“ظلال شجرة الرمان” الجزء الأول من الخماسية الروائية الضخمة التي تعرض لتاريخ الإسلام، كتبها الكاتب الروائي والمؤرخ والناشط السياسي الباكستاني الأصل طارق علي، والصادرة من القاهرة عن دار (الكتب خان)، وبترجمة ناصعة ممتازة المبدع محمد عبد النبي.
الرواية في إطارها التاريخي العام تتناول نهاية الوجود التاريخي للمسلمين في الأندلس عقب سقوط غرناطة عام 1492 من خلال تتبع قصة عائلة عربية مسلمة في عامي 1499 و1500 كانت تعيش في قرية على تخوم غرناطة، هي قرية “هذيل” المسماة على اسم العائلة، وحيث تحشد الرواية تفاصيل مهمة عن الاضطهاد ومحاكم التفتيش وعمليات التنصير القسري والخيارات الإجبارية (!!) المتاحة أمام العائلات العربية المسلمة: الهجرة أو المقاومة أو التحول إلى المسيحية..
ظلال شجرة الرمان رواية تاريخية بامتياز، ناضجة تهز قارئها من الأعماق عن غروب شمس الأندلس، تراجيديا هائلة عن صراع العقائد والأفكار والسيوف والسلطة والثروة. حكاية مؤسية عن إمبراطورية انتهت بالفعل، كل شيء محكوم عليه بالنهاية، ولكن قرية الهذيل وسكانها تستقبل قدرها بلا خوف مثل شخصيات الدراما الإغريقية، تراجيديا يساق أبطالها إلى مصائرهم المحتومة، وحيث المؤلف في الرواية مشغول بمصائر أبطال “جداريته الروائية” التي وضعت اسم مؤلفها في مصاف الروائيين الكبار، وكانت هي بذاتها قد ضمنت مكانها باعتبارها إحدى كلاسيكيات الأدب المعاصر، وبما تضمنته من مناقشات عقلية ممتازة وحوارات ثرية إضافة إلى حالة شعورية متخمة بالألم والعذاب والدموع.. إنها حقا مروية أسطورة الفقد والاستعادة. ومرثية روائية للفردوس المفقود!!
كتبت الرواية بحس إنساني وتاريخي واجتماعي غاية في الحساسية والرهافة، واشتملت على نقد موجع للجانبين المسلم والمسيحي، وفيها تحليل عميق لصعود الإمبراطوريات وسقوطها، درس فى التاريخ من أجل اليوم والغد.. تحكي لنا عما يفعله التعصب باسم الدين في الحضارة، مهما كانت العبارات البراقة التى يستتر وراءها المتعصبون والجهلاء، ميراث من الشقاء يورثه المجانين للحمقى في كل زمان ومكان.
تنطلق أحداث الرواية من واقعة تاريخية مثبتة في المصادر الأصيلة التي سجلت نهاية الوجود العربي في الأندلس، وهي الواقعة التي حدثت في الأول من ديسمبر عام 1499 وقبل عام واحد من مفتتح القرن السادس عشر، قرن التحول العظيم في الغرب الأوروبي، حيث دخلت فرقة جنود إسبان بقيادة خمسة فرسان مكتبات غرناطة التي تبلغ مائة وخمسا وتسعين، واثني عشر قصرا، أودعت فيها أشهر المجموعات الخاصة من الكتب والمؤلفات التي حملت زبدة ما وصل إليه العقل المسلم وخلاصة ما تركه مفكرو الإسلام وعلمائه وما نقلوه عن غيرهم، وصادروا كل ما هو مكتوب باللغة العربية، وجمعوه في ساحة فسيحة ثم أضرموا فيها النيران لتأتي على عصارة فكر وثقافة حضارة ازدهرت ونمت على البقعة من الأرض طيلة ثمانية قرون.
انطلق طارق علي من هذه الواقعة لنسج خيوط روايته وبناء الأحداث والتفاصيل التي ستتشكل منها الرواية، مركزا على حادثة حرق الكتب والمخطوطات التي كانت تشمل بضعة آلاف من المصاحف مع تعليقات وشروح علمية وملاحظات دينية وفلسفية مكتوبة بخط ممتاز، حملتها بعيداً وكيفما اتفق عربات يسوقها رجال يرتدون الزي الرسمي، ومخطوطات حيوية نادرة تتصل بالبنية الثقافية في الأندلس تكدست في حزم ملفقة على ظهور الجنود، وخلال النهار أنشأ الجنود سوراً من مئات الآلاف من المخطوطات.
كانت الواقعة واحدة من أفظع عمليات التطهير العرقي في التاريخ، شملت العاصمة غرناطة، كما شملت جميع أرباضها وقراها، ومنها قرية الهذيل التي ينتمي إليها أفراد أسرة بني هذيل، نسبة إلى جدهم الأكبر، الذي وفد مع من وفدوا من الشام واستقروا في الأندلس، ضمن موجات الهجرة الأولى التي قدمت من المشرق عقب الفتح الإسلامي للأندلس.
وإذ يحيل عنوان الرواية «ظلال شجرة الرمان» إلى بستان الرمان المزهر في قصر أبي عبد الله، كبير عائلة بنو هذيل، في كنائية رمزية للأندلس ككل، فإننا نتتبع عبر صفحات الرواية ومسارها مصائر أفراد عائلة بنو هذيل وما آلت إليه أحوالهم في ظل ما واجهوه من إقصاء ونفي وتشريد وتهديد بالإبادة والفناء.
وفي قرية الهذيل، ومن خلال تتبع مآل أسرتها ومصير أبنائها وأحفادها، نرى آخر بارقة ضوء قبل أن تخبو في مواجهة عملية التطهير البشعة التي شهدتها الأندلس، حيث يخشى والد يزيد المسلم صاحب المكانة الغني المستنير على عائلته وعلى مستقبلها، فعمه “ميجيل” الذي تنصر وشغل منصب مطران قرطبة، يحثه هو الآخر على أن يتنصر، لكي يصون أملاك عائلته إلى جانب تزويج ابنته هند التي تبلغ السابعة عشرة من عمرها من ابن العم المتنصر الذي يفتقد إلى الوسامة والجاذبية.
ومهما يكن من أمر، فإن “هند” المستقلة كل الاستقلال كانت مصممة على أن تتزوج من الرجل الذي تختاره، يوسف المصري، وأما أخوها الأكبر العنيد فيفضل الموت على العبودية للكنيسة الكاثوليكية، وأما الصغير يزيد -ابن العائلة الأثير- فيلعب بقطع الشطرنج التي يملكها ولا يفتقد شيئا.
نرى في الرواية ونتتبع قصص بطولات أسرة بني هذيل الدرامية التي تبعث ماضيا اختفى من التاريخ، حاملة إلى الحياة فترة مضطربة أعقبت سبعة قرون من حكم المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية في هذا العالم، عالم القرون الوسطى الشهواني النابض بالحياة، نرى حرائق الكتب والمعارك، ونلقى الوعاظ وقطاع الطرق، والعشاق والشعراء، المؤمنين المتشددين والمتشككين، كبار الطهاة الفاسقين، وخدم العائلة، كلهم يعيشون على شفا حضارة توشك أن تغيب..
وجد طارق علي كنزه الروائي في هذه الحقبة، كما لو كان حدس بحرفية وتدقيق جوهر المقولة النقدية الذهبية “يبدأ الفن عندما تحاول أن تقول ما تريد بطريقة غير مباشرة، وعندما تترك أول وثانى فكرة طرأت على ذهنك لتبحث عن الفكرة الثالثة والرابعة، ثم تحتار أن تكتب فى الفكرة رقم 20. الفنان لديه بوصلة تقول له هنا يوجد كنز، ولكنك لن تصل إليه إلا بالحفر العميق”
وربما هذا ما يجعل من «ظلال شجرة الرمان» رواية تاريخية بامتياز، لا بالمعنى التعليمي أو الوعظي المباشر، إنما بالمعنى الفني التخييلي الأصيل، حيث لا يعبر الروائي عن رؤيته للتاريخ، إذا عبث بالوقائع أو شوه صور الشخصيات التاريخية المعروفة، ولكنه يعبر عن هذه الرؤية باختياره للزمان والمكان، وهو اختيار نابع من موقف حاضر، موقف نقدي فاحص.
وقد سجل طارق علي مواقفه الناقدة والمسائلة للتاريخ على لسان شخصيات الرواية، سواء كانت شخصيات تاريخية صرفة، أو شخصيات روائية مختلقة، ولا تربطها صلة بأي ظلال تاريخية واقعية.
إنها رواية رائعة وبديعة وناخزة، تجعلنا ننتظر بشغف كبير ترجمة بقية الأجزاء، التي انتهى مؤلفها من كتابتها منذ سنوات بعيدة، ولم تر العربية منها إلا «ظلال شجرة الرمان»، والجزء الثاني «صلاح الدين» الذي سيصدر خلال الفترة القريبة القادمة.