طيف الصقلي

طيف الصقلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خرجتُ من بناية "وهبة" ليواجهني شارع شبه معتم لم أتعرف فيه إلى "قصر النيل" الذي أكاد أحفظ معالمه. بدا متعرّجًا لا مستقيمًا كعهدي به. أسير فأراه مغلقًا من بعيد. وحين أصل إلى النقطة التي ظننتها نهايته، أُفاجأ بانفراجة تقودني إلى الأمام. كانت الإضاءة خافتة، والبنايات مغايرة لحقيقتها، إذ استحالت حصونًا تحتضن تعرجات الطريق، فتبدو كمبانٍ تُشكِّل نفسها وفاقًا للفضاء المحيط. كل شيء كان مغلّفًا بغلالة داكنة أوحت لي بأن هذا الجزء من المدينة أضحى "نيغاتيف" صورة فوتوغرافية.

خطوت كما لو في حلم، أو وجود مُفلتر. العالم من حولي تحول إلى مشهد بصري مهتزّ، لا يرافقه أي صوت. أفكاري نفسها تبخرت، ولم أعد سوى ظل لأصلٍ مفقود.

شعرت كأنّي ولجت مساحة زمكانية مخفية من المدينة التي كلّما ظننت أني صرت من أهلها أعود لأكتشف جهلي بها.  لم يعترني خوف، بل رغبة في الفهم مصحوبة بعدم ارتياح. كنت واثقة من أنني لا أحلم، وضاعف هذا من انزعاجي. خُيِّل لي أن القاهرة  تهمس ساخرةً أني لن أعرفها، سأعيش فيها كعابرة سبيل، كمخمورة لن تستفيق أبدًا.

اختفى الناس كأنّ عاصفة اقتلعتهم من الشارع. كأنهم لم يكونوا قط.

“في البدء كانت الأحجار وفي المنتهى ستبقى. الأحجار وحدها ماضي المدينة ومستقبلها!” كدت أقول هذا، لكني لم أقو على النطق. في لحظتي تلك لم يكن هناك صوت ولا صدىً، فقط سكون تام. لبرهة، فكرت أني غير موجودة، مجرد فكرة خطرت للطريق عن امرأة تسير فيه كأنما تحلم، غير أن سؤالًا لمع في رأسي؛ فكثَّف وجودي وجعله ملموسًا: أين أنا؟ وكيف أعثر على نقطة مألوفة؟!

هرولت بينما أتحاشى النظر يمينًا أو يسارًا، حتى وصلت إلى ميدان “مصطفى كامل”، فعادت المدينة كما اعتدتها، بناسها وضجيجها الليليّ والمشاعر المتناقضة التي تثيرها بداخلي. احتضنتْ صورتها كمدينة منتشية بنفسها حتى الثمالة، وغير مكترثة بالعابرين في دروبها ممن تنظر إليهم كمجرد لحظة عابرة في تاريخ ممتد لعشرات القرون، وتختال عليهم بكل حجر قديم فيها، بل حتى بالغبار المتراكم على بناياتها العتيقة والعوادم التي تلوث هواءها.

لم أجرؤ على الالتفات إلى الخلف، إلى أن بلغت موقف “عبد المنعم رياض”. هناك.. جلست فوق الرصيف المتّسخ محتمية بصخب المتسابقين على اللحاق بعربات “ميكروباص” تمتلئ بالركاب بمجرد وصولها. انشغلت بالنظر إلى “رمسيس هيلتون” وعدّ الغرف المضاءة فيه. كان ثمة نزيل ضجر يلقي أوراقًا مشتعلة من نافذة غرفته ويراقب انطفاءها في طريقها إلى الأسفل.

أمدّني الزحام بالطمأنينة، وأعاد للواقع بعضًا من ثباته وتماسكه. غادرتُ المكان، وأوقفتُ أول عربة أجرة قابلتني. طوال الطريق، أخذت أحدِّق في الشوارع عبر الزجاج للتأكد من أنها كما هي، بينما أستعيد الجملة التي أنهى  بها آدم خليفة حديثه معي: “هذه ليست مدينة، بل مريض بالبهاق”!

من بين كل الأحياء، اختار “فيصل”، حيث سكنت لخمس سنوات، للتدليل على الفوضى وتنافر المعمار.

كان من المفترض أن أحاوره لساعة واحدة، لكن الجلسة – التي بدأت في السابعة مساءً – امتدت لثلاث ساعات لم يتوقف خلالها عن الكلام. أوجه له سؤالًا؛ فتتداعى الكلمات على لسانه دونما رابط يربطها بسؤالي. أعيد طرحه بطريقة أخرى؛ فيسرد حدوتة لا أستبين مغزاها، لكنّها تستولي عليّ لبراعته النابعة من إيمانه التام بما يقول. بعد ساعتين تقريبًا، ائتنس بي، وحكى عمّا أسماه “قاهرته الخاصة”. كان هذا قريبًا مما أريد إذ تنشر المجلة سلسلة الحوارات التي أجريها تحت عنوان “مدينتهم”، وفي كل عدد من المفترض بشخصية عامّة أن تشارك القرّاء رؤيتها للقاهرة، وترسم خارطتها كما عاشتها منذ طفولتها. كنت أنشر الحوارات دونما تدخل كبير مني، مجرد سؤال وجواب كما تريد رئيسة التحرير. وبعد النشر، أعيد كتابتها، المرة تلو الأخرى، بشكل قصصي، وأضعها في درجي الخاص حتى ازدحم بأوراق تشبه المدينة وتتناقض معها في آن.

في طريقي لمقابلة آدم خليفة بمكتبه في عمارة “وهبة”، منّيت نفسي بحديث صحافي متميز بالنظر لكون المحاوَر معماري ساهم في تخطيط مدن عدّة. توقعت أن يقدم رؤية مختلفة للقاهرة، لكنه فاجأني بمدينة من هلاوس وظنون. استرسل مُشيِّدًا قاهرة علاقتها بالواقع هشّة وبالخرافة متينة. حكى عمّا أطلق عليه “جبل المقطم المقدّس”، وحكمة جوهر الصقلي في مقابل حماقة الخديوي إسماعيل، وضرورة العودة بالمدينة إلى سيرتها الأولى إن أردنا تصحيح خطأ المنجّمين المغاربة الذين أشرفوا على بنائها.

أخبرني أن القاهرة مدينة مسحورة، ولا أحد تقريبًا يدرك نقاط ارتكازها أو مكمن التمائم السحرية المدفونة في غير موضع فيها. مع استرساله في الحديث، انتبهت إلى أنّه يقصد حصرًا، المدينة التي بناها جوهر الصقلي قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي ووسّعها – لاحقًا – أمير الجيوش بدر الجمالي، مع استبعاد صارم لأيّ تحديثات أُضيفت إليها بعد زوال حكم الفاطميين من مصر: إضافات الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، قاهرة الخديوي إسماعيل، وأحياء مثل مصر الجديدة والمعادي.

أكّد بحسم أن كل ما تلى مدينة الفاطميين أورام سرطانية استوطنت جسدها، وكل ما سبقها، بدءًا من الفتح الإسلامي، مجرّد قلاع رملية. قالها بالإنجليزية وهو يشيح بوجهه بعيدًا عنّي: Castles made of sand.

جالسًا إلى مكتبه راح يمزج “الفودكا” بعصير البرتقال، ثم يعبُّ كأسه دفعة واحدة ويعود لملء أخرى، وحين يتذكر وجودي يتوجه إليّ بصوت متحشرج – كأنما لم يُستخدَم منذ سنوات – حاكيًا عن مدينة السرّ والتقية، عن قصر الخليفة الذي يبدو من خارج المدينة المسوَّرة كأنه جبل لكثرة ما فيه من أبنية شاهقة. أما من داخلها فيكاد لا يُرَى لارتفاع أسواره. إذ لا يبصر أحد من سكان القاهرة اثني عشر بناءً يتكون منها القصر، ولا أبوابه العشرة الموجودة فوق الأرض، تقابلها أبواب أخرى تحتها، منها واحد ينفتح على سرداب بسقف محكم وجدران من الحجر المنحوت بدقّة، ويؤدّي إلى قصر آخر بعيد*[1]. قال إنها في بداياتها لم تكن عاصمة بقدر ما كانت حصنًا يقي الطبقة الحاكمة من انقلاب المصريين عليها وارتدادهم عن مذهبها.

بينما أصافحه مغادرةً، أعطاني كشكولًا بخط اليد، ذكر أنه يحوي أمثالًا شعبية جمعها وحققها شقيقه الراحل وطلب أن أساعده، بحكم عملي كصحافية، على نشرها في كتاب تخليدًا لذكرى أخيه.

لم أفتح الكشكول إلاّ في اليوم التالي. كانت الأمثال مرتبة وفاقًا لموضوعاتها، وبقراءتها لم أجد فيها ما قد يغري ناشرًا ما. اكتفى جامعها بالشائع منها. في الصفحتين الأخيرتين وجدت ثلاث فقرات مكتوبة بخط أكثر تنميقًا، رجحت أنه خط آدم خليفة نفسه، قرأت وفي بالي ما اختبرته بعد خروجي من مكتبه مباشرة:

 

-1-

“المدينة رسالة في زجاجة ملقاة في بحر الزمن.

المدينة وثيقة من حجر متروكة للقادمين كي يستبطنوا أسرارها. هنا وقف جوهر الصقلي شاردًا في ماضيه، في الصبي الذي كانه، في آثار أقدامه من بلد لآخر. أدار ظهره لجبل المقطم كأنما يستند إليه مستمدًا القوة منه، ويمم بصره صوب الأفق وقد أطَّرته سماء صبغها الغروب بألوانه، ثم ابتسم بإبهام وهو يشقّ الهواء بيده في خط وهمي يوازي صدره.

في تلك اللحظة البعيدة بزغ شارع المعزّ أو “قصبة القاهرة” في خيال الصقلي. وما تبقى من تخطيط يشمل القصرين الكبير والصغير وساحة استعراض الجند بينهما، والسور بأبوابه الشهيرة كان محض تفاصيل”.

 

-2-

“القاهرة مدينة من خطأ.

وقف المنجّمون المغاربة يتشاورون لاختيار أنسب الأوقات فلكيًا لوضع حجر الأساس. كان البنّاؤون متأهبين، والأجراس معلقة على الحبال الممتدة بين قوائم خشبية، في انتظار أن يقرعها المنجّمون، كإشارة للبدء، ما إن يمر كوكب المشتري. غير أن غرابًا حطّ فجأة فوق حبل منها فاهتز ودقت الأجراس. انهمك العمال فورًا في البناء ظنًا منهم أن المنجّمين هم من أعطوا الأمر. وقتها كان المريخ في الطالع.

عرف المنجّمون أن هذا الخطأ قدر لا فكاك منه. عرفوا أيضًا أن الدولة الجديدة لن تعمِّر طويلًا، وأن الخطأ سوف يلقي بظلاله على المكان ويتحكّم في أقداره لقرون”.

 

-3-

“على الرغم من ميلادها في طالع فلكي غير مواتٍ، إلّا أن تخطيطها جاء متّسقًا مع حركة الكون وطبيعة المكان وجغرافيته، والأهم مع حركة الضوء وألعاب الظلال. على منوال مسار النيل الذي يتحايل على ما يقابل مجراه من عقبات بالالتفاف حولها، خُط شارع المعزّ متعرّجًا ليقسم الحاضرة الوليدة إلى قسمين. انحناءات الشارع الأعظم اللينة تتواطأ مع السائر فيه، توهمه أنه على وشك بلوغ غايته، ثم تنفتح أمامه عبر انفراجة تقود إلى ما تبقّى، وهكذا في تكرارات مقصودة. تحايلت تلك التعرجات على تقلبات المناخ، فأمَّنت الظلال وروَّضت حرارة الشمس صيفًا وكسرت حدة الرياح الباردة شتاءً. أما “المقطم” فلطالما قام بدوره في حماية المدينة الغافية في سفحه على مقربة من “غراس أهل الجنة”.. مقابر الأولياء والمتصوفة”.

***

بالبدء في كتابة الحوار، اكتشفت الورطة التي وقعت فيها. لن تقبل رئيسة التحرير نشر كلامه كما هو. “خزعبلات” هذا ما سوف تقوله بتعالٍ كعادتها، فيما تتفحّصني وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة لا تتخلى عنها. كما لن ترضى – لو حذفتُ الأجزاء الإشكالية –  بموضوع باهت، وستلومني لأنّي لم أفز بسبق صحافي من “كنز يسير على قدمين” كما سبق ووصفت آدم خليفة حين طلبتْ مني محاورته. كنت أسمع باسمه للمرة الأولى، قرأت ملفه في أرشيف المجلة وعددًا من أبحاثه، وقارنت ما وصلت إليه بكلماتها النمطية عنه، فاستنتجت أن انبهارها يرجع فقط لشهرته العالمية وإقامته بين زيورخ وفرانكفورت أغلب شهور السنة، فضلًا عن إجادته أربع لغات أجنبية.

كسبًا للوقت أخبرتها أني لم أقابله بعد، وفي نيتي مهاتفته لتحديد موعد جديد علّي أخرج منه بأجوبة أكثر منطقية على أسئلتي. غادرتُ مقرّ المجلة ما إن انخفضت درجة حرارة الجو في الخارج، حيث أُفضِّل قضاء النهار بكامله في العمل – صيفًا – لأن شقّتي الـ”ستوديو” بلا جهاز تكييف وتقتلني الوحدة كلّما دخلتها. لذا أمضي معظم وقتي إمّا في أجواء المكتب المكيّفة، أو بين الناس على أرصفة ومقاهي وسط البلد.

***

في “حديقة جروبي” بشارع عدلي كان آدم خليفة يجلس إلى طاولة في ركن منزوٍ، يرتشف قهوته باستمتاع، ثم تشخص عيناه نحو شجرة قريبة كأنه يرى فيها ما لا يراه غيره. حييته فلم يرد. جلست في مواجهته في انتظار أن يفيق من شروده.

في ضوء النهار اكتشفت أنه يبدو أصغر مما قدرت، فمع أن شعره رمادي بالكامل إلّا أن وجهه لا يزال محتفظًا بنضارة نسبية مقارنة بستّيني.

التفت لي في النهاية وسألني إن كنت وجدت ناشرًا لكتاب أخيه. كنت قد نسيت أمر “الكشكول” ولم أكن واثقة أين وضعته في فوضى مكتبتي أصلًا. ومع هذا أخبرته أني أعطيته لصديق يعمل في دار نشر شهيرة وأنه سيبلغني بقراره قريبًا. مطّ شفتيه بامتعاض من كان يتوقع أن أفتح حقيبتي وأقدم له الكتاب مطبوعًا ومغلّفًا بورق الهدايا.

 

شجّعتني شطحاته السابقة على أن أحكي له ما حدث معي بمجرد خروجي من مكتبه قبل يومين. أنصت لي بوجه خالٍ من التعبيرات، ثم سأل:

شارع متعرج والمباني شبه الحصون؟!

هززت رأسي بالإيجاب، فعاود التحديق في الشجرة، قبل أن يقول إنه لم يسمع قبلًا بشيء مماثل. لم أكن مهتمّة فعليًا بالمسألة، أقنعت نفسي أنها تهيؤات عقل مرهق. تسكّعت أمس في “قصر النيل” لساعتين، ومع كل خطوة كانت ظلال الطريق المتعرّج شبه المعتم تذوي حدّ التلاشي.

لدهشتي كانت أجوبته على أسئلتي حول القاهرة وعمارتها مختلفة عنها في لقائنا الأول، أسهب في الحديث عن قاهرة الخديوي إسماعيل باعتبارها “توق المدينة إلى التحديث واللحاق بركب العالم المتحضر”، وعن حي هليوبوليس حيث قضى طفولته وصباه. ومشروعه الهادف لمضاعفة المساحات الخضراء في القاهرة الكبرى. لبرهة شككت في أنه الشخص نفسه الذي تحدثت معه من قبل. كان أكثر اتزانًا وارتباطًا بالواقع. لم يأت على ذكر عاصمة الفاطميين إلّا عندما سألته عن خططه المستقبلية فقال إنه يحلم ببناء نسخة أخرى من قاهرة جوهر الصقلي باستخدام مواد البناء نفسها والتصميم ذاته مؤكدًا أن مغامرة كهذه سوف تحظى باهتمام عالمي.

***

حلمت ليلًا بالأوراق المشتعلة تتساقط من “رمسيس هيلتون”. كانت أشد بريقًا وتأججًا مما عاينته في الواقع. قطع نار على خلفية معتمة وقفت أتابعها بانبهار وقد رفعتُ رأسي. على الرغم من بعد المسافة رأيت آدم خليفة يطل من إحدى النوافذ ويرمي مزيدًا من الأوراق الشبيهة بشهب تنطفئ بملامستها للأرض. بعد لحظات وجدتني في غرفة الفندق بحثاً عنه. كانت مرتبة وخالية وتشبه غرفة رأيتها في فيلم أمريكي ذبلت تفاصيله الأخرى في ذاكرتي. بجوار مرآة الحائط الطولية، كان ثمة باب موارب أسلمني إلى سرداب ضيّق، جدرانه مصقولة ولامعة كأنما بُنيت من أحجار كريمة. ومنه انتقلت إلى طريق مبانيه تشبه القلاع، خطوت فيه بألفة كما لو كان بيتي. بنهايته بان لي شارع “العطور” حيث سكنت لخمس سنوات، فعاودني اختناقي القديم.

لم يكن لـ”العطور” من اسمه نصيب.

كنت أدخله فأكاد لا أرى السماء ولا أشم إلّا روائح كريهة تنبعث من محل “فرارجي” اعتدت أن أعبره بقفزات سريعة هربًا من مجال رائحته. شوارع “فيصل” الجانبية المحيطة بـ”العطور” والموصلة منه وإليه كانت أقرب لأمعاء متداخلة وملتفّة حول بعضها البعض منها إلى طرقات خُطت لتأسيس حي صالح لسكنى البشر. لسنوات خمس لازمني شعور أني أقيم تحت الأرض، حيث لا سماء ولا هواء ولا ضوء. لم أكن أسترد إحساسي بأني في عالم الأحياء، إلّا بخروجي من “فيصل” وعشوائيته.

كنت أشتري منتجات الألبان من “الخير والبركة”، والبقالة من سوبر ماركت “الحرمين الشريفين”، والأدوية من صيدلية “يثرب”، فأشعر أن آلة الزمن نقلتني للقرن السابع الميلادي.

في منامي بدوت أكثر تسامحًا مع “العطور”، بالأحرى لم يكن قبيحًا كصورته في ذهني، أو كان كذلك بشكل فني، جمّله الحلم وأزال شوائبه. أمام صيدلية “يثرب” وقف آدم خليفة يشرح لجمهور متحمس خطته لبناء “قاهرة جديدة”. مع كل كلمة يضيفها كان جزء من مدينته المشتهاة يمثل في الفراغ أمامي، حتى تشكلت ساحة يتوسطها قصر هائل بسور عالٍ تدور حوله فرقة موسيقية تعزف موسيقى صاخبة. استيقظت واللحن يتردد في رأسي بلا توقف.

على هاتفي الجوال كانت هناك رسالة قصيرة من خليفة يلفت نظري فيها لفقرة بعثها على بريدي الإلكتروني ويرغب في إضافتها للحوار.

لم أكن أفقت تمامًا من أثر النوم حين قرأت ما كتب:

“مدينتي هي تلك التي تنطبع خريطتها في ذهني وتسكن أزقتها أحلامي. هي ما أحمله معي أينما رحلت، وأجعل منه معيارًا أقيس عليه مدني العابرة.

 

أينما حللت صاحبتني القاهرة الفاطمية كهوس مقيم. كانت مرجعية لكلّ مكان عبرته، كأنها ماضي الأماكن وفكرة المدينة عن نفسها. مثَّل شارع المعز نواة العالم بالنسبة لي. كان محورًا تتفرع منه بقية الشوارع، وتتوزع حوله الأحياء والبلدان.

لم أضع يدي على هذا إلّا بسفري للدراسة في ألمانيا. في ميونيخ الصامتة لمست صخب القاهرة. هناك، تلاشى شريط الصوت المصاحب لحياتي فيها. كدت أجن، كأن الضجيج وحده كان الجوهر الذي يكفل تماسكي ويمنع تحوّلي إلى غبار متطاير في هواء مدينتي العتيقة. لم أعرف أني شفيت من اعتيادي الصخب إلّا حين انزعجت من ضجة خلفتها سيارة مسرعة سرعان ما ابتلعها سكون الليل لأواصل نومي.

قبل مغادرة مصر حكى لي أستاذي أنه درس في الجامعة نفسها عقب الحرب مباشرة، حينها كانت ألمانيا ورشة معمار مفتوحة لإعادة بناء ما تدمر. حسدته وتمنيت لو رجع الزمن ثلاثة عقود كي أرافقه وأرى ما رآه. سافرت وفي ذهني ما رواه لي. كنت أدقق في طبقات المعمار وبصمات التحوّلات التاريخية عليه، فيتضاعف شوقي لـ”قاهرتي”.

لكن المدن ليست أحجارًا فقط. أستعيد ميونيخ الآن، فأهجس بأنها الجميلة الشقراء بفستان من حرير أخضر التي رافقتني في القطار إلى النمسا، بل ميونيخ هي الثوب الأخضر نفسه. بينما نعبر الحدود بين بافاريا وإقليم التيرول، أصيبت رفيقتي بلوثة حنين. بجزل طفولي؛ راحت تشدو بأغنية شعبية تسخر من أهالي التيرول، ثم استدارت نحوي شارحةً أن للأغنية علاقة بالصراعات القديمة بين الإقليمين. من دون أن تقصد دلتني على منهجي في العمارة: المشاعر والتاريخ الشفاهي بتفاصيله الصغيرة المخفية. لحظتها، تجسد شارع المعزّ في رأسي، وقررت جمع كل ما يخصّه من حكايات منسية”.

                             

* من رواية قيد الكتابة.

* وصف قصر الخليفة الفاطمي مستمد من كتاب “سفر نامة” للرحالة والمؤرخ الفارسي ناصر خسرو.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال