كان يعرف عنوان بيتها الذي صرخت به كثيراً في ليالي توحده اللانهائية . بعد أيامٍ من التخبط اتخذ قراره بالذهاب . طلبت منه أن يقضي معها الأيام المتبقية من حياتها . رفض ، غير أنها أصرت. منحته الغرفة الخالية التي كانت مخصصةً فيما مضى لتربية الطيور ، و قالت له : ” إنها لا تختلف كثيراً بالتأكيد عن المكان الذي تعيش فيه ” . و لكي تُطمئنه تماماً أكملت : ” في هذه الغرفة لن تستقبل خيط ضوءٍ واحد . لن يزعجك أحد . لن يتلصص عليك شخص ” .
استطاع أن يرى زوجها الهرِم ، و ابنها الشاب غريب الأطوار . رأى أيضاً ابنتها الجميلة ، والتي لم تكن سوى نسخةٍ منها في شبابها . ” كان يمكن أن تكون تلك الفتاةُ ابنتي ” . . هكذا حدَّث نفسه ، كابحاً خيط دموعٍ وهمي كاد أن يغادر عينيه اللتين بلا ضوء .
بدأ يراقب الأُسرة . كان يتحرك بين الجدران التي شاخت و الظلال الشبحية دون أن يلاحظه أحد . أحياناً يهذب أشجار الحديقة.. أحياناً يترك وردةً تحت وسادة الفتاة المعذبة كي تعيد لها الأمل في أن حبيبها الذي تركها ربما يكون قذف بها إلى شرفتها . حتى الزوج .. منحه أموالاً وجدها ملقاةً في أحد أركان غرفته المعتمة . كان يعرف أنه يحب المال. كان يراه و هو يتشمم الأوراق النقدية ، فترك له ما وجده من مال في جيب صديريته ، و رآه ــ في لحظة سعادةٍ نادرة ــ يشكر السماء التي أتت إليه بمال ليس في حاجةٍ له . وحدها ربة البيت ظلت وحيدةً .. فلم يكن قادراً على خداعها لأنها كانت تعرف اللعبة . كانت سعادتُها الوحيدة أن يظل موجوداً .. ألا تستيقظ ذات صباح لتُفاجأ بأنه ترك غرفته و عَبَر الحديقة بخطواتٍ واسعةٍ و أزاح البوابةَ الثقيلة ليتنفس مرةً أخرى هواءَ عزلته .
كان هو كاتم أسرارها الوحيد ، رغم أنها بلا سر . تعودت كل مساء أن تهبط إليه في غرفته بعد أن ينام البيت ، لتتحدث إليه بصوتٍ هامس . و رغم أنها لم تكن ترى وجهه ، و لم يكن يبادلها الحديث، إلا أنها كانت قانعةً تماماً بتلك المتعة .. و خصصت يوماً في الأسبوع لتتحدث عن ذكرياتها معه ، مستدعيةً سرابات غرامها المفقود .
في اللحظة التي أصابه فيها السأم تماماً ، كانت المرأةُ قد أفرغت أحشاءها من الذكرى . تعوَّدته حتى صار حضوره الغائب أليفاً .. و بدأت دموعها تتحول معه إلى ضحكات .انشغلت عنه فجأة ، مرة بزيجة ابنتها ، التي قالت نعم لرجلٍ لا تحبه.. و بسفر ابنها ، الذي أراد أن يرى العالم بعيداً عن عيني أبيه .. و بمرضٍ غامضٍ أصاب زوجها فصار يحلم كثيراً بأنه يرفرف ، فيخرج إلى السطح و يسقط كل مرة على أعشاب الحديقة دون أن يموت . و بعيداً عن كل ذلك ، انشغلت المرأةُ بموتها الشخصي الذي أحست به يفتح بوابة البيت مُتجهاً نحو غرفة نومها .
ترك المنزل ذات صباح ، تاركاً كل الذكريات تسيل بين الجدران ، و عاد إلى العتمة الوحيدة التي تعوَّدتها عيناه .. حيث تكمن مقبرته .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة ( حكاية رجل عجوزكلما حلم بمدينة .. مات فيها) ، تصدر بعد أيام عن دار (نهضة مصر) للنشر والتوزيع بالقاهرة.
* روائي وقاص من مصر
خاص الكتابة