عبد الرحمن أقريش
تنام المدينة، يزحف عليها الظلام تدريجيا، يحجب وجهها القبيح وتشوهاتها الداخلية إلى حين، مصابيح قليلة عمياء وأخرى معطوبة، تبدو الأزقة والشوارع مقفرة إلا من بقايا سكارى ومشردين بدون مأوى.
في الصباح ومع الخيوط الأولى للفجر، تستيقظ الشاحنات مبكرا، تتوقف عند مدخل الحي الهامشي، تنتظم في صف أو صفين، تطلق أبواقها، ينزل (عمر البراح)، رجل ضئيل يرتدي بدلة العمال الزرقاء، يتقدم خطوات إلى الأمام، يتوقف، يولي وجهه شطر الحي الصفيحي، ينفخ في بوق نحاسي صغير.
ويصيح.
– والعيالات، واخدامات (زارابا) وفابريكات (الشلوح)…انزلوا تخدموا راه السردين جاء…العمل غا يبدا مع السبعة ونص…
تمضي لحظات قليلة.
يخرج الرجال والنساء من مساكنهم، يرتدي الرجال في الغالب بدلات عمالية زرقاء وسوداء وأخرى باهتة لا لون لها، في حين تختفي أجساد النساء تحت ملايات رمادية، ينحشر الجميع داخل الشاحنات، تشحنهم، وتنطلق في اتجاه الحي الصناعي على بعد خطوات من المحيط الأطلسي، حيث تنتشر معامل تصبير الأسماك وتمتد مثل شريط أفعواني على الواجهة البحرية للمدينة.
…
الحي الصناعي، طريق الفابريكات.
يمسك الحارس المقبض الحديدي، يضغط عليه بقوة، يميل عليه بجسده الضخم، تنزلق البوابة على السكة الحديدية، تنفتح، يدخل العمال على شكل جماعات صغيرة، رجال، نساء، شباب ومراهقون.
يفرغ الرجال حمولة الشاحنات من سمك السردين، تدور الآلات، تقف النساء في صفين متقابلين، ينتظمن أمام الحزام الآلي المتحرك، يمسكن مقصات معدنية صدئة، وبحركات ميكانيكية سريعة ومنتظمة يقطعن الرؤوس والزعانف، ثم تتحول الأسماك إلى جثث محنطة داخل العلب المعدنية.
أمام النساء تنتظم أنابيب عمودية ينزل منها صبيب الزيت بسخاء، يتحرك الشباب بحيوية، يسحبون العربات، يجرونها، يدفعون الصناديق بهمة ونشاط، تدور عجلة الإنتاج، تدور وتدور ولا تتوقف…
لعقود من الزمن كان الشغل هنا رديفا للفقر والحاجة، كان شغلا محتقرا اجتماعيا، يلجأ إليه الفقراء وسكان الهوامش والنازحون من البوادي تحت ضغط الحاجة وسنوات القحط والجفاف.
لعقود من الزمن كانت البلاد كلها تتنفس بصعوبة، وتعيش تحت وطأة التأثير النفسي لسنوات الرصاص، وبسبب الجشع والاستغلال الفظيع، كان الأغنياء يزدادون ثراء، وكان الفقراء يغرقون في الفقر والعرق وتنغلق عليهم دوائر البؤس.
يدين جيلنا بالكثير للمدرسة والسينما والكتب، ولكنه حتما يدين لهذه المعامل بما هو أهم، في بداية كل صيف، عندما ينتهي الموسم الدراسي يشتغل الكثير من الشباب والمراهقين في هذه المعامل، ويقضون جزءا من عطلتهم الصيفية هنا.
اشتغلنا ونحن شباب ومراهقون في هذه المعامل لفترة عابرة مرة أو مرتين، ربما أكثر، هنا تعلمنا دروسنا الأولى في الحياة، دروسنا الأولى في الفقر والغنى والصراع الطبقي والعنصرية الاجتماعية.
في المدينة والفضاءات العامة ينظر الأغنياء إلى الفقراء بكثير من الاحتقار والتعالي، ينظرون إليهم دائما من الأسفل، ينظرون أولا لأحذيتهم المطاطية وملابسهم القذرة، ثم ترتفع أعينهم صعودا إلى الأعلى، يتقززون، تتملكهم رغبة قوية في سحقهم بأحذيتهم كما لو كانوا صراصير قذرة، يتصورون أنهم لا يستحقون الحياة.
لسنوات ازدهر قاموس مقيت وجارح من التحقير والإهانة والتبخيس والعنصرية (بوزبال، جالوف، البخوش، الحشرات، الهجيج، الهمج، الهيبوش، العروبية، البدو…) قاموس استعمله الأغنياء ضد الفئات الدنيا من المجتمع، وطبعا استعمله الفقراء أيضا ضد بعضهم البعض.
من جهتهم، يشكل العمال الفقراء في جزء منهم على الأقل، شعبا من الغشاشين والكسالى، تمتلئ نفوسهم بألوان من الحقد الطبقي والكراهية والحسد ضد الأغنياء، أصحاب المال، وأرباب العمل، أصحاب البدلات والقمصان البيضاء النظيفة، تنحني رؤوسهم في إشارة إلى الخضوع والخوف والاستسلام، وبالمقابل تنضح عيونهم وأنفسهم بالغل والضغينة والحسد، يتسلمون أغلفة صفراء تضم بضعة دراهم، قيمة أسبوع كامل من العمل، يفتحونها، يدسونها في ملابسهم القذرة، ملابس تفوح منها رائحة الصهد والعرق وعطانة الأسماك.
أحيانا كثيرة يتحول الفقراء إلى فلاسفة ينطقون بالحكمة، يفلسفون الفقر والحظوظ والأرزاق والسعادة، يستعملون تعابير غريبة ومتناقضة، قاموس يمتزج فيه الوعي الشقي بالجهل، والدين، والرفض، والخضوع والاحساس الحاد بالكرامة المهدورة.
– الرزق عند الله…الله يعطينا فقط الصحة والسلامة…
– من قنع شبع…
– الصحة هي كل شيء…
– ماذا كنا سنفعل بدون صحة…الله يقاد الصحة مع العمر…
– الله يرزقنا حسن العاقبة…
– لا أحد يموت جوعا…
– ماعنديش وما خصنيش…
– أنا النفخة تعيشني أربعين عاما…
(يستعمل المغاربة كلمة النفخة، بمعنى عزة النفس، الكبرياء والإحساس بالكرامة)
يكدح الفقراء في المدينة بالليل والنهار، في الميناء، والمعامل، في الضيعات الفلاحية، في المناجم وأوراش البناء، وفي كل مكان، تجري الثروة بين أيديهم الخشنة، وتحت أقدامهم، ولكنها تنزلق، تنساب، تجري وتذهب بعيدا لتستقر في أيادي ذوات ملمس ناعم، أيادي لم تشتغل أبدا، لم تمسك يوما مجدافا، أو فأسا، أو محراثا، أيادي لم تذق يوما خشونة المراكب ولا طعم الملح في الجروح.
ينظر العمال الفقراء إلى الأغنياء، يتأملون أياديهم الناعمة ووجوههم الموردة، وجوه تنضح بالصحة ونضارة الحياة، ثم ينظرون بحسرة للأخاديد التي حفرها الفقر والعمل القاسي في أيديهم، على سواعدهم، في وجوههم وجباههم المتغضنة، يشعرون بالحيف والكثير من الغبن والغضب، ولكن أكثرهم لا يحتجون، بعضهم لا يحتج أبدا، فالفقر والغنى قدر وابتلاء، والمال والأرزاق في نظرهم أسهم مقسمة هناك في الأعلى.
في الحقيقة، يبدو الإيمان الديني الأعمى بالقضاء والقدر، والرضى بالقسمة والحظوظ أمرا ضروريا وحيويا، لولاه لانتحر نصف الفقراء.
في قلب الحي الشعبي ينتصب مسجد (سيدي عبد الجبار) الفخم الذي شيده أثرياء المدينة، يخطب الفقيه في الناس، يخاطبهم بنبرة اليقين، يرتفع صوته وينخفض في إيقاع دراماتيكيي منتظم.
(القناعة كنز لا يفنى…والطمع خطيئة والعياذ بالله…إذا رضي العبد بما قدم الله له، فقد تأدب مع الله، لأن القسمة قسمة الله…نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا…لقد ابتلى الله الأغنياء بالغنى، وابتلى الفقراء بالفقر، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط والعياذ بالله…)
…
يقف (المايسترو) بسيارته (سولارا) الفخمة أمام المعمل، تنفتح البوابة الحديدية، ينزل، يمشي بتؤدة، يحييه الحارس بحركة عسكرية وبانحناءة مبالغ فيها، يفك الرجل أزرار سترته، تعبث الريح برابطة العنق الملونة، هو رجل في حدود الخمسين أو يزيد قليلا، أنيق، حليق على الدوام، يعبق المكان بأريج عطره الغالي، شعره مصفف بعناية، مدهون، ومصبوغ بلون أسود فاحم وبراق في إصرار منه على تحدي السن وعوامل الزمن، يدخل مكتبه، ينجز عمله الإداري في لحظات، ثم يخرج إلى الساحة، يقف في مكان مرتفع، مكان يهيمن على كل مرافق المعمل، يدخن بهدوء، يتابع عن قرب سير العمل، ينظر بعيون حذرة إلى العمال، يمرر للمستخدمين تعليمات صامتة وبحركات خفية.
يتابع حركة الفتيات، فتيات في عمر الزهور، أغلبهن مراهقات، بعضهن تلميذات في الثانويات والإعداديات، يشتغلن أيام الآحاد والعطل، يتأمل أجسادهن القوية المشدودة، يقارن بينهن، يتخيل الغلال المثمرة التي تخفيها ملابسهن البسيطة، تستيقظ رغبته، تتحرك، تشتعل، يرسم في ذهنه سيناريوهات بتفاصيل شبقية، يتخيل نفسه حكما في لجنة (كاستينغ) لفرز وانتقاء أيهن الأجمل؟ أيهن أكثر إغراء؟ أيهن أكثر جرأة؟ أيهن أقدر على الفعل الفاضح الممتع اللذيذ؟
ثم ينخرط في لحظة بياض قوية، يفقد إحساسه بالزمان والمكان، يغيب، يتوالى شريط الصور في ذهنه، يستسلم لهواجسه، يقارن بين أجساد المراهقات القوية المشدودة والخشنة وبين جسد زوجته، جسد أبيض مرمري، طري، لين، أملس، نظيف، تستيقظ حواسه كلها، يستحضر بالخصوص هوسها بالمساحيق والعطور الغالية.
في كل مرة تستوقفه هذه الأجساد الفتية، يفكر، يقارن، ويصل دوما إلى نفس النتيجة، عندما تفقد الأجساد شبقيتها، تموت، تصبح رخوة، محنطة، أو متكلسة وبدون روح.
ثم، عندما يستحضر روائح السردين والعرق الملتصقة بجلود الفتيات ترتسم على وجهه ابتسامة مؤلمة وجامدة، تشمئز نفسه، تخبو رغبته، تنطفئ، ويلتفت إلى الجهة الأخرى.
غير بعيد، يقف (الباطرون الفرنسي)، (النصراني) كما يسميه العمال، ينظر صامتا، جامدا مثل تمثال، بجانبه، يتحرك الخبير الأبكم، يشرفان على عملية الشحن المتجهة إلى الميناء ومنه إلى أوروبا، يشير الرجل الأبكم بسبابته اليمنى إلى علبة كرطون تحمل بقعة زيت سوداء، يتم إنزال العلبة بسرعة، تفرغ، يتم تعويضها بعلبة أخرى نظيفة، وتأخذ مكانها داخل الشاحنة.
ثم على بعد خطوات، يحدث أمر ما، يحدث بهدوء دون أن ينتبه إليه أحد.
تتحرك إحدى النساء العاملات في اتجاه (المايسترو)، تقترب، ثم في نقطة ما تتوقف صامتة، تقف أمامه مباشرة، من الواضح أنها تريد أن تسأله عن أمر ما يخصها، ولكنها تبدو خائفة ومترددة.
ثم ينتبه هو لوجودها، ينظر إليها، يسألها بحدة.
– أشنو باغية؟ (ماذا تريدين؟)
– أجرتي في الأسبوع الماضي…
– مالها (ما بها؟)
تتردد قليلا وتواصل.
– كانت ناقصة.
– ومن بعد؟ (وماذا بعد؟)
– إوا راك عارف، زعما أنا راني قلابة…
في إشارة إلى وظيفتها، تقصد أنها تفتش النساء العاملات عند الخروج من المعمل للتأكد من أنهن لا يخفين علب السردين في طيات ملابسهن الداخلية.
يمتص دخان سيجارته، يحبسه للحظات، ثم ينفثه، يرسله بعيدا، ينظر إليها باحتقار، ثم بغضب.
يخاطبها بحدة.
– آشنو كتقلبي؟ الخراء؟
تكتم غيظها، وتنصرف مهزومة.
…
ثم ينتهي العمل أخيرا، يخرج العمال على شكل جماعات صغيرة، يغادرون، تتفرق بهم السبل في اتجاهات مختلفة، تحشر النساء أجسادهن في ملايات رمادية رخيصة، تتوارى وجوههن وراء نقب سوداء، يفعلن ذلك لأن الشغل في معامل السردين أمر حقير في نظرهن، ينظرن إليه وينظر إليه الكثيرون كما لو كان عارا أو فضيحة تستوجب الستر.
الشغل هنا عنوان للتهميش والاقصاء الاجتماعي، ونقاب العاملات رديف للفقر وعلامة على الاستلاب، النقاب هنا ليس رمزا دينيا، هو مجرد قناع، ستر، ستارة، يراد له أن يخفي وجه الفقر، ويغطي جراح الذوات المعطوبة.
هنا عاشت آلاف النساء والفتيات والتلميذات العاملات اغترابا حادا وتمزقا داخليا مؤلما بين الرغبة في العمل والكسب، والحرص على التواري والغفلية، في رحلة الذهاب والإياب من وإلى العمل، حرصن دوما على إخفاء وجوههن وراء هذه النقب السوداء تجنبا للتنمر والسخرية واللمز والتحقير المرتبط بالفقر، يشتغلن، يكدحن بقوة، يقاومن الفقر وقسوة الحياة، ويكرهن بالخصوص لقبهن الاجتماعي (السردليات)، لقب قاس، عنيف وجارح، يحملنه بدواخلهن مثل جرح غائر.
تحت أجنحة الظلام، يجتاز العمال السكة الحديدية، يلتفتون، يعبرون الطريق بخطوات مسرعة وحذرة، يغادرون الحي الصناعي في اتجاه الأحياء الهامشية وأحزمة الفقر التي تطوق المدينة من كل الجهات، يسمع قطار الشحن آت من بعيد، تلمع مصابيحه، تخترق جوف المدينة، تهتز الأرض، ترتجف تحت أقدامهم، ثم تدريجيا تختفي أجسادهم مثل أشباح، ويبتلعهم ضباب أزرق وكثيف.
على مشارف الحي الصفيحي، تنخرط فتاتان في كلام حزين عن الظروف وقسوة العمل، عن الفقر وبؤس الحياة.
تتحدث الأولى بصوت تريده قويا وحاسما.
– شوفي يا أختي، رغم كل شيء الشغل ماشي عيب، والفقر أيضا ماشي عيب.
ترسمان لحظة صمت، يسمع وقع خطواتهن العجلى، ثم أخيرا ترد الثانية بصوت هادئ ومجروح.
– بصح، عندك الحق، الشغل ماشي عيب، إنما الفقر هو روح وأب العيب كله (أب العيب وأساسه).