حسن عبدالموجود
فى كل مرة قابلنى فيها عادل الميرى كان يشير إلىّ قائلاً: «مين؟!» وكنت أنتفض فى مكانى، وأرفع صوتى صائحاً باسمى، فيتهلل وجهه، ثم يتبادل معى حديثاً، ينم عن تواضع شديد، لكنه مع الأسف فى أول مقابلة جديدة – حتى ولو كانت فى نفس القعدة، يسألنى مجدداً: «مين؟!» وهكذا كنت أضطر للبدء من نقطة الصفر، فيتهلل وجهه مجدداً كأنه يرانى فعلاً للمرة الأولى، لدرجة أننى فكرت فى الاحتفاظ بلوحة تشبه لوحة السيارة مدوناً فيها اسمى، فإذا حدث وقابلته يمكننى أن أعلقها على صدرى!
كنت أفكر أنه ربما يتعمّد إحراجى، لكننى تيقنت بمرور الوقت، أننى ظلمته، وأنه هذا هو عادل الميرى. طفل كبير، مندفع كشلال، وخجول كطفل فى بيت غرباء، يعبّر عن مشاعره بوضوح، قاس أحياناً، وطيب غالباً، بسيط وواضح ويشبه سحابة. لا تعرف متى حطت فى سمائك، ومتى غادرت، وهو يشبه تلك الكراسات التى يدون فيها كل ما مر به عبر سنوات طويلة من حياته، فأصبحت نواة لرواياته المهمة بعد ذلك..
وهذه الحكايات ليست من الكراسات، وليست من انطباعاتى، ولكنها تجسد ذلك الجانب المهم من حياة عادل الميرى نفسه، الموظف، الموسيقى، جراح المسالك البولية، والمرشد السياحى، ولا شك أنكم ستحبون مثلى هذه الشخصية الأسطورية الآسرة..
فى طفولته ومراهقته كان عادل الميرى محروماً من حرّية الحركة حتى وقت متأخر، لذلك كان خياله خصباً. حتى سنّ دخول الجامعة عانى من انعدام ثقة الأب والأم فى كل العالم المحيط به، هو وشقيقه الوحيد، إلى درجة تبدو له الآن مرضية. كانت أمّه تحذّره من كل الأشخاص المحيطين به، من الجيران والمدرّسين، وتسأله كل يوم: قابلت مين واتكلمتوا في إيه؟! حتى لو كان من تحدّث إليه هو أحد رجال الدين، ثمّ تمنعه من الذهاب إلى حفلات الكشّافة فى فناء المدرسة، لأنهم سيشعلون ناراً ستحرقه، وتمنعه عندما تكون الأسرة فى الإسكندرية، من الذهاب بالسنّارة إلى البحر لصيد السمك، لأن خطّاف السنّارة سيخترق جلده ولن يخرج منه ولا حتى بالطبل البلدى، وتمنعه من الذهاب إلى حمّام سباحة النادى الرياضى، لأنه حتماً سيغرق هناك.
يحكى: «كانت أمى تحذّرنى بشكل خاص من الحديث مع جنس البنات، كانت توحى لى بأنهنّ شيطانات عفريتات لا يمكن استئمانهنّ على أى شىء. وحيث لم تكن لى أخت، ومُنع دخول صنف البنات من الجيران، ومن بنات الأصدقاء إلى المنزل، تأخّرت خبرات كثيرة فى حياتى، حتى استطعت يوما ما أن أفرض إرادتى على أمى، فقط عندما أصبحت أطول منها».
وقد سبق له أن حكى فى «كل أحذيتى ضيّقة» عن تأثير مشاهدته سنة 1970، وهو فى السابعة عشرة من عمره، لفيلم «السراب» والتشابه الذى بدا واضحاً له مع شخصية نور الشريف «كامل رؤبة لاظ»، المستسلم تماماً لإرادة أمه.
تمكّن أخوه الوحيد من الحصول قبله، على قدر متدرّج من الحرّيات، فكان يهرب من مدرسة «سعد زغلول الإعدادية» بطنطا، منذ سن الثالثة عشرة، ويذهب مع أصدقائه إلى حفلات السينما الصباحية. يقول: «أتعجّب الآن كيف أن طنطا فى منتصف الستّينيات كانت بها عشر دور سينمائية، لا أعرف الآن كيف كانوا يشغّلونها فترات صباحية، وهم يعرفون أن أغلب الروّاد من التلاميذ؟ فى ظلام السينما كانوا يدخّنون السجائر المحلية، ويشربون زجاجات الكونياك المصرى، كان أخى يعود إلى البيت فى نهاية اليوم المدرسى، دون أن يذكر أى شىء عن غيابه عن المدرسة، إلا أن الأخبار كانت تصل إلى البيت مع خطابات تتضمن إنذارات بالطرد بسبب الغياب المتكرّر».
هذا الأخّ الوحيد هو الذى ألهب خياله بحكاياته عن التزويغ من المدرسة ومعاكسة البنات، وأين يمكن العثور على أجمل بنات طنطا، فى أى مدرسة وفى أى شارع؟! وهل من بينهن مشتركات فى نادى طنطا الرياضى؟! بل وصلت الحكايات إلى من هى الشغّالة التى تقبل أن تستجيب لرغبات الشباب فى لمسها وتقبيلها، وفى أى بيوت الأصدقاء يمكن لهذا أن يحدث، وفى أى الأوقات، وبأى مقابل مالى؟!
يحكى: «وحيث أننى كنت غير قادر على مقاومة قهر الوالدين، غرقت فى أحلام اليقظة، لكن لم تكن لى أيّة أحلام شبقيّة جنسية، فأنا لن أكتشف الاستمناء إلا بعد سنّ الثلاثين، رغم أننى سأقرأ الكلمة فى كتاب علم النفس، وقد درسناه فى أولى طب طنطا سنة 1972، وكان من تأليف الدكتور أحمد عكاشة، الذى كان يحضر إلى طنطا من القاهرة لإلقاء هذه المحاضرة مرّة كل أسبوع، ثم فى كتاب علم النفس المرضى، الذى درسناه فى خامسة طب عين شمس سنة 1976، وكان كذلك من تأليف عكاشة، إلا أن معنى الكلمة لم يعلق ببالى. كنت غائب الذهن تماماً لا أعرف كيف، والأغرب هو عدم تحدث أى شخص من بين كل أصدقاء ومعارف تلك السنوات الطويلة فى هذا الموضوع البتّة. هذا هو أحد أهم الأدلّة على مدى الانعزال الذى عشت فيه».
كانت أحلامه تخص طموحاته فى الثقافة بشكل عام، وفى القراءة والموسيقى بشكل خاص. كان يمارس فى أحلامه ما كان يقال لهم إنه التسامى بالرغبات المنحطّة، رغم أنه لم تكن لديه رغبات منحطّة. الذهاب بالرغبات إلى مستوى أعلى وأكثر سموّاً. هذا هو ما كان يقال لهم فى الستّينيات، فى اجتماعات الشباب فى مدارس الأحد الكنسية، ويسمّونه بالإنجليزية sublimation، وهو نفس المصطلح المستعمل فى العلوم الفيزيائية، للتدليل على قدرة المادة على الانتقال من الحالة الجامدة إلى الحالة الغازية، دون المرور بالحالة السائلة، كأن يتحوّل الماء من كتلة جليد إلى غاز، دون المرور بالمرحلة الوسطى، وهى أن يكون سائلاً. يعلق: «المقصود كنسياً هو أن تتجاهل رغبات جسدك، وتتحوّل من جسد ترابى إلى روح سماوى أثيرى».
وجد صاحب «لم أعد آكل المارون جلاسيه» و«خيوط أقمشة الذات» نفسه يحلّ فى فرقة المدرسة الموسيقية، محلّ أحمد الحفناوى فى فرقة «أم كلثوم»، فى عزف المقطوعات المنفردة للكمان، فى المقدّمات الموسيقية لأغنيات أم كلثوم فى الفترة من 63 إلى 65 «انت عمرى» و«انت الحبّ» و«أمل حياتى»، وهى المقطوعات التى كانوا يتقدمون بها لمسابقات الموسيقى للمدارس الإعدادية فى تلك الفترة. يقول: «لحسن حظّى كانت أمى قد صدّقتنى، واشترت لى بمناسبة عيد ميلادى العاشر سنة 1963، آلة كمان من محلات بابازيان فى شارع عدلى، كانت من إنتاج تشيكوسلوفاكيا وتباع بسبعة جنيهات. وقد ساعدنى أبى كذلك بأنه كان يدفع لى ثمن دروس خاصة على الكمان، كنت أحصل عليها من فنّان حقيقى كان مفتّشاً للموسيقى بالتعليم الثانوى، ومشرفاً على مسابقات الموسيقى، هو الأستاذ عبد العزيز طنطاوى، الذى أصرّ على تعليمى قراءة النوتة، فى المنهج المعروف باسم Bona، وتمارين الكمان فى المنهج المعروف باسم سيفشيك، وهو ما أفادنى كثيراً فى مراحل لاحقة من حياتى عندما احترفت العزف على الجيتار. كانت الحصّة لمدّة ساعة، يحضر فيها الأستاذ عبدالعزيز مشياً من منزله إلى منزلنا، كلّ هذا مقابل ربع جنيه مصرى فقط لا غير، وكان أبى يخرجه من حافظة نقوده بقدر من العظمة والخُيَلاء، ويضعه فى يد الأستاذ».
يعتقد الميرى أن هذا الحدث، أى التميّز فى تعلّم العزف على الكمان، هو الأهم فى كل طفولته. كان الأستاذ عبد العزيز يصفه بأنه صاحب ذاكرة غير عادية فى الحفظ، وهو لا يعرف أن الفضل فى ذلك سببه عدم وجود أى شىء آخر يشغل بال الميرى. المهم أن الحلم بأن يصبح عازفاً مشهوراً تحول إلى حقيقة، فى مسابقات الموسيقى بالمدارس، حتى أن د. أحمد عمّار أحد أهم أصدقاء طفولته – وقد أصبح فيما بعد رئيساً لقسم جراحة المخّ والأعصاب فى جامعة سعودية – لا يزال يذكّره كلما رآه بأنه كان بعيد النظر عندما أطلق عليه لقب «أحمد حفناوى طنطا».
ثم تحقّق هذا الحلم من جديد فى الواقع العملى الاحترافى فيما بعد، عندما أصبح فى منتصف العشرينات من العمر، عازفاَ على الجيتار فى شارع الهرم، وكان كلّ زملائه فى تلك الفرق الموسيقية، من الموسيقيين المحترفين المتزوّجين الذى يصرفون على بيوتهم من دخلهم كموسيقيين. يحكى: «يجب هنا أن أذكر أنه رغم الإساءات البالغة لشخصيتى، التى تسبّبت فيها أمى، إلا أنها كانت صاحبة الفضل علىَّ فى حياتى الموسيقية، لأنه كما اشترت لى الكمان فى سن العاشرة، اشترت لى كذلك الجيتار الخشبى بصندوق الصوت acoustic، باثنى عشر جنيهاَ، من نفس المحل بابازيان، فى عيد ميلادى الخامس عشر، واشترت لى معه كتاباً به تمارين العزف على الجيتار للمؤلّف برانزولى، كان ثمنه 120 قرشاً. ولكنى لم أحصل فى الجيتار على دروس خصوصية، لأنه لم يكن هناك مدرّس موسيقى متخصّص فى الجيتار فى طنطا، بل تعلّمت العزف على الجيتار باجتهاد ذاتى».
عدا الموسيقى وتدريبات الكمان والجيتار، انشغل الميرى بالقراءة وتنوّعت قراءاته، كان طموحاً جداً، فرغم أنه تعلّم الفرنسية فى المدرسة الابتدائية، ولم تبدأ علاقته بالإنجليزية إلا فى سن الثانية عشرة، إلا أنه اشترى سنة 1966 من مكتبة دار الشرق للمطبوعات السوفيتية، كتاباً من مطبوعات دار مير للنشر، عن حياة لينين باللغة الإنجليزية، وبدأ فى ترجمته. كانت طبعة فى منتهى الأناقة، بغلاف قوى بطبقة وبرية، وبورق مصقول وملزمة صور شخصية لمراحل حياة لينين. كانت لديه رغبة عميقة فى الكتابة والترجمة، لكنه كان يميل إلى الاتحاد السوفييتى لا إلى أمريكا. وكانت هناك مجلّتان شهريتان، واحدة منهما بقطع كبير تحمل اسم «الحياة فى أمريكا» بها الكثير من الصور الملونة، وتباع بثلاثة قروش، لكنه كان يفضّل عليها «مجلّة الاتحاد السوفييتى» بقطع متوسّط وكانت تباع بنفس السعر، رغم أن صورها لم تكن ملوّنة.
وهذه حكاية عن أوائل علامات التمرّد فى حياته، وقد جرت أحداثها فى صيف 1966. طلب من أبيه جنيهاً، ليدفعه ثمناً لدروس تعلّم الكتابة على التايب رايتر، لأن أحد مكاتب طنطا وضع على مدخله إعلاناً عن دروس عملية بواقع ساعة كل يوم لمدّة شهر، بجنيه مصرى واحد فقط لا غير، فقال له أبوه: «عايز تفضحنى فى طنطا؟ الناس هيقولوا عنى إيه لو عرفوا أن ابن الجرّاح الكبير شغال فى مكتب آلة كاتبة؟!».
يتذكر: «كنت فى ذلك الصيف أحصل على مصروف جيب، جنيه مصرى، كل أسبوعين، فذهبت لدفع الاشتراك فى المكتب دون علم أبى، وكنت أؤخّر ذهابى إلى النادى الرياضى ساعة، فأذهب إليه فى السادسة، بدلاً من الذهاب إليه فى الخامسة. كان الحلم الذى يراود خيالى – ويبدو أننى رأيت هذا النموذج فى أحد الأفلام المصرية أو الأجنبية – هو قدرتى على الاستقلال المادى، أى أن أحصل على عمل ككاتب على الآلة الكاتبة، وأحصل على حجرة بالإيجار على سطح إحدى العمارات، وبالتالى أتمكن من الحصول على حرّيتى واستقلالى، ومن ثمّ الحصول على تجارب وخبرات فى الحياة، وبعد حوالى أربعين سنة عندما اشتريت أول كومبيوتر، استعدت ذكرى تلك المحاولة الأولى فى البحث عن مواضع الحروف للكتابة على لوحة المفاتيح».
ثم بدأت ميوله الانعزالية فى الظهور بوضوح شديد، فكان بدلاً من لعب كرة القدم مع الأولاد من سنّه، فى الثالثة عشرة من العمر، يصطحب نسخة أحمد رامى لرباعيات الخيّام، وكان أبوه قد اشتراها لا يعرف فى أيّة مناسبة، أو قد تكون وصلتهم ضمن كتب حصلوا عليها من مكتبة جدّه لأمه بعد وفاته. كان يمشى فى نهاية النادى الرياضى، عند خطّ الحقول، مررداً رباعيات يحفظها:
«لبست ثوب العيش لم أُسْتَشَر/ وحرت فيه بين شتّى الفِكَر/ وسوف أنضو الثوب عنّى ولم/ أدرك لم جئت وأين المقر…… غدٌ بظهر الغيب واليوم لى/ وكم يخيب الظن فى المقبلِ/ ولست بالغافل حتى أرى/ جمال دنياى ولا أجتلى».
ومن المدهش أن تذوّقه لشعر العامية، كان لا يقلّ عن تذوّقه لشعر الفصحى، إذ اشترى فى نفس ذلك الوقت بعشرة قروش «جوابات حراجى القطّ إلى زوجته فاطنة عبد الغفّار الكائنة فى جبلاية الفار»، رغم أنها لم تعجب صديقه الدكتور أحمد عمّار. وهى خطابات أرسلها عامل صعيدى فى السدّ العالى إلى زوجته. يعلق: «وهكذا يمكن القول إن اثنين من المهن التى سأمارسها لاحقا فى حياتى، ظهرت بوادرها فى طفولتى، وهما الموسيقى والكتابة».
كان حتى دخول الجامعة، لا يزال واقعاً تحت تأثير نفوذ وسيطرة أبيه وأمه، والدليل على ذلك هو أن الأب هو من ملأ له استمارة مكتب تنسيق القبول بالجامعات، إذ كتب أسماء كلّ كلّيّات الطب فى الجمهورية وكان عددها ست كليات سنة 1971، القاهرة وعين شمس والإسكندرية والمنصورة وطنطا وأسيوط. وكان حاصلاً على مجموع كبير جداً فى ذلك الوقت هو 94 ونصف فى المئة، وكان مجموع 81 فى المائة كافياً لدخول كلية طب طنطا: «إذا سألتنى الآن ماذا كنت سأختار لو كنت بعقلى الحالى أمام نفس هذه الاستمارة، لكنت وضعت الرغبات بهذا الترتيب: كلّية الآثار قسم مصريّات، كلية الآداب قسم لغة إنجليزية أو فرنسية، كلية فنون جميلة قسم تصوير، كلية تربية موسيقية. نعم لو أتيح لى أن أعود بحياتى إلى البدايات، لاخترت دراسة جامعية مختلفة».
ويضيف: «رغم أن دراسة الطب كانت ممتعة جداً، إلا أن ممارسة المهنة كانت قطعة من العذاب اليومى، فالمستشفيات المصرية هى عملية تعذيب مستمر للمرضى والأطباء، خاصة أمام مشكلة نقص الإمكانيات وبالتالى تضليل المرضى الفقراء. أفضل ما أحببته فى سنوات الطبّ، عندما كنا ندرس الأنسجة فى حالة الصحّة وفى حالة المرض تحت المجهر، وهما العلمان المعروفان باسميهما اللاتينيين الهيستولوجى والهيستوباثولوجى. كنت أتعامل مع هاتين المادتين بالحسّ الفنّى، وأتخيل أننى أثناء رسم الخلايا والأنسجة المختلفة الأشكال والأحجام بالألوان فى كرّاسة المعمل، أقوم برسم لوحات فنية لا مثيل لها».
حصل الميرى من كلية الطب على مكافأة تفوّق ثمانية جنيهات فى الشهر، لمدّة ثلاث سنوات، كان يدّخرها كلّها، 96 جنيهاً في العام. وفى الجامعة بدأ سلسلة من حركات التمرّد على والديه. ففى سنة 1972، فى الإجازة الصيفية بين إعدادى طب وأولى طب، اشترى دون علمهما، جيتاراً كهربائياً من الإسكندرية، بأربعين جنيهاً، واشترى مكبّر صوت هندى بطاقة مئة واط، واستعمله على سمّاعتين 15 بوصة صناعة هولندية، بما كانت قيمته الإجمالية مائة جنيه.
وهكذا تمكّن فى سبتمبر 1972 من الاشتراك فى تأسيس فرقة الشموع «كاندلز»، مع رامى، معيد بيانو فى كلية التربية الموسيقية، ووجدى، طالب فى كلية التربية الموسيقية، وأحمد، طالب فى فنون جميلة الإسكندرية، وجورج، طالب فى كلية الطب. استمرّت البروفات لمدّة شهرين، فى نوفمبر وديسمبر 1972، بمعدّل يومى هو ست ساعات، من الخامسة عصراً إلى الحادية عشرة مساء، فى قاعة لم يكن قد تمّ إعدادها بعد، ستخصص لاحقاً للعبة الإسكواش، فى نادى طنطا الرياضى. وكان حفلهم الأول بمناسبة رأس السنة، فى قاعة الطابق العلوى بنفس النادى، حضرها 120 شخصاً، بتذكرة قيمتها جنيه واحد، وتمّ اقتسام المبلغ مناصفة بين الفرقة وإدارة النادى: «كنت فى التاسعة عشرة من عمرى، عندما قلت لأبى: لا، لأول مرة، إذ أراد أن يمنعنى من الاستمرار فى هذه الفرقة».
منذ العام الثانى فى كلية الطب، شعر الميرى أنه لن يكون طبيباً، بل ينبغى أن يبحث عن مهنة أخرى، وبدا له بوضوح أن هذه المهنة الأخرى يمكن أن تكون الموسيقى: «كنت أتقابل مع موسيقيين بؤساء يمارسون هذه المهنة فى طنطا فى مجال ضيّق جداً هو الأفراح، وكنا فى الكاندلز قد قبلنا العمل فى بعض المناسبات الخاصة مثل الأفراح فى نوادى طنطا والمحلة والمنصورة، ونصحنى كل هؤلاء الموسيقيين المحليين البؤساء، أننى إذا كنت أرغب فى العمل كموسيقى، فعلىَّ أن أترك طنطا وأذهب إلى شارع الهرم فى القاهرة».
وجدى زميله فى الكاندلز هو وجدى فؤاد الذى أصبح فيما بعد أهم عازف إيقاع على الطبول «درامز» فى مصر، أما رامى «بتراك» فهو من أصول لبنانية وهاجر إلى أمريكا فى منتصف السبعينيات، ووصل هناك إلى أن أصبح عازفاً فى أوركسترا الإذاعة فى بوسطون. هذا هو المستوى الذى وصل إليه زميلان كانا معه فى الكاندلز سنة 1972. أما هو فقد استهلك الطب جزءاً كبيراً من وقته ومجهوده ودماغه.
انتقل إلى القاهرة سنة 1976، وبقى فى رابعة وخامسة طب خمس سنوات، بسبب العمل فى شارع الهرم، لمدّة عام ونصف فى الملهى الليلى الباريزيانا، ثم لمدة ستة أشهر فى فندق الوينتر بالاس بالأقصر، وثلاثة أشهر فى فندق العلمين بسيدى عبد الرحمن. يقول: «لم أشعر أبداً بالندم على تلك السنوات الموسيقية، بل على العكس تماماً، فهى فى اعتقادى الآن، أفضل سنوات عمرى وأجمل ذكريات حياتى».
حصل الميرى على بكالوريوس الطب بمجموع 63 ونصف فى المئة، بتقدير عام مقبول، فى ديسمبر 1980، وبهذا المجموع فى ذلك الوقت، لم تكن لديه الفرصة إلا للتسجيل فى تخصّصين لا يُقبِل عليهما الأطباء الحاصلون على مجموع أكبر، وهما تخصّص الأمراض الجلدية، وتخصّص التخدير. وخلال سنة الامتياز حيث عمل فى المستشفى الجامعى بالدمرداش، ثم فى مستشفى المجموعة الصحيّة ببولاق أبو العلا، تمكن من العودة بين وقت وآخر إلى الموسيقى، لمدة أسبوعين فى افتتاح شيراتون الغردقة أبريل 1981، ولمدّة أسبوع فى أوبرج شارع الهرم، ولمدة شهر فى شاليمار آخر شارع الهرم. إلا أن الموسيقيين أصبحوا أكثر تحفّظاً معه، إذ كانوا ينادونه بلقب دكتور. وقيل له لن تستطيع بعد الآن أن تعمل كموسيقى دائم مع أى فرقة، لأنهم لا يثقون فى موسيقى طبيب، إذ أنك حتماً ستترك الموسيقى عندما تنجح فى الحصول على تخصّص فى الطب.
لا يخطط الميرى كثيراً للمستقبل، وأغلب النقلات المفاجئة فى حياته جاءت بالصدفة، وهكذا حدث أثناء إقامته لمدّة ستّة أشهر فى الأقصر، بين نوفمبر 1978 وأبريل 1979، أن كان معبد الأقصر على بعد عشر دقائق من فندق الوينتر بالاس حيث يقيم، فكان يحدث كثيراً أن يذهب إلى ذلك المعبد يراقب السيّاح. هنا اكتشف وجود مهنة لم يعلم بوجودها، ولم تخطر له على بال، رغم أنه سيمارسها لمدّة عشرين عاماً، وسيكسب منها أحياناً مبلغاً ممتازاً، فى الأسبوع الواحد فى الثمانينيات والتسعينيات، وسيقابل فيها من ستصبح زوجته، هى مهنة الإرشاد السياحى.
جلس ليراقب بولهٍ، هذا الشخص الأسطورى، الذى يتحدّث الإنجليزية أو الفرنسية بطلاقة، وينصت إليه باستغراق شديد عشرات الناس القادمين من البلاد البعيدة، وفكر أنهم لم يقطعوا كل تلك الآلاف من الأميال، إلا لينصتوا إلى هذا الشخص الذى يقول لهم أشياء لا يعرفونها، ثم عندما يشير بيده إلى نقوش على حائط أو إلى تمثال، يدير الناس رؤوسهم يتابعون حركات يديه بتركيز شديد، كأنه يربط بين يديه وبين رؤوس الناس بقوة مغناطيسية سحرية. من هو هذا الشخص الأسطورى؟! عرف عادل أن اسمه المرشد السياحىن وتولّدت لديه على الفور الرغبة فى أن يصبح – يوماً ما – هذا الشخص.
ذهب إلى مكتبة العبّودى فى السوق السياحية «مرحباً»، واشترى كتابين أحدهما بالإنجليزية، والآخر بالفرنسية، عن آثار مدينة الأقصر، ثم ذهب إلى مكتبة البيع فى فندق إيتاب الأقصر، حيث حصل على المزيد من الكتب. يقول إن لديه حالياً ألف كتاب عن مصر القديمة ومصر الإسلامية، منها كتب نادرة جداً مثل قاموس الهيروغليفى الملوّن بقلم شامبوليون، نسخة بخط اليد من النسخة الأصلية الصادرة فى ثلاثينات القرن التاسع عشر، وهى طبعة محدودة من ألف نسخة مرقّمة، جاءته كهدية من أحد سيّاحه، أعطاها له فى باريس بعد أن كان قد أنهى رحلته الطويلة معه فى مصر. هناك كذلك نسخة محدودة بالفرنسية من المجلّد الذى يصف بالتدريج كل العمليات، التى أجريت لمومياء رمسيس الثانى سنة 1980، فى معامل متحف الإنسان فى باريس، لعلاجه من الفطريات التى كانت قد أصابته. ثم مجموعة الكتب التى توثّق لكل عمليات فكّ وإعادة تركيب معابد بحيرة ناصر، معابد أبى سمبل وغيرها، مطبوعة فى الستّينات باليونسكو فى باريس باللغة الفرنسية: «فى الحقيقة أنا لا أعرف بعد ماذا سأفعل بكل هذه الكتب، ولمن سأتركها».
وقد وصلت به هذه البداية المتواضعة فى الاهتمام بدراسة آثار مصر القديمة، سنة 1978 – بعد عشرين عاماً، أى سنة 1997 – إلى الحصول على دبلوم آثار مصرية فى كلّية الآثار جامعة القاهرة، وهى دراسة مسائية مكثّفة لمدة عامين، تعتمد كثيراً على المجهود الشخصى للطالب، يحصل بها طالب الدبلوم خلال عامين، على نفس المعلومات التى يحصل عليها طالب البكالوريوس فى أربعة أعوام. لحسن حظّه كان طالباً هناك فى نفس التوقيت عندما كان الدكتور جاب الله على جاب الله، عميداً للكلية ورئيساً لقسم المصريات بها، وحظى به أستاذاً لمادتى التاريخ والآثار فى عامين متتاليين، قبل أن يصبح لاحقاً رئيساً للمجلس الأعلى للآثار. كما كان له حظ دراسة مادة «فنون إنسان عصر ما قبل التاريخ» على يد الدكتور على رضوان.
يتذكر واقعة تخص عمله في مهنة المرشد السياحى: «أثناء بداياتى كمرشد سياحى، عملت سنة 1985 على مركب سياحية صغيرة، تتكوّن من طابق واحد به 20 كابينة، أى بطاقة قصوى 40 سائحاً، وهو الرقم المتوسّط لعدد السيّاح فى مجموعة سياحية واحدة، لذلك لم يكن على هذا المركب أكثر من مرشد واحد. كان اسم هذا المركب هو ريف فاكنس أى إجازات الأحلام، وكان تابعاً لشركة سفينكس تورز التى يملكها الدكتور عادل حسنى. كان مدير هذا المركب، إبراهيم، 50 عاماً، قد فقد ساقه اليمنى فى حادثة ترام فى شارع شبرا، لكنه كان يقول للسيّاح الفرنسيين أن أحد تماسيح النيل أثناء سباحته فى مياهه قد أكلها، ثم يقول إنه اصطاد عشرات التماسيح فى بحيرة ناصر لذلك حصل على لقب قرصان النيل، وكانت جدران قاعة الطعام فى المركب، تزخر بعدد كبير من الصور الفوتوكوبى لمقال نشره سائح فرنسى يعمل صحفياً، والمقال بعنوان: قرصان النيل».
لم يكن إبراهيم يرضى بأن ينافسه فى هذه الشعبية الهائلة أى مرشد سياحى، لذلك كان يعمل أقصى ما فى وسعه ليستعيد الصدارة أمام كاميرات التصوير. وكان الميرى قد عمل على هذا المركب ثلاث مرات، فكان يضعه فى كابينة منعزلة، يقول إنها المخصّصة للمرشد، ثم يتحكّم فى قطع التيّار الكهربائى عنها فلا يجد التكييف اللازم لتحمّل سخونة الجوّ فى صيف الصعيد، بل كان أحياناً أيضاً يقطع المياه، حتى لا يستطيع أن يحصل على حمّام للتخلّص من عرق النهار.
ومن المعتاد فى الرحلات الطويلة التى تستمر أسبوعين فى مياه النيل بين القاهرة وأسوان، أن يلقى المرشد ثلاث محاضرات مدّة كلٍ منها ساعة، فى موضوعات بعناوين «مصر القديمة» من الفراعنة الى المماليك، و«مصر الحديثة» من بونابارت إلى عبد الناصر، ثم «مصر المعاصرة» بين أنور السادات وحسنى مبارك من النواحى السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان ذلك الشخص يتعمّد إجراء إصلاحات فى المركب، أو على الأقلّ الدقّ بالشواكيش، أثناء إلقاء المحاضرات على السيّاح، للتشويش قدر استطاعته على المرشد.
ووفقاً للنظام المتّبع فى ذلك الوقت كانت هناك استمارات توزّع على السيّاح فى نهاية الرحلة، ليملأوها بأسمائهم ويعطون فيها درجات على عشرة، لكل خدمة من الخدمات التى تلقّونها أثناء الرحلة، مثل جودة الطعام ومستوى الخدمة فى المطعم، وقدر الراحة فى الكبائن والانتقالات بالأوتوبيس، ونوعية معلومات المرشد فى المحاضرات وفى زيارات المتاحف والمعابد، ومستوى لغة المرشد. واكتشف الميرى أن إبراهيم يلقى فى القمامة كلّ الاستمارات التى تعطى للمرشد أكثر من درجة سبعة على عشرة! وقد جمع هذه الاستمارات دون علمه وذهب بها إلى مقرّ الشركة فى ممر بهلر بالقاهرة.
يواصل الميرى: «كانت الحرب دائرة طول الوقت بين المدير والمرشد، ولا أفهم كيف يكون من مصلحة المدير أن يتحدّث إلى السيّاح بما يسىء إلى المرشد. ولأنه لم يكن يجد ما يسىء به إلىَّ، فأنا لم أكن أشرب خمراً أمام السيّاح، ولم أكن أضايق الفتيات الوحيدات فى المجموعة، وهو ما كان يفعله إبراهيم. لجأ إلى حيلة قذرة. كنت أتناول عشائى فى صالة الطعام، على موائد الزبائن، ثم أذهب للنوم مبكّرا عن الزبائن، ويبقى إبراهيم معهم، وعندما يتأكّد من نومى يعلن على السيّاح تغيير موعد الاستيقاظ، من السابعة صباح اليوم التالى، إلى السادسة. وهكذا حدث أكثر من مرّة أن استيقظت فى السابعة، لأجد السيّاح قد أنهوا إفطارهم ووقفوا ينتظرون وصولى، للخروج معى إلى الأوتوبيس والزيارات الأثرية. وهكذا أخرج إليهم متعجّلاً، دون حلاقة ذقنى أو تناول إفطارى. والآن أسأل نفسى: ماذا استفاد هو؟! كل ما فى الأمر أنه إنسان شرّير بالفطرة».
مارس الميرى الطب أثناء سنة الخدمة الوطنية بين عامى 1982 و1983 فى مستشفى غمرة للعائلات ثلاثة أشهر، ثم فى مستشفى كوبرى القبّة فى قسم المسالك البولية عاماً كاملاً، وهو التخصّص الذى حصل فيه أبوه على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة سنة 1957، بالإضافة إلى أن له مقالات منشورة، فى أشهر دورية عالمية، وهى المجلّة الدولية لجراحة المسالك البولية، عن خبراته فى علاج النواسير البولية الشرجية، وهى الممرّات غير الطبيعية، بين المثانة والمستقيم، التى تتسبب فيها خواريج تشق طريقها عبر أنسجة الحوض. مكّنته هذه المقالات من الانضمام إلى جمعية الجرّاحين الدولية، التى كان رئيسها فى مصر هو الدكتور رفعت كامل أستاذ الجراحة العامة فى طب عين شمس. طبعا كان إلحاح الأعمام والعمّات والأخوال والخالات شديداً: «أبوك حقّق شهرة كبيرة وسمعة طيّبة فى هذا التخصّص، هتختصر لك 10 سنوات من الطريق».
هذا هو السبب فى اختياره العمل فى قسم مسالك بولية أثناء عام الخدمة العسكرية. وهذا هو كذلك السبب فى قبول عودته إلى طنطا، لمدّة قصيرة جداً لا تتعدّى شهرين، للعمل نائباً للجراحة فى مستشفى الهلال الأحمر، التابع للجمعية الخيرية الإسلامية، مساعداً لأبيه فى جراحاته، التى كانت غالباً تنحصر فى عمليات حصوات الكلى والمثانة التى تتسبّب فيها البلهارسيا، وعمليات الاستئصال الجزئى أو الكلّى للكلى والمثانة، بسبب السرطان الناتج عن حالات البلهارسيا المزمنة.. لكنه لم يحتمل العمل فى هذا المستشفى أكثر من شهرين عموماً، فلماذا؟!
يقول: «سأضرب لكم مثلاً واحداً على مدى الاستغلال، الذى يتعرض له الطبيب الشاب. هل يستطيع أى إنسان أن يعمل دون توقّف 36 ساعة؟ كان الطبيب الشاب فى صيف 1983، يذهب إلى المستشفى الساعة 8 صباح الإثنين، ولا يخرج منه إلا الساعة 8 من مساء الثلاثاء، ثم يعود 8 صباح الأربعاء، ويبقى حتى 8 مساء الخميس، وهكذا بلا نهاية. ثم يحصل فى هذا المستشفى الخاص، على نفس المرتّب الذى يحصل عليه زميله فى المستشفى الحكومى، وكان هذا المرتّب فى ذلك الوقت 55 جنيهاً. بحسابات بسيطة يمكن إدراك أن ساعة عمل الطبيب تساوى عشرة قروش صاغ».
ذهب الميرى إلى أبيه فى عيادته وقال له: «مش هقدر استمر معاك هنا» وردَّ الأب: «فى الحالة دى انس إن ليك أب!». قالها هكذا نهائية قاطعة لا تراجع فيها. وقد بقى الميرى هكذا حسب طلبه، حوالى أربع سنوات، بين 1983 و1987 دون أن يراه، ودون حتى أى مكالمة تليفونية، لكن الميرى كان يعرف من أمه أن الأب يتابع تحرّكاته، بدليل أنه عندما علم بنجاحه فى امتحان الحصول على ترخيص إرشاد سياحى فى يناير 1985، قال لها: «يسيب الطب علشان يشتغل ترجمان بهلوان بيسلّى السيّاح». يعلّق الميرى: «انقطعت عنه حسب رغبته، إذ طلب أن أنساه، ولم يُعِدْنى إليه سنة 1987، إلا بكاؤه فى التليفون بكلمات نصف مفهومة، بسبب إصابته بجلطة فى المخ، نتج عنها شلل نصفى».
بقى الميرى فى مهنة الإرشاد حتى صيف 2002، وقد وقعت فى نوفمبر 1997، فى معبد الدير البحرى «حتشبسوت» بالأقصر، حادثة إرهابية بشعة، قُتِل فيها حوالى تسعون شخصاً، بل تم التمثيل بجثثهم، وتمكّن بعض السيّاح المختفين عن أنظار الإرهابيين من تصوير ما حدث، ونشره على قنوات التلفزيون الأوروبية، وبالتالى ظلّت مصر دون سيّاح لمدّة عامين متتاليين، أى حتى منتصف 1999، وعندما عادت شركات السياحة إلى العمل من جديد، فوجئوا كمرشدين أولاً بإعلان إفلاس عدد من هذه الشركات، وثانياً بأن الشركات الباقية على قيد الحياة، أصبحت تعاملهم بشكل مختلف.
مثلاً كانت يومية المرشد قبل الحادثة مائة جنيه فى اليوم، فوجئوا بأنها انخفضت إلى 30 جنيها. وبعد أن كانت عمولات المرشد فى محلات بيع الذهب والألباستر وورق البردى والعطور والسجّاد، تتراوح بين 40% و50%، أصبحت العمولات لا تتعدّى 10%، وأصبح الباقى يذهب إلى الشركات، ويبدو أن حرمانها من العمل، بحسب الميرى، قد عرّض أصحابها للجوع، فقرّروا بالتالى تجويع كل المتعاملين معهم.
يحكى: «تقبّلت كلّ هذه التنازلات، إلا أن الشىء الذى لم أستطع تحمّله هو أننى فى المجموعات الأخيرة التى حصلت عليها، كانت الشركات تبيع كل الكبائن وتترك المرشد ينام فى عنابر العمّال. لم أصدّق أنه لم تكن لى كابينة، بل كنت مضطراً إلى مشاركة العمّال النوم فى عنابرهم، وبعضهم يستيقظ طول الليل، بسبب حاجة الماكينات إليهم، لذلك كانوا يتركون أضواء العنابر مضاءة، وكان عدم القدرة على النوم مؤلماً جداً بالنسبة لى، لأنك كمرشد تحتاج إلى النوم العميق، وإلى كلّ تركيزك الذهنى، حتى تستطيع صباح اليوم التالى، وخلال ساعات عمل طويلة أن تذكر كل المعلومات التى لديك لسيّاحك».
مرّة أخرى تنقذه الأقدار، ففى بداية توقّف السياحة، وضعت له زوجته السابقة فى مجلة الجمعية الفرنسية المصرية التى كانت تسمّى Caire acceuil، إعلاناً عن قيامه بإعطاء دروس فى العامية المصرية، مستعيناً بكتاب كان مشهوراً فى ذلك الوقت هو «أهلاً وسهلاً» لوديع بطرس، وكان قد درَّسه بتركيز شديد مع زوجته السابقة، وقامت هى بعمل دعاية كبيرة له، كانت تتكلّم بالعامية المصرية أمام صديقاتها من سيّدات المجتمع الفرنسى فى القاهرة، فاستطاعت إقناعهنّ بالاشتراك فى هذه الدروس.
والصدفة الحقيقية هى أن زوجة ناظر مدرسة الليسيه الفرنسية التابعة لقنصلية فرنسا كانت من بين تلميذاته، وهكذا عندما أعلنت المدرسة فى صيف 2002، عن حاجتها إلى مدرّس لغة عربية، كانت زوجة الناظر هى من أقنعته بقبول الميرى. وقد بقى فى تلك المدرسة ثلاث سنوات، ثم انتقل منها للعمل ثلاث سنوات أخرى فى قسم تدريس العربية المعاصرة، المعروف اختصارا باسم DEAC، وقد كان يشغل الطابق الرابع والأخير، من مبنى القنصلية فى وسط البلد، خلف حلوانى العبد بشارع سليمان باشا.
كان الشباب الفرنسى يأتى إلى القاهرة، ويبقى فيها شهراً أو شهرين، أو حتى يبقى فيها عاماً دراسياً كاملاً، لدراسة العامية المصرية، أو لدراسة العربية الفصحى، أو لدراسة لغة الصحافة، وفقاً لهدف الطالب من هذه الدراسة. يتذكّر مثلاً أنه قرأ صفحات من المقريزى مع طالبة كانت تعدّ عنه رسالة دكتوراه فى جامعة فرنسية. بل حدث أنه شاهد لقطات من كل الأفلام المأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ، مع طالب كان يدرس موضوعاً عن مدى دقّة سيناريوهات الأفلام المصرية، فى التعبير الحقيقى عن آراء الروائى فى أعماله، كما حدث أنه درس بداية الصحافة المصرية، مع طالبة دكتوراه أخرى، وقد تصفَّحا معا أعداداً من جريدة الحملة الفرنسية فى زمن بونابارت، ثم الأعداد الأولى من جريدة الوقائع المصرية.
يقول: «بالمناسبة كان الطابق الثالث من مبنى القنصلية هو مقرّ مركز التوثيق والدراسات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، ويعرف اختصاراً باسم CEDEJ، وبه مكتبة هائلة كان للطلاب حق الاستعانة بها، بخلاف مكتبة المعهد الفرنسى للدراسات الشرقية IFAO، فى شارع أمين سامى بالمنيرة. كان عالم التدريس باباً مفتوحاً أمامى لعمل دراسات مع هؤلاء الطلاّب، بلا أى حدود. وبهذه المناسبة أنا أدين لفرنسا بالكثير، فهى وطنى الثانى، رغم كل المشاكل السياسية والثقافية، التى تعانى منها الأقليات العربية هناك».
أثناء عمله فى DEAC، اعتاد أن يقوم بعمل زيارات مجّانية لتلاميذ المركز، إلى المتحف المصرى، وإلى المتحف الإسلامى، وإلى مساجد شارع المعزّ، وإلى كنائس مصر القديمة. وكان هذا هو الباب الذى دخل منه سنة 2008 إلى عالم الترجمة، إذ وجد المدير ذات يوم يقول له، إنه اقترح اسمه على المسؤولين عن برامج الترجمة من الفرنسية إلى العربية، وهو المشروع الذى كان معروفاً باسم مشروع «طه حسين» لترجمة كتاب «الفن المصرى القديم» من تأليف كريستيان زيجلر، وقد كانت فى ذلك الوقت مديرة القسم المصرى بمتحف اللوفر، فوافق على الفور، دون حتى معرفة المقابل المالى. ذهب فى السنة التالية إلى المركز القومى للترجمة، باقتراح ترجمة كتاب «قاموس عاشق لمصر» لروبير سوليه، فوافقت لجنة الاختيارات.
لا يبدو عادل الميرى نادماً على شىء، صحيح أن الحياة لم تمنحه القدرة على تقرير مصيره من البداية، لكنه يعتبر أنه محظوظ، بالتجارب التى عاشها، وبالأشخاص الذين قابلهم، وبالخبرة التى اكتسبها، محظوظ بعمله فى مهن عظيمة، شكّلت نواة لأهم أعماله،. يقول: «الحقيقة هى أن الفرص التى تتيحها الحياة لا نهاية لها. هذه هى باختصار قصّتى مع كل المهن التى مارستها على مدار سنوات طويلة».