الروائيون مطمئنون، وقراء الرواية المخلصون مطمئنون، والصحافيون الكبار يكتبون ما يكتبونه من دون أدنى زعم بأنهم روائيون حقاً. الحدود والسدود بين الجميع واضحة، في الفترة الأخيرة فقط. وبعد أن أشاعوا مقولتهم الرائجة «زمن الرواية»، بدأت هذه الطمأنينة في الهشاشة والذوبان، بدأت تضطرب وتتزعزع، ودخل على الرواية روائيون مثل علاء الأسواني الذي فاقت شهرته شهرة سواه، شهرة الجميع، وأصبحت ترجماته الى اللغات الأخرى أكثر سرياناً من ترجمات نجيب محفوظ. ودخل على الرواية روائيون من فئة كتاب المدونات، ومن فئة بنات الخليج وأحلام مستغانمي وأكاديميي المغرب العربي، ودخل عليها مال وجوائز من فئة جائزة البوكر، مما جعل الرواية ترتعش وتلهث أكثر مما ترتعش وتحلم.
حدث ذلك ونحن نــشم من رائحة عرق الروائيين روائح حريق الطمأنينة، نشمُّ ونعطس، نشمُّ ونتساءلُ، ومع ذلك تبدو الرواية وكأنها الأكثر عصمة من الشعر، فالــذين دخلوا على الشعر وداخلوه وأدخلوه شرايينهم الضيقة المزدحمة بالطموحات الدنيا، ظــلوا هكذا يطاردونه طوال عمره، طوال عمر الشعر، فاكـــتشفوا واكتشفنا أن ذنب الشعر هو أنه قديم، وأن الجـــميع يشتمونه ثم يحلمون به. دخل عليه الصحــافيون بخاصة بعد طلــوع قصيـدة النـــثر التي غشّتهم وأوهمتهم بأنها سهلة، أنها الأسهل، وهي الأصعب. ومعظمهم جرب قصيدة الوزن ولم يتقنها، مع العلم أن الوصول الى مدينة النثر لا يشترط المرور على مدينة الوزن. المهم عمدوا كثوار إلى قصيدة النثر وعمّدوها وصلبوها كأنها البنت الشرعية الوحيدة لأم اسمها الصحافة، وأب مشكوك فيه اسمه الشعر المــترجم. وما دامت البنت ابنة غرام وأيضاً ابنة حرام، فقد صلبوها واغتصبوها وشوهوا جسدها، هي الجميلة العزيزة في أماكن أخرى، لبنان مثلاً، ومع شعراء آخرين جاؤوا بعد أنسي الحاج ومحمد الماغوط مثلاً.
دخل الصحافيون على الشعر، ثم بعدهم وقبلهم دخل على القصيدة النقاد، ثم دخل الأكاديميون. لا شك في أننا لا نفكر في مهنة الشاعر إلا إذا أجبرنا شعره على التفكير في المهنة، إلا إذا أحسسنا أنه، أي الشعر، صنعة صانع محدود بعلومه التي نعلمها نحن أيضاً. فحرية الكتابة تمسح خانة المهنة من البطاقة الشخصية، وضعف الكتابة وركاكتها يعيدان خانة المهنة إلى الوجود، يعيدانها كوصمة، والشاعر الحق يفاجئنا فلا نتذكر أنه صحافي، أو ناقد، أو أكاديمي إن كان كذلك. رحم الله صلاح عبدالصبور وكامل الشناوي وإحسان عبدالقدوس وعباس الأسواني صاحب الروايتين الجميلتين: «الأسوار العالية» و«رجل من الأمس».
ظلَّت الرواية وكأنها الفن الأكثر عصمة، لأنها ما زالت مع الأفلام هي القادرة على أن تمنحنا بوارق أمل في فهم ما يحدث حولنا. فها هو ذا رأسي المصـــلوب ينغــلق وتقفز منه أسماء للنقاد وأكاديمـــيين عــرفــوا الفن معرفة واسعة، فطاردوه وزاولوه ومارسوا معه بدلاً من الحب الفحشاء، كأنه مهنة قديمة تنهزم أمام سلطان علومهم.
رأسي ينغلقُ وتقفز أسماء العقاد والرافعي وزكي مبارك ومحمود أمين العالم وعز الدين إسماعيل وأحمد كمال زكي وسامي خشبة وعبد القادر القط وكيلاني حسن سند والحساني حسن عبدالله وعبداللطيف عبدالحليم وأسماء كثيرين غيرهم من الأكاديميين التابعين أو تابعي التابعين. وكادت هذه الأسماء أن تبطش بي، أن تسحق قلبي وخيالي، لولا اسم المازني الذي عرف الشعر معرفة عاشــق، فكفَّ عنه معترفاً أنه لن يضيف إليه كيـــفيّاً، وأن إضافته الكمية لا يحتاجها الشعر، لولا اسم طه حسين الذي أيضاً عرف الشعر معرفة عاشق، وحاول كتابته أول عمره محاولة عالم أديب، ثم تـــوقف عن محاولاته بسرعة وحزم وعاد الى وضعه الطبيعي كعــاشـــق خالص.
ونسي أنه أحد أفراد جيل الموسوعيين الذين يجب أن يدأبوا على تمــهيد الطرق وتعبيدها أمام أجيــال تالية. ومــع ذلك أدرك طــه حسين أن قارئ الشعر لا يقل عن كاتــبه جــدارة، فأصبح القارئ الأول، أصبح شاعراً بالقراءة، شاعراً بالمتعة، ولأن المتعة في حد ذاتها لا تورث.
حرص طه حسين على أن نرث عنه الطريق إلى المتعة، في رواية «جامع الفراشات» أو على الأصح «هاوي المجموعات»، للروائي الانكليزي جون فاولز، والتي تحولت الى فيلم جميل لا يمكن أن ننسى وليام واينر وسامنتا إيجر وتيرانس ستامب المخرج والأبطال، نتعرف إلى فرديناند كليج الذي لا يشبه طه حسين أو المازني، ولكنه يشبه الأكاديميين الشعراء.
يربح فرديناند كليج مبلغاً كبيراً في أحد رهانات كرة القدم، فيذكرنا بطالب يربح إجازة الدكتوراه الخاصة به في الأدب، وبعد ذلك يختطف طالبة الفنون الجميلة، يختطف ميراندا، ويحجزها في بدروم منزله، حتى تموت، فرديناند كليج ليس له أصدقاء على الإطلاق، لم يصاحب العدميين، ولا الشعراء الممرورين، كأن قرينه لا يحب من الشعراء إلا الموتى أو الذين توقفوا فأصبحوا في حكم الموتى.
فرديناند لم يصاحب المشاة في الطريق العام، ولا الجالسين في المقهى، مشاعره ليست عميقة ولا طريــفة ولا قوية، هو جاف تنقصه روح السخرية والفكاهة والمداعــبة، لا يبدي أية قوى جنسية، ولا يزعمها، على العكس من أشباهه الأكاديميين، فرديناند كليج يملك فكرة سيئة عن نفسه، مما جعـله لا يرتقــي بنفسه تلك مراقي أعلى أخلاقياً أو ثقافياً أو روحياً، الأكاديميون أمثاله يكتفون بالسعي وراء المعلم، وراء رئيس الطائفة، شرط أن يكون صاحب سلطة ومنافع وضرورات.
يستطيع فرديناند كليج أن يلقي القبض على ميراندا بالطريقة ذاتها التي يلقي بها الأكاديميون القبض على قصيدة، ومع الاثنين سنشعر بالخوف على ميراندا أو على القصيدة، لأننا نعلم أنه ستتحقق أسوأ المخاوف.
يحتفــظ فرديــناند كليج بميراندا لمجرد متــعة الاحتفاظ بها أسيرة لديه، وهو يرغــب في مد فترة بقائها في سجنه الى أطول وقت ممكن، فيما الأكــاديمــي الشاعر يحــتفظ بقصيدته لمجرد متعة الاحتفاظ بها أســيرة لديه، وهو أيضاً يرغب في مد الفترة، فرديناند كليج يشعر بالاستياء إزاء الناس الذين يتمتعون بقدر أكبر من التعليم، أو من الأموال، وقرينه الأكاديمي يشعر باستياء مماثل إزاء شعراء مطلوب منه، أن يدرس شعرهم، ويكتب عنه، ويمتدح أو يذم، كأنهم يفوقونه.
لذا فإنه يفضل أن يكون هو نفسه الشاعر، وألا يعترف إلا بالذين يبادلونه الاعتراف، تذكّر المنسيين والممرورين والعدميين وشركاء الكيف، لا شيء مما يقوم به فرديناند كليج وقرينه يتميز بالحرية، وستبذل ميراندا، ومثلها ستبذل القصيدة، محاولات، ولكنها لا تستطيع أن تجعل كليج أو قرينه يعلو ويرتفع فوق عقليته المغسولة بمياه الجفاف، فرديناند والأكاديمي كلاهما لا يستطيع أن يتوافق مع شخصيتها – ميراندا أو القصيدة – المتفردة كإنسانة (وكقصيدة) وكعقل وكروح، جمالها الآسر يصيبه بالدوخان والارتباك والحيرة، ثم يصيبه الغضب، ثم يصيبه باحتقاره لنفسه، الاحتقار القاهر يسدُّ عليه كل الطرق التي يمكن أن يجتازها ليتواصل مع ضحيته – ميراندا أو القصيدة – وإذا عرضت ميراندا نفسها على فرديناند ستتسع الهوة بينهما وتتصادم الدوافع وينطلق الحقد، وتموت ميراندا، تموت الفراشة، ومثلها تموت القصيدة، الوسيلة الوحيدة لاستمرار حياتيهما، هي أن تتشبه كل منهما بإحدى الفراشات السجينة مع مجموعة فراشات فرديناند أو الأكاديمي، لا حيّة ولا ميتة، لا حارّة ولا باردة، قصائد كليج هي فراشاته السجينة في مجموعته.
فراشات الأكاديمي هي قصائده السجينة في مجموعته، عموماً ما يفعله فرديناند أو الأكاديمي هو محض حريته، حريته التي لا تجيب على سؤال الحرية، كيف يمكن المرء أن يحقق حريته، طه حسين أصرَّ على ألا يكون جامع الفراشات أو هاوي المجموعات، بينما آخرون أصروا على أن يكونوا مجرد فرديناند كليج، وليس غريباً أن بعض صحافييـــن طيــبين سيمــتدحونه ويجعلونه رمزاً صغــيراً من رموز زمانه، وربما يشيرون إليه بزهو ويقولون: هذا الفرديناند كليج بطل من زماننا، رحم الله طه حسين، ورحم الله المازني.