حاوره: حسن غريب أحمد
في زمن تُختزل فيه سيناء في العناوين الأمنية والنشرات العاجلة، وتُروى حكاياتها من خلف المكاتب أو عدسات الأخبار، ينهض صوت أدبيّ صادق، يكتب عن الناس لا عن الأحداث، وعن الحياة لا عن العناوين. إنه الكاتب الروائي عبدالله السلايمة، الذي لا يُعدّ مجرد كاتب مبدع، بل شاهدًا على زمن مضطرب، وصوتًا لأرض طال تهميشها، وذاكرة حيّة تنبض بالمكان وأهله.
يكتب السلايمة من داخل سيناء لا من خارجها؛ تتنفس نصوصه وجع المكان، وتفيض بالحب والحسرة، بالحلم والخذلان، بالشخصيات التي تمشي بيننا، لكنها غالبًا ما تُنسى في سرديات المركز.
في هذا الحوار، نقترب أكثر من عالم عبدالله السلايمة: من مراحل تشكّله الأدبي، إلى هواجسه في الكتابة، وصراعه مع واقع لا يمنح كاتبًا من الهامش فرصة سهلة. نفتح معه أبواب الذاكرة، ونسير على خريطة الكلمات التي رسمها في رواياته ومجموعاته القصصية، لنفهم كيف تتحول سيناء من خبر عابر، إلى أدب باق.
س: كيف بدأت علاقتك بالكتابة؟ ومتى شعرت أنك تحمل صوتًا يجب أن يُروى؟
ج: الكتابة بدأت عندي كحاجة داخلية ، مثل الرغبة في الكلام عندما لا تجد من يسمعك. كنت في مرحلة المراهقة، أكتب في كراسات المدرسة، خواطر وقصصًا قصيرة، ثم اكتشفت أنني أعود إليها كأنني أستمع إلى شخص كان خائفًا من النسيان. شعرت أن هناك شيئًا يجب أن يُقال، ليس عني فقط، بل عن ناس عرفتهم، ومكان لا يُحكى عنه إلا حين يشتعل.
س: ما الذي شكّل وعيك السردي المبكر؟ وهل هناك كتّاب أثّروا فيك؟
ج: بالتأكيد. تأثرت كثيرًا في البدايات بنجيب محفوظ، ثم قرأت ليوسف إدريس و مينا حنا وإبراهيم الكوني، وأعجبت بكتاباتهم. لكن في مرحلة لاحقة، شعرت أن المكان هو الذي يصنع لغتي. سيناء كانت دائمًا في الخلفية، تحرّضني على الصدق لا على التقليد.
س: في كل نصوصك، تحضر سيناء كروح حاضرة. كيف ترى علاقتك بها ككاتب؟
ج: لا أستطيع أن أفصل بيني وبين سيناء. سيناء ليست مجرد جغرافيا، هي الذاكرة والصوت والمشهد والألم. عندما أكتب عنها، لا أكتب من باب الواجب، بل من باب العشق. أحيانًا أشعر أنني أكتب لأن المكان لا يستطيع أن يصرخ، والناس صمتوا كثيرًا.
س: هل تؤثر الظروف الأمنية والسياسية على الكاتب في سيناء؟
ج: جدًا. أحيانًا تشعر أنك تكتب من داخل صمت ثقيل. لا أحد يريد سماعك، أو لا يعرف كيف يسمعك. هناك خلط دائم بين الأدب والسياسة، وبين الراوي والمحلل. وهذا يُرهق الكاتب ويعزله، لكنه لا يُثنيه.
س: هل هناك فجوة بين المثقف السيناوي والمركز الثقافي في القاهرة؟
ج: نعم، ولا تزال قائمة. هناك دائمًا نظرة شفقة أو استغراب، أو رغبة في تصنيفنا كـ” أدباء مناطق نائية!” أو كـ”أدباء أقاليم!”. نحن لسنا كذلك، و لا نطلب أكثر من أن يُقرأ ما نكتب كأدب، لا كحالة استثنائية. الجسر لا يُبنى من طرف واحد فقط..
س: في أعمالك، ثمة انحياز واضح للمهمشين. هل تراها مسؤولية أم قناعة؟
ج: لا أفصل بين الاثنين. أنا أكتب عنهم لأنني منهم، ولأنهم لا يجدون من يكتب عنهم. ليست البطولة أن تحكي عن الحرب، البطولة أن تحكي عن الحياة تحت ظل الحرب
س: في رواية “شمال شرق”، العنوان يحيل إلى الجغرافيا، لكنه يلامس التهميش. كيف جاءت الفكرة، وكيف تعاملت مع بناء الرواية؟
ج: العنوان يحمل كل ما أردت قوله: أنني أكتب من موقع مهمّش جغرافيًا وثقافيًا، شمال شرق مصر. أردت أن أقول إن هناك أدبًا يُكتب من الهامش، لكنه لا يقل أهمية عمّا يُكتب من المركز.
الفكرة وُلدت من الرغبة في أن أدوّن الوجع الذي عشناه نحن، أهل هذه الأرض، لا كما يراه الآخرون، بل كما عشناه فعلاً.
أما كيف تعاملت مع بناء الرواية؟ فقد كنت أكتب وأتنفّس في آن. الرواية ليست عملًا تخييليًا بالكامل، بل فيها الكثير من السيرة الذاتية “الغيرية”المضمَنة، لكنها ليست سيرة بالمعنى الضيق. اعتمدت على تفكيك الزمن، وعلى التذكّر كفعل مقاومة للنسيان، وكتبت عن شخصيات رأيتها، وعشت معها، أو سمعت عنها في ليالينا الطويلة في شمال سيناء.
س: “سنقرئك فلا تنسى” عنوان لافت ومحمّل بالرمزية. كيف وُلدت هذه الرواية، و ما سرّ اختيارك لهذا العنوان؟
ج: الرواية وُلدت من رحم الألم. كنت أتابع ما كان يحدث في رفح من إرهاب، ثم حرب الدولة على الإرهاب، وكنت أسمع قصصًا مؤلمة من الناس هناك. شعرت أن القصة أكبر من مجرد واقع، وأن علينا أن نحفظ أثرًا إنسانيًا. فكانت هذه الرواية
كتابة هذه الرواية كانت أقرب للبوح منها إلى الرواية التقليدية. كنت أبحث عن معنى للحياة وسط الفقدان. العنوان اقتبسته من القرآن الكريم، لكنه في السياق الأدبي يشير إلى فعل “الوصية” كفعل مقاومة للنسيان. وصية الأب إلى ابنه أن لا ينسى الأرض، أرض الآباء والأجداد. أردت أن أقول ذلك، وأكثر.
س: هل كانت شخصيات الرواية واقعية؟
ج: بعضها. لكنني ألبستها من الخيال ما يكفي لأن تُصبح حكاية. بعض الشخصيات مستلهمة من نساء حقيقيات، من رجال التقيتهم، من وجوه رأيتها. كنت أوثّق العادي واليومي، لكن بعين من يعرف أن هذا “العادي” مهدّد بالزوال.
س: في المجموعة القصصية” هناك حيث أنا”، نلمح ذات الكاتب في القصص. إلى أي مدى تمثّلك هذه النصوص؟
ج: إلى حد ما. بعضها وليس جميعها. كتبت قصص المجموعة على فترات متفرقة، لكنها تشبهني. فيها وحدتي، خوفي، دهشتي، حبي للناس، وغضبي أحيانًا.
س: ما القصة التي تعتز بها في هذه المجموعة؟
ج: قصة “سيجارة، لأنها كانت أول نص أكتبه بعد انقطاع طويل. كتبتها كأنني أعود إلى الحياة، بعد أن ظننت أنني فقدت اللغة. وما زالت تمثّل لي لحظة خاصة جدًا.
س: هل تكتب بدافع ذاتي فقط؟ أم تفكر أحيانًا في القارئ؟
ج: في البداية أكتب لنفسي، لأفهم، لأتنفّس. لكن بعد الانتهاء، أبدأ في التفكير في القارئ: هل سيفهم ما لم يُكتب؟ هل سيرى ما بين السطور؟ لا أكتب لإرضائه، بل لاحترامه.
س: هل واجهت صعوبات أثناء كتابة أو نشر أعمالك الروائية والقصصية؟
ج: بالتأكيد. الصعوبة الأولى في أن تكتب عن منطقة حساسة كسيناء، محسوبة فقط على التقارير الأمنية، لا على الأدب. وتخضع الكتابة عنها لخطوط حمراء.. على الكاتب عدم الاقتراب منها..! كنت أعرف ذلك، و رغم ذلك، يفلت، احيانًا، زمام الكاتب من يدي ويلامس هذه الخطوط الحمراء…
كما أعلم أن القارئ سيأتي محمّلًا بصورة نمطية عن سيناء. وكان التحدي أن أغيّر هذه الصورة من الداخل.
أما النشر، ليس سهلًا، خاصة أنني لست من “الأسماء اللامعة” في الوسط الثقافي.
س: كيف ترى المشهد الثقافي في سيناء اليوم؟
ج: هناك محاولات، وهناك أصوات شابة مبشرة. لكن ما زال الدعم غائبًا، وما زلنا ننتظر أن تعي الدولة أن الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة. الكتابة ليست مجرد فعل إبداع، بل فعل نجاة.
س: ما النص الذي تتمنى لو كتبته؟
ج: هناك نصوص أراها في اليقظة والمنام، ثم تختفي. ربما تظهر يومًا ما، واكتبها قصصًا قصيرة. لكنني دائمًا أتمنى أن أكتب نصًا روائيًا عن سيناء، النص الذي لا يُنسى كما يُقال. و أتمنى أن يحمل النص الذي أكتبه الآن بعضًا من هذه الأمنية الكبيرة
س: ما الذي يتناوله كتابك “مقامات الكتابة؟”، وكيف ترى قيمته ضمن مشروعك الإبداعي؟
ج: “مقامات الكتابة” هو محاولة للاقتراب من بعض التجارب الأدبية المصرية التي أثرت المشهد الثقافي، لكنه ليس كتابًا نقديًا تقليديًا، بل مزيج من التأمل والسيرة والانحياز الإبداعي.
فيه أتتبع سيرة ومسيرة عدد من الكتّاب الذين تركوا أثرًا عميقًا في الكتابة المصرية، كلٌّ بطريقته ولغته ورؤيته، وأسعى إلى أن أضيء جوانب إنسانية في تجاربهم قد لا تظهر في التقييمات النقدية الجافة.
الكتاب بالنسبة لي هو تحية وفاء وقراءة من الداخل، حيث تتداخل القراءة بالسرد، والانطباع بالمعايشة، والنص بالكاتب.
أراه امتدادًا طبيعيًا لاهتمامي بالكتابة كحياة، وبالكتّاب ككائنات هشة ومضيئة في آن. هو أيضًا محاولة للحفر في الذاكرة الثقافية، لا بوصفها أرشيفًا، بل كمرآة لحاضرنا وراهن أسئلتنا.
س: من هو عبدالله السلايمة خارج الكتابة؟
ج: إنسان بسيط، يحب العزلة والقهوة وسماع الموسيقى، والاستمتاع بصوت فيروز الملائكي باستمرار، ويؤمن أن الحياة دون حكاية لا تُطاق.
س: ماذا تقول للمبدعين الشباب؟
ج: أقول: لا تنتظروا اعترافًا من أحد. اكتبوا لأن الكتابة وحدها تُنقذ. احكوا حكايتكم، لا ما يُطلب منكم أن تحكوه.





