حاوره: أحمد سراج
ذاتَ يومٍ عبرَ “زريابُ” وحيدًا إلي الأندلس باحثًا عن حياته الحقة وهربًا من جحيم مطاردة فنه وحصاره، حالمًا بأرضٍ تكون فضاءه الحر، فكانت وكان لها المغير والمحرك لتتفوق علي المشرق العربي الذي كان لا يُباري، ليس في الموسيقي وحدها بل في كل ما يتعلق بالجمال ومظاهرة..، ومن قبله عبر عبدالرحمن الداخل »صقر قريش» وحيدًا مطاردًا من زبانية الدولة الناشئة في بغداد، التي أخرجت جثث أهله وصلبتهم، وتعقبت الأحياء وأبادتهم، لكن الداخل حاز الأندلس وجعلها ملء السمع والبصر بعد أن كانت في وحل الحروب الأهلية، وجعل قرطبة حاضر العالم وكعبة العلماء والفقهاء والشعراء.
خرج العرب من الأندلس وبدأت قرون العداء المروع، وشيئًا فشيئًا انتبه الإسبان إلي وجه مضيء في الحكاية؛ وشيئًا فشيئًا بدأوا ينظرون للفتح العربي علي أنه حلقة في سلسلة المعابر بين الشعوب، لكننا وقفنا علي أطلال الفردوس المفقود، لا نتجاوز بحر الزقاق إلا لنبكي علي المعتمد ونسمع ابن زيدون وننقد ابن أبي عامر.. لم ندر أن مياهًا جديدة تجري في النهر.. حتي عبر عبدالهادي سعدون قادمًا من العراق إلي إسبانيا حاملاً وعيًا جديدًا ورؤية ناضجة عن التعايش والاندماج، وتقديم صورة إنسانية للثقافة والفنون.. وعلي مدار عقود من العمل الرابط بين الثقافتين شعرًا ورواية وقصة وترجمة ونقدًا يقدم سعدون في دأب شمس لا تكل عن الظهور، وفي عطاء نهر لا يكف عن زرع الخصب والنماء.
“قدرة شاعر العراق علي المزاوجة والتقابل ما بين عالمين، خطوة جديرة بالتقييم والقراءة الجادة” كيف تستعيد وقع هذه الكلمات حين سمعتها لأول مرة؟ ومتي تشعر أن نصك قرئ كما ينبغي?.
الحقيقة أنني ما زلت أكتب إلي اليوم مع إحساس متطاول بأن يكون كل شيء في نصوصي جديرًا بالتقييم والقراءة الجادة، ولكن أن يكون هذا في الواقع شيئًا حقيقيًّا أو ما يقارب من التمني، فلست أعرف بالأمر ولا قدرة لي علي التخمين.؟ لكنني مع كل مرة أسمع ذلك في تقديم لي أو لعمل من أعمالي الأدبية سواء باللغة العربية التي أكتب بها كل نصوصي تقريبًا أو بالإسبانية في بعض الأحيان، يجعل مني مسئولًا أبديًا عما يقترفه رأسي وما يسطره خيالي في كتب. لا أبالغ إن قلت إنني كنت وما أزال محظوظًا بوجود قارئ نبيه لأعمالي ووجود أصدقاء ونقاد وأدباء يكنون لأعمالي التقدير وهذا بحد ذاته يكفيني لا سيما معرفتي بالأصوات الحقيقية التي تنبهني لذلك. العالمان اللذان أدور فيهما هما في الواقع عالم واحد هو عالم خيالي وملكتي الكتابية حتي لو جاءت بالعربية أو بالإسبانية، ففي كل الأحوال لا فرق إن كتبت بهذه أو بتلك لطالما النتيجة مماثلة لمناخاتي الكتابية وقدرتها علي التعبير والممارسة والتواصل.
أنت الآن تجاوزت جهل مخترق الغابة الأول بما فيها، وأخذت نفسك من شَدِهِ اكتشاف الأراضي البكر.. فكيف تري الإبداع؟
اختراق الغابة يتم كل يوم وفي كل عمل جديد، وصدقني لا أقول هذا لاعتبارات دعائية، وأنت تدرك ذلك مثلي، الفرق..إنك مع الخبرة المتراكمة تصبح أكثر خوفًا ووجلًا من أنك لا تقوم بالإنجاز الأنسب. في كل عمل وفكرة جديدا هناك ورقة وفكرة بكر لا يملؤها مضي الزمن والخبرة فحسب، بل الجهد المستمر والرغبة الحقيقية بأهمية هذا الإنجاز وإلا فالأفضل البقاء علي ما كتبت من فترتك الأولي. لهذا السبب نفسه نكون قد مللنا من متابعة أديب بعينه لأنه لم يعد يأت بالجديد وكأنه لم يفارق نصه الأول ذاك… الأرض شاسعة وكل خطوة فيها مفاجئة جديدة ورغبة بالتجديد أكبر. ليس هنا معني حقيقي لأدب فارغ يتعكز علي الإنجازات الأولي.
أما زلت تحلم بأن يذكرك قارئ بكتاب؟ وأي كتبك تراه أجدر بذلك؟
الكاتب إنسان عاطفي حتي لو رفض ذلك قطعًا، ويتكل اتكالا كليا علي قارئ هو في المحصلة إنسان عاطفي أيضًا. من هنا حلم الاستمرارية في ذهنية القارئ حتي لو في كتاب واحد أو نص وحيد وهو ما يحصل معي إلي درجة تشكلت في ذهنية المتلقي كرغبة عميقة هي في الواقع أكثر من أمنية ورغبة لأنها العنصر الأساس في ديمومة أي كاتب أن يجد نصه حيًا علي مر السنين. الحقيقة أنني في كل يوم أشعر بالإحباط من جدوي الأعمال الأدبية، ولكنني بعد فترة وأنا في صراع كتابة شيء جديد أكون قد نسيته تمامًا لأتفرغ لأمل آخر متجدد. أن تحلم بوجود قارئ افتراضي ينتظر كتابك الجديد هو قمة البحث عن عشبة الخلود في ذهنية البشرية، وكل منْ يكتب له الإحساس نفسه وإن كان التفكير به بطريقة مغايرة. أما عن كتابي الأكثر حضورًا في داخلي فربما أحيلك إلي كتابي القادم وهو ما يمكن أن يكون الأهم أو الأسوأ، لذا سأنتصر بشيء من العبثية الكتابية وأحيلك إلي نصوص (انتحالات عائلة) القصصية.
بين أجناس الأدب تنتقل، وزدت علي ذلك الترجمة.. فما الذي يحكم اختيارك لتكتب هذا النص بهذا الجنس؟
لقد قلت في أكثر من مناسبة إنني أفضل أن يسموني كاتبًا بدل التوصيفات الأخري المؤطرة بالشعر والقصة والرواية والنقد وما إليه. وهو ما أشعره حقًا. أعرف أن عصرنا الحالي لا يحتمل التنويع ولابد أن توضع قسرًا في خانة ما بدلًا من أخري. ولكنني أقولها لك إنني أجد صنعتي الكتابية متفرعة في كل هذه الأجناس الإبداعية ولا ضير أن يختار القارئ والناقد ما يراه جديرًا في كتاباتي واحدة عن الأخري، أن يعترف ببعضها ويتجاهل الأخري، فلا مجال لأن تكون ناشطًا في كل الأجناس الإبداعية، لا بد من وقعة هنا وهناك وتنشيط هنا وهناك وكلها تقع في حيز القدرة علي الكتابة نفسها. لا أحكام عندي لنص علي نص آخر إلا بقدرته علي إقناعي بكتابته بهذه الصيغة عن صيغة أخري، من هنا كتبت في الشعر والقصة والرواية والبحث، كذلك الترجمة التي تجيء مكملة لمذاقي كقارئ ورغبتي كمثقف ومترجم لنقلها للغتنا. الكاتب كائن جمعي وهذا ما أدركه وأقتنع به منذ زمن بعيد.
في روايتك “مذكرات كلب عراقي” هل انحزت للانتهاك بجعلك بطل النص كلبًا.. أم سرت علي خطا التراث العربي في كليلة ودمنة وأمثال الجاهلية علي لسان الحيوان؟
روايتي “مذكرات كلب عراقي” أتعبتني جدًا قبل أن أجد لها هيكلها الخاص. كانت رغبتي أن أكتب عن العراق المعاصر من داخل العراق الذي تركته بعد حرب الخليج الأولي، فكل كتاباتي الأخري هناك مزاوجة ما بين مناخين هما مدريد وبغداد، في هذه الرواية أردت أن أري بعيني (ليدر) الكلب العراقي ما جري ويجري في بلدي الذي تناوشته المحن والتسلط والحروب والاحتلال. أما لماذا بعيني كلب، فهذا ما لا أعرفه تمامًا إذ إن الجملة الأولي علي لسانه تجهزت برأسي قبل كتابة الرواية بأكثر من خمس سنين قبل أن أجلس لأسطرها. ثم كان سؤالي التالي لو كتبتها علي لسان فرد ما الذي سيفرقها عن الكم الهائل من الأعمال التي تناولت الفترة نفسها. من هنا الانطلاقة ومن هنا اللعب الروائي علي لسان كلب يعيش ظروف العراقيين أنفسهم ويكتوي بنارهم، ومن هنا مساحة الحرية في التطرق لمواضيع وحالات غريبة مر بها، وهي علي كل حال إحالة للرواية الشطارية وحكايات المقامات والتراث الأدبي علي ألسنة الحيوانات، ليس عند العرب فحسب بل ما جاء في أعمال عالمية أخري قرأتها واطلعت عليها قبل أن أنجزها، ومنها أثر ثربانتس الواضح عبر نموذجه الروائي المذكور بكثرة في الرواية. الكلب (ليدر) بطل الرواية هو في الحقيقة وجهنا الآخر في ظروف القهر البشري حتي لو جاء قهره وشكواه علي هيئة نباح متصاعد.
الشعر العربي في أزمة.. لماذا؟ وهل يعانيها الشعر في العالم؟
الشعر عمومًا في أزمة تلقٍ لأنه أصبح أدب الأقلية، وهذا ليس جديدًا، فتطور ماكينة الإبداع عبر العصور أزاحت أجناسًا أدبية لصالح أخري، والحال في وضعنا العربي لا يختلف إطلاقًا عن وضعه في إسبانيا أو إنجلترا أو السنغال كمثال إلا بدرجات متفاوتة. لم يعد الشعر – منذ عصور بعيدة – ديوانًا للشعوب، وهذا التطور طبيعي وأراه في صالح الشعر نفسه لأنه يمنحه إطاره الخالص. لم يعد الشعر بوقًا للقبيلة أو محركًا جماهيريًا فاعلًا بل أصبح كما عليه أن يكون درة الأدب ونخبه الأزلي. الأزمة ليست في كتابة الشعر وهذا ما يجب أن ندركه، بل الأزمة في النشر كعامل تجاري ربحي، والشعر قد تخلي عن هذه الصفة منذ فترة طويلة. الشعر بخير، والأزمة بعيدة عن روحيته التي استمرت وستستمر حتي لو بقي قارئ واحد وشاعر وحيد في هذا العالم.
هنا أنشأ صقر قريش قرطبة حتي لا تظل نخلة عربية وحيدة.. فأي مدينة بنيت؟
أنا يتيم مدن، فلا مدينة أجدني فيها، بل حتي إنني أري المدن شبيهة الواحدة بالأخري بالنسبة لي، فأتخبط بينها مثل أعمي بلا دليل. عشت في بغداد واليوم أعيش في مدريد، وزرت أغلب مدن العالم المعروفة ولم أحظ ببقعة أشعر فيها بنفسي حقيقة. قد يكون هذا سببًا في نفسيتي وطبيعتي، أنا مدرك لذلك، لهذا أدمج المدن جميعًا في نصوصي لكي أجمعها في مدينة واحدة خاصة بي… لذلك يمكنني القول أن المدينة الوحيدة المشيدة والتي أبنيها حجرًا بعد آخر هي مدينة خيالي في كل الكتب والممارسات الإنسانية التي أقوم بها، وحتي هذه لم أرها مكتملة بعد ولا تشي بصورة واضحة بعد، هل هو البحث عن الكمال والاستحالة فيه؟ لا أعرف..! ما أعرفه أني مستمر بنحتها وتشييدها وأملي الوحيد هو في هذا الجانب الأدبي والإنساني لا غير. أرجو ألا أكون مخطئًا في تشييدي.
منذ حداثتك الأولي وأنت مولع بالإسبانية.. فما دوافع ذلك؟ ولم استقررت في إسبانيا منذ مقتبل العمر في 1993؟
الإسبانية درستها في العراق وأنقذتني بلغتها وآدابها من محنة النفي والتشرد بأن أتاحت لي أن يحتضنني بلدها وأن يتيح لي الاستزادة منها ومن التطلع لها في منبعها حتي الوصول للشرب منه مثلي مثل أبنائها. لم أجد لبلد ولغة مثل العربية التي منحتني الولادة الحقة، غير الإسبانية كلصيق وبديل ومرادف تعلمت منها وصقلتني بعوالمها ونغمتها وجذرها المتمكن. كل يوم أشكر مصادفة دراسة الإسبانية أدبًا ولغة لأنها قد أنقذتني وسهلت لي حرية العيش والتفكير والتطور طوال أكثر من عشرين عامًا بين ناسها ومدنها. هذه الصدفة لولاها لما عرفت حقًا كيف سيكون تاريخي القصير وإلي أية وجهة كنت توجهت. اليوم أنظر لها وكأنها تجربة تعود لفترة بعيدة نسبيًا، ولكنها الحقيقة هي تلك اللحظة المكررة والمعادة لوصولي لها والنوم علي فراش فيها مع ابتسامة خلاص أبدي وإنقاذ غير محدد. الإسبانية وآدابها (في إسبانيا وأميركا اللاتينية بالطبع) زادي اليومي والجذع الذي أستند عليه بعد العربية وثقافتها.
تفضل أن تدعي مترجمًا هاويا – رغم احترافك علي مدي ربع قرن، فكيف تعمل؟ كيف تختار ما تترجم؟
أقول إنني مترجم غير محترف لأنني غير متعاقد مع أية مؤسسة ولم أسع بالمرة للوصول لمؤسسة معينة من أجل نشر ترجماتي، ثم هناك الشق الثاني من السؤال أنني لم أترجم ما يفرض عليّ من ترجمات، والهدف الأول والأخير هو اختياري الشخصي وذائقتي كقارئ مهتم بالأدب هو ما يحدد اختياراتي. ولو حسبنا الأمر بالسنوات، فما ترجمته لا يعادل ولو جزءًا يسيرًا مما قرأته وحلمت بترجمته، ثم إنها سنين طوال مع اللغة والأدب المكتوب بالإسبانية وجل ما فعلته أنني كنت مواكبًا وحريصًا علي توصيل البعض مما أعجبني مع إدراكي أنه قليل وعلي الآخرين أن يسعوا مثلي لإكمال ما تبقي. لا دور كبير لواحد مثلي يعمل برغبته غير جمعها مع تجارب أخري مشابهة لتكتمل الصورة والإنجاز، وهذا ما أراه وأعتقد به منذ بدأت التجربة الأولي.
ترجمت الأغاني الغجرية للوركا في سلسلة المائة كتاب ترجمة بدا منها الجهد الموسوعي والرؤية الواضحة.. لماذا اخترت أن تفعل هذا فيما يشبه الإهداء للقارئ المصري.
الفكرة جاءت من السلسلة نفسها ممثلة برئيس تحريرها آنذاك الأستاذ الشاعر رفعت سلام، والهدف نقل الأعمال المائة الأهم في عصرنا من لغاتها الأصلية إلي اللغة العربية. معرفته بترجمتي السابقة للوركا وبخاصة أجزاء كبيرة من الأغاني الغجرية هو ما فكر به وشجعني علي قبول الفكرة. سبق أن ترجمت للوركا العديد من القصائد المتفرقة من دواوين مختلفة، ولكن فكرة ترجمة الأغاني الغجرية ترجمة شعرية جادة ومتمكنة لإهدائها للقارئ المصري والعربي جاءت حقيقة بسبب مارأيته من نقوصات وتحويرات في الترجمات السابقة التي نقلت نصًا لوركويًّا مغايرًا تمامًا عن الأصل. لا أدعي أبدًا أن ترجمتي الأفضل، ولكنني حاولت عبرها أن تكون الأكثر قربًا للأصل الإسباني والأكثر التصاقا بالروح الشعرية والإنسانية لشاعر عظيم مثل لوركا، نعرف العديد من أعماله إن لم أقل كل أعماله، والمؤسف اننا نعرفها مشوهة وناقصة عن الأصل.
ها أنت تختار عن العربية قصصًا إيروتيكية وتترجمها إلي الإسبانية.. فما دافعك لذلك؟ أتشعر أنك صرت إسبانيا أم تري أن المترجم قادر علي الترجمة العكسية؟ وينطبق السؤال علي تأليفك نصوصًا بالإسبانية: “الكتابة بالمسمارية”؟
لا أبدا، أنا مع ترجمة النص من قبل ابن اللغة نفسها ولا أحبذ التجاوز إلا في حالات محددة. ترجماتي التي تفوق العشرين كتابًا كلها من الإسبانية إلي العربية. أما ترجماتي من العربية إلي الإسبانية، كانت ضمن حالة خاصة لم أستطع معها إيجاد حل مقنع، كما أنني عرضت الأمر علي أكثر من مستعرب ولم يحبذوا الفكرة، فوجدت أنه لا بد منها حتي لو جاءت بعدم اقتناع تام. المهم كان نقل التجربة بكل حيويتها وأهميتها والتعريف بها لدي قارئ إسباني نهم. بالنسبة للقصص الإيروتيكية فهي منتخبات شخصية وكتابة ثانية للحكايات الإيروتيكية العربية المنتخبة من أمهات كتب الباه التراثية، عملتها بادئ الامر في ملف بالعربية كمشروع مستقبلي لنشره مع مقدمة تحيل لكون قراءة هذه القصص مستقلة وكاملة بمنأي عن الكتاب الأصل. بعد ذلك جاءت فكرة ترجمتها إلي الإسبانية بتشجيع من صديق ناشر. لا أدعي انني كاتب بالإسبانية أبدًا ونصوصي المنشورة بالإسبانية هي إما بترجمتي عن نصوص سبق ونشرتها بالعربية أو كتبت في حالات خاصة لمناسبات أو تكريم محدد كما عليه مجموعتي (دائمًا) التي حازت علي جائزة أنطونيو ماتشادو الشعرية العالمية عام 2009، وبعض القصائد والنصوص المنشورة في (الكتابة بالمسمارية).
هل ما ينقص الإسبان هو معرفة التاريخ الإيروتيكي العربي.
ينقص الإسبان والمهتم بالآداب العربية والمشرقية الكثير مما عندنا ولا يستطيع تحصيله بسهولة. إن ما ينشر من آدابنا وثقافاتنا بالإسبانية لا يعادل نسبة 5 بالمائة مما يترجم من آداب دولة إسكندنافية لا يتجاوز عدد سكانها الواحد بالمائة من سكان العربية. لذلك أجد أي تعريف ونقل من آدابنا للغة الإسبانية هو إنجاز مهم وضروري. آدابنا الإيروتيكية أو كتب علم الباه التراثية لا يعرفها القارئ الإسباني إلا منذ فترة قريبة جدًا. (الروض العاطر) مثلًا ترجموه عن الإنجليزية وهي ترجمة غير دقيقة علي أية حال مع الأصل. في الآونة الأخيرة نشرت أكثر من ثلاثة كتب مترجمة لأهم كتب الباه العربية وهذا إنجاز جدير بالتقدير من قبل مستعرب نشط صديق هو أنياكي غوتيريث. أما كتابنا عن الإيروتيكية فلا يعد سوي تذكير بهذه الآداب من حيث إعادة التجميع والقراءة والإشادة بها، ومن ثم حث المهتم والقارئ في البحث عن الأصل والكتب الأخري، وهي منتخبات حديثة منقولة بلغة معاصرة كي تصل لأكثر عدد ممكن من القراء والباحثين، ولا ترجو من ورائها سوي التذكير بغني وثراء وتنوع آدابنا العربية الإسلامية وفي كل علوم الإنسانية.
علي ذكر الإنسانية.. مَن مِن كتابنا القدامي تراه كذلك؟ ولأننا الآن وهنا.. فمن من كتابنا الآن تراه كذلك؟
القائمة ستطول، وكل يوم أكتشف من قراءاتي للتراث العربي أن هناك أسماء تطال أفضل الأسماء العالمية الممجدة من قبل الجميع، بينما أديبنا لم يسمع أو يقرأ له من أبناء لغته إلا القليل. ثم تعال نعدد، فلا بأس بالتعداد حتي لو نسيت الكثير منها: الجاحظ القمة في التنوع والتأليف والأصالة وفي كل أعماله دون تحديد، أبو حيان التوحيدي، السيوطي، المتنبي، ابن الرومي، المعري، مؤلفو ألف ليلة وليلة، مؤلفو المقامات وكليلة ودمنة، إلخ.. ولو عدنا للفترة الحالية فستكون القائمة مليئة هي الأخري بأسماء شعراء وقصاصين وروائيين وباحثين لا أعتقد أنهم بانتظار الإشارة مني كي يكونوا في مرتبة أهم الأصوات الأدبية والإنسانية في العالم، ولو توقفت عند أحمد شوقي والرصافي وطه حسين والجواهري ونجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان كأمثلة عن القرن العشرين لعرفت ما أعنيه بصفة الأديب الإنساني.
يبدو لي أن لديك مشروعًا في ترجمات الشعراء الإسبان.. وأنك تسعي لترجمة المعاصرين وغيرهم علي حد سواء.. فإلي أي مدي يقترب ما بدا لي من الصحة؟
ترجمة الشعر الإسباني المعاصر كانت وستظل من بين مشاريعي المستمرة، وأوائل الكتب كانت لشعراء في كتب مستقلة أو منتخبات شعرية تطال أجيالا وعصورا طويلة والتي نشرت منها منتخبات لما بعد الحرب الأهلية الإسبانية وحتي اليوم، وفي الأمل المستقبلي القريب أن أنشر أنطولوجيا قرن ونصف من الشعر الإسباني وهي أنطولوجيا ضخمة تشمل بداية القرن العشرين حتي اليوم. غير ذلك نقلت للوركا وأنطونيو ماتشادو وبيكر وخوان خمينث والبرتي وبيثنته ألكساندر وبورخسوخلمان والعديد من الأسماء التي لا تحضرني الآن، ناهيك عن كتب كاملة لشعراء إسبان وأميركيين لاتينيين أحياء معاصرين لنا.أعلم كما ذكرت سابقًا ان الشعر أدب القلة ولكن بموت الشعر أو عدم قراءته معناه موت الرقة والشعور بالإنسانية ونبض الكلمة الموحية. كما أنني أشعر بدين كبير للشعر وبخاصة في قراءاتي ومراني منذ سني الترجمات الأولي. غير هذا تهمني ترجمة الاعمال الروائية الحديثة والدراسات التي تتناول الأدب نفسه أو آثار الشعوب الشعبية.
منذ متي بدأت الهاوية التي يعانيها العرب الآن؟ وهل من خلاص لها؟
الهاوية التي نرقد فيها بدأت عندما لم نعد نحتكم للمنطق والتطور الطبيعي للعقلية البشرية. وعندما بدأ الظلاميون بتقييد حرياتنا عبر وسائل متعددة من التسلط والفرض القسري. الشعوب التي لا تمتلك قاعدة مدنية متينة حيث يتساوي الجميع بعيدًا عن فكرهم وعقيدتهم وانتماءاتهم الفكرية لا يعول عليها وستبقي في اندحارات بعد أخري. ويجب الاعتراف أن الفكر النهضوي والمعادل الإنساني لم يصل بتأثيره ومحتواه إلي ما توصلت له سحريات القوي الدينية والسياسية التسلطية. نعرف أن كل الشعوب مرت بهذا العلو ومن بعده الحضيض لتقوم من جديد وفق رؤية أخري مناسبة لتقويم مجتمعاتها، وهذا ما نحتاجه نحن. عندما وصلنا إلي القاع لم تقم فينا أية بذرة تحرك حقيقية ولا أري في الأفق ما يحيلنا لها، ثم إن العصر الحديث عصر مصالح وتأثيرات خارجية وإقليمية تؤخر بنا أكثر مما تساعدنا علي التقدم والخروج من النفق. الخلاص الوحيد الأوحد برأيي المتواضع هو عندما نصل لمعادلة مهمة في رؤية مجتمعاتنا وفق التساوي والحرية والمدنية الحقة، أما الأشياء الأخري من معتقدات فكرية وعقائدية ودينية فهي حق شرعي للجميع علي ألا يتداخل وسلطة الشعب وتحرره واختياراته الشرعية.
يمكنني أن أسألك بما يشبه الاطمئنان فأنت تعيش علي أرض اجتازت قرونا من الدم لتصل إلي هذا الربيع الإنساني: كيف يمكن للعرب أن يجتازوا ما فيه؟
الإسبان مروا بعصور دم عصيبة وحقب حضيض متتالية، ليس أبعدها حتي نهايات القرن الماضي بزوال آخر دكتاتوريات أوربا ممثلة بفرانكو وتسلطه منذ عام 1936 حتي 1974. تليه فترة فتح العينين من أجل مستقبل مشترك أساسه الاحترام والدستور والشرعية التي توافق فيها اليمين واليسار، الكنيسة والمجتمع المدني. لكن مع ذلك يجب ألا ننسي أن إسبانيا واقعة في أوربا وليس مثل موقع بلداننا في مناطق ساخنة وذات مصالح اقتصادية كبري، لهذا ليس من الصواب مساواتها بما يحصل في بلدان عربية اكتوت بنار الدكتاتورية لفترة طويلة والتفكير بأننا لا بد أن نكون مثلها ومن الممكن أن نصل لما وصلت له بفترة بسيطة. الحق أن التجربة الإسبانية مثال يقتدي لدراسة الحالة وفهم الظروف والاستفادة من درسها، ولكن ظروفنا كما ذكرت سابقًا أكثر تعقيدًا من مجرد دكتاتورية عسكرية أو تسلط ديني، بل كل هذا الجمع مما أشرت له، والحل الوحيد في مجتمع مدني متصالح يحملنا للخطوة الأولي لربيع حقيقي من أجل تثبيت الأسس والقواعد الصائبة.
كيف تقيم دور قنوات التواصل الاجتماعي في الحياة الإبداعية والثقافية؟
بالطبع قنوات التواصل الاجتماعي بصورة عامة لها من الأضرار والفوائد ما نحتاج فيه لدراسات من أجل إحصائها، فما بالك من تأثيرها علي الثقافة والإبداع عمومًا. علي أية حال بحسبة مدروسة يمكن أن تكون نافعة في هذا الدور إذا ما راقبنا رهانها وتسهيلاتها في الترويج والتواجد والنقاش والمماحكة والتصدي وكلها تساهم بشكل وبآخر بتحريك الحياة الثقافية وإيصالها لأكبر قدر من القراء والمتابعين. أعلم أن هناك من يقول إن الأدب الحقيقي والأديب الحق لا يحتاج لكل هذا، وهو محق، ولكن لكل عصر وله أدواته وناسه وحركاته، وقنوات التواصل الاجتماعي واحدة منها وقد تأتي بعد حين أخري تزيحها لتحل محلها كما جري مع الكثير منها. أقول هذا، مع أنني مقل فيها وأمضي متلمسًا (الحيطة) قدر الإمكان دون أن انتبذ لي فيها ومنها مكانًا قصيًا.
تتصاعد دعاوي غربية عن عدم قدرة المهاجرين علي “الاندماج” وأنهم بذلك يشكلون خطرًا يجب اتقاؤه.. فكيف تري الاندماج الحقيقي؟ وكيف تري هذه الدعاوي؟
هناك فهم خاطئ من قبل الجميع لمعني الاندماج، أقول الجميع في إشارة للمهاجر والمستقبل المضيف. فكل واحد يرغب بأخذ الآخر إلي جهته دون حسبان للعديد من المؤشرات والنقاط الواجب دراستها وفهمها قبل الخوض فيها.لو كان الاندماج هو جر الآخر ومحوه وخلق شخصية أخري له فهو عين الخطأ ولا أعتقد أن عاقلًا يفكر بذلك. أفتكر أن الاندماج هو حفظ للهوية والتطلع لتحسينها من خلال التلاقح والمشاطرة مع الآخر، والآخر بدوره من أجل احتوائه وفهمه والتواصل معه. التأثير والتأثر سمة إنسانية والاندماج يأخذ منها الكثير. غير ذلك يدخل في باب الدعاية والتخويف والتشكي والتطبيل العدائي السافر. الهجرة والمهاجر سمة بشرية منذ عصور بعيدة، ولم أسمع حتي اليوم من قبل مهتم ودارس فاهم في هذه الموضوعة ما يشير لكونها ظاهرة مخيفة ويضع السدود والعوارض أمامها. الخوف من الآخر أيا كانت صفته وثقافته وميوله هو دليل الجبن وعدم الانفتاح. علينا صياغة درس إنساني في الحب والتكافل لفهم أحدنا الآخر، ودورنا كمثقفين ومهاجرين ومتوطنين في ديار أخري غير بلداننا يجعلنا أكثر مسئولية بالتأكيد علي هذه المسلمات الأساسية والعمل عليها في كل يوم.
سؤال يوجعني إذ أطرحه: أسواد الكوفة أكثر بعدًا من الأندلس.. أو أن ما يجري طعنة وستلتئم معيدة المياه لمجاريها؟
أعرف مدي الوجع لأنني مكتو به منذ اللحظة الأولي حتي الآن ولا يبارحني لهبه ولا حرقته. الطعنة أليمة ولكنني بتفاؤل لا أعرف من أين يأتيني أفترض أنها غير قاتلة ولا مميتة. من هنا الأمل بأن نري النور بعد سير عصور في ظلمة نفق. التاريخ مغرض ومهلك ومتغير علي العموم، ولعل ما يجعل البشر هم السادة عبر كلمة الإنسانية والتآخي هو ما ينقذنا من الخراب الآتي. أحن مثل آخرين لصورة طاغية في المخيلة وأرجو لها أن تنتصر ولو في خيالي وتصوري أنا وحسب. لسنا أكثر من وجع مقلق لا فكاك منه نتناوله بجرعات مبسطة عسي ولعل أن يتم تداركه وهضمه بصورة أقل قسوة.
سؤال ساذج.. سعدون كخلدون أسماء أندلسية فهل هي مصادفة؟ أم أنك عدت لمنبع النهر؟
ليس سؤالًا ساذجًا بالمرة. أبدًا.. ربما يكون ما ذكرت ولا علم لي حتي طرحك السؤال. أعرف أن الأندلسيين قد تسموا به كثيرًا وربما راجع لتأثير مغاربي عليهم، ولكن بالفعل يجب عليَّ التنبه لذلك ودراسته. الأندلسيون من مسلمين ويهود تسموا بهذه الأسماء ونقلوها في شتاتهم بعد طرد العرب من إسبانيا، وقد يكون تنقل ليصل إلي العراق موطني. هذا مع العلم أن أبي من جنوب العراق وسعدون اسمه وهو شائع بكثرة في نواحي ومناطق الجنوب العراقي. علينا فرك الصدأ علي العديد من الأسماء لنكتشف خباياها وتاريخها وجذرها الموغل في العمق.
………….
*عن “أخبار الأدب”