- وطلب مني القصيدة التي قرأتُها- وكان عنوانها “إيمان”، وكنت قد كتبتُها عن صديقة قديمة، تحمل الاسم ذاته- لينشرها فانتابتني رهبة غريبة ولم أرد واكتفيت بإيماءة من رأسي ومضيتُ،فلم أكن وقتها منشغلة بهاجس النشر.
سيزورنا حلمي سالم في الأسبوع التالي في كلية الآداب،ولما يراني أعبر مع زملائي كي ندخل مكان الندوة الشعرية يناديني ويكرر طلبه قائلا :”فين القصيدة يا نجاة؟ ” فيصيبني الارتباك فأقول له معتذرة بخجل إن القصيدة التي يريدها ليست معي الآن وإنني سأحضرها له في المرة القادمة.وبالفعل التقينا وأعطيته القصيدة. وبعدها نسيت الأمر تمامًا، ثم فوجئت بعد مرورأسابيع قليلة بقصيدتي منشورة باسمي الثلاثي في مجلة (أدب ونقد) بجوار الشعراء المعروفين آنذاك.
في نهاية سنوات الجامعة وبعد أن تجولتُ في معظم الأماكن الثقافية بصحبة أصدقائي اليساريين بالجامعة. وقد تعرفتُ وقتها في أسبوع واحد على أتيليه القاهرة وزهرة البستان وجمعية النقد الأدبي وندوات الأدب بنقابة الصحفيين، وبدأت أسمع ساعتها عن شعرأحمد طه ومجلة الجراد وما أثير حولها من ضجيج،والذي لم أتوقف عنده كثيرًا، وسألت أحد أصدقائي أن يساعدني في الحصول على دواوين أحمد طه فجاءني صديقي بديوان”إمبراطورية الحوائط”،وحين قرأتُه لمست قرابة شعرية تجمع بيني وبين صاحب الديوان وحساسية استثنائية تتجاوز مفهوم الأجيال الذي انشغل به الكثيرون في هذا الزمان. وقد انتابني فرح خاص، حين علمت أن أحمد طه من “حي شبرا”،ذلك المكان الذي تمتلأ به روحي، فقد عشتُ به سنوات الطفولة والصبا قبل أن أنتقل إلى حي المعادي،ذلك الحي البارد.
لم تمر سوى شهور قليلة إلا وقد دعاني ناقد من جيل السبعينيات (أنا ومجموعة من الكتٍّاب والكاتبات) إلى لقاء الشاعر أحمد طه وزوجته الباحثة الأمريكية كلاريسا بيرث التي كانت تنوي إصدار مجلة نسوية،وترغب في مشاركة الكاتبات الشابات معها،ولهذا السبب دعونا وقتها .
كان أحمد وكلاريسا عائدين لتوهما من أمريكا ،وتولى أحمد وقتها الإشراف على تحريرمجلة القاهرة بعد وفاة غالي شكري.وحين زرتُه(أعني أحمد طه) أول مرة هو وزوجته كلاريسا بحي الزمالك ،اكتشفت أنه لم يكن يختلف كثيرا عن الصورة التي رسمتُها له من خلال شعره وكتاباته وكلام أصدقائه القريبين عنه. كان يبدو بسيطا ومثقفًا بدون ادعاء،يعاملُ من هم أصغر سنًا منه بنِدية شديدة حتى إنهم كانوا ينادونه باسمه كدلالة على قرب المسافة بينهما.
خمنتُ بيني وبين نفسي أن ملامح وجهه الطفولية قد تخدع من لم يقرأ شعره، تماما كما يخدع البحر بسطحه الهادئ الناظرين إليه فيصرفهم عن الانتباه إلى الأمواج العنيفة التي تتلاطم بداخله.
حين وجدني أحمد أتناقش معه بجدية واهتمام اختصني دون الآخرين من زملائي الذين زاروا بيته ،بإهدائي نسختين مصورتين من ديوانين له،كانتا مكتوبتين بخط يده،وبعض الكتب المهمة مازلت أحتفظ بهم إلى الآن في مكتبتي الخاصة.
ربما الشيء الوحيد الذي لم يتغير بعد –رغم اللقاءات المتباعدة بيننا على مدار السنوات الماضية -هو إحساسي بأن هذا الشاعر سيظل مثل شعره شابًا إلى الأبد.ربما لأن روحه تحمل وهجًا خاصًا لا ينطفئ أبدا.