ظل الأم

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بولص آدم

    لم تكن الشجرة عظيمة، ولا جذعها متينًا كأشجار السدر العتيقة، لكن ظلّها كان كافيًا لطفلةٍ تجلس تحتها كل ظهيرة. كانت الطفلة تُدعى ياسمين، بقدمين صغيرتين مغبرّتين من رمل القرية، وعينين واسعتين كأنهما تلتقطان كل ما يفوت الكبار.

   في ظهيرةٍ ثقيلة من تموز، جلست ياسمين تحت الشجرة التي نبتت قبل أعوام، على تلة صغيرة قرب البيت الطيني. لم تكن تعلم أن تحت التلة قبر أمّها، ولا أن جذع هذه الشجرة كان في يومٍ من الأيام عصًا يُمسكها والدها بقبضةٍ خشنة.

  كانت تنظر إلى الأوراق الخضراء المتدلّية، وتحسّ بشيءٍ دافئ لا يُشبه الحرّ. كان الهواء هناك ألين، والرائحة أخفّ، وكأن الأرض نفسها تتنفّس بهدوء. أغمضت عينيها الصغيرتين، وشعرت بشيءٍ يمر على شعرها. لم يكن نسيمًا عابرًا، بل يدًا تعرفها جيدًا.. تمد رجليها إلى الأمام، تتكئ برأسها إلى الجذع، وتغلق عينيها.

من بعيد، كانت النساء في البيوت يتهامسن حين تمرّ.

“ها هي ياسمين… مثل أمها، تحب السكون.”

لكنهن لا يعرفن شيئًا عن السكون الذي يشبه حضنًا مؤجلًا، ينتظر أن يُكتمل.

 

  حين كانت ياسمين أصغر، كانت تسمع صوتًا لا تُميّزه. صوتًا غليظًا كالرعد، يهبط ثم يصمت. ثم يهبط. كانت تجلس خلف الجدار، وتشدّ على اللعبة المصنوعة من خرقة قديمة. وفي كل مرّة تسمع فيها الصوت، كانت تتقوقع كقطةٍ خائفة. كانت أمها تحتضنها بعد كل وجع، ولا تقول شيئًا، لكن في عينيها رجاءٌ صامت، كأنها تحتمل الألم لياسمين، حتى لا يطالها شيء. لا تبكي، لا تصرخ. كانت أمّها تقول دائمًا: “الصمت أحيانًا يحفظك أكثر من التهَوُّر.”

   ثم، في ليلة لم يُكمل القمر فيها دورته، اختفى الصوت. في الصباح، كان الجيران يتهامسون، والأب يحفر التلة بيديه، وفي نعشٍ خشبي بسيط، دُفنت الأم… ومعها، دُفنت أشياء كثيرة: الرائحة، الصوت، الحنان، وحتى ذلك الحزن الجميل الذي كان في عينيها.

  دُفنت معها العصا. قال الأب إنها كانت لها. لكن ياسمين كانت تعرف: العصا لم تكن تنتمي إلا للغضب.

 الشجرة التي خرجت من العصا، تحوّلت إلى ظل لا يُشبه الماضي. صار الحطب ظلًا، وصار الجَلد مأوى. كلما هبّ النسيم، كانت الأوراق تتهدّل بنغمة تعرفها، وكانت البنت تبتسم. لم تملك شيئًا من العالم. لكنها امتلكت ذلك الظل.

  كبرت ياسمين قليلاً، وصارت تتعلم كيف تكتب. ذات يوم، جلست تحت الشجرة، وأخرجت ورقة من دفترها المدرسي. كتبت:

“ماما، اشتقت لك. الناس يقولون إنك ضعيفة. لكنني أحسّك قوية، لأنك صبرت. يا ليتك كنتِ معي، أحسك تلمسين شعري.”

  طوت الورقة، ودفنتها في التراب تحت الجذع. وفي كل يوم، كانت تكتب ورقة جديدة. تكتب عن المدرسة، عن الأستاذة الطيبة، عن الخبز الذي خبزته الجارة. ثم عن حلمٍ رأته: أن أمّها عادت، من تحت التراب، بشعر مبلّل، وابتسامة لا تخشى أحدًا.

 كان بيتهم يملؤه الصمت.

لكنّه لم يكن سلامًا.

بل كتمانًا أثقل من الحزن.

  كانت الأم تمشي بحذر، كأن الأرض نفسها تئن تحت قدميها. وكانت البنت تراقب، بحسّها الطفولي الحاد، كيف تخبئ أمّها وجعها خلف تفاصيل صغيرة: ابتسامة رخوة، تنهده في الفراغ، نظرة طويلة إلى النافذة المغلقة.

  كان الأب، بعد موت الأم، يخرج كل أسبوع إلى التلة. بعد أسابيع، نبت شيء فوق القبر. ساقٌ أخضر، خجول. كان الأب يقطعه، يعود ينمو. يقطعه، ينمو. ثم توقف. ربما تعب. وربما خاف.. لم يكن الأمر زراعة، بل مقاومة. كأن الأرض تُنبت ما يُراد دفنه حيًّا.

  مع الوقت، صار يكتفي بالنظر. يجلس قرب التلة، ولا يقول شيئًا. كانت ياسمين تراه من بعيد، وتخاف. لكنه، هذه المرة، لم يكن يحمل الفأس.

 صار يعتني به دون أن يعلن. يسقيه، يزيل الحصى من حوله، يرقّق التراب.

 وفي ليلةٍ هادئة، نام الأب… ولم يستيقظ.

   وبقيت الشجرة.

  تحتها، جلست ياسمين مجددًا. صارت أطول. وجهها يحمل ظلّ أمها، لا بكآبة، بل بعذوبة. مرّ نسيم خفيف، واهتزت ورقة. مدت يدها، كأنها ترد التحية.

كانت تعرف الآن أن هذه الشجرة ليست شجرة عادية. كانت ظلّ أمها، ونبتت من جرح، لا من بذرة. وكانت، كلما جلست تحتها، تشعر أن العالم ما زال بخير.

 فكل أمّ، وإن دفنها التراب، يمكن أن تعود… على هيئة ظلّ لا يَضرب.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

فصام ..