طبوغرافيا
يحيا الأموات جوار الأحياء الميتين، يمكنك أن تلاحظ ذلك في الأدب الحديث، كله مشغول بشخص يدفن نفسه بإحراجٍ كبير. أنا مثلا عندما أطير أشعر بالإحراج في أحلامي، الأمور على هذا المنوال، تتم بيدٍ واحدة، لا تصفق وحيدة، يمكنك أن تحب امرأةً وتقتل لأجلها نفسك، أو تقتل شخصا آخر، وفي العموم فإن الكلمات الدالة – تلك الأكاذيب – حيوية، وكلها مكتوبة على وجهك، بين يديك، وفي عيون حبيبتك. كل شيء محسوب يا عزيزي، متى ستغرمان، ومتى ستفترقان. العصرُ الحادث فيك سيكون عليك مواجهته وحيدا، بالروح المزدوجةِ لشيطان، أو بالروح الوحيدة لشاعر، أو حتى بالروح الخائفة لطفل. الخوف هنا لا واعٍ، الخوف هنا هرم كبير، يقف عليه السادن الأكبر ملوحا بذراعيه في وجه سيد الأكوان. تخيل معي خوفا يتفاقم في البشرية منذ لحظة ما، انفض عنها كل شيء. ربما تكون لحظة قرر فيها حبيبان أن العالم هذا أكبر من شقيّ أعينهما، وأن عليهما أن يريا الحياة من خلال ذلك الشق. من خلال أسطر الشعر، أو شقوق الثعابين، أو خطوط الكوكايين، أو حتى الانكسار الجميل المعذّب. لقد عفا الزمن على هذه الأطوار، التي تبدّل بسحرها خيمياء العطف. أنا أيضا أشعر بحزن كبير، أنا شخص حزين. وعبر شتاء مريع، تلبدت روحي فيه بالغيوم، كنت سكران كنت نرجسا وحيدا في البحيرة، ثم انتصف انعكاسي وصرت رجلا واحدا بنجدين، ثم ولى الشتاء، وهذا مارس، يدوّر طاحونة الطبيعةِ والأطوار، أخشى الصيف، أخشى السماء المفتوحة، الصافية، الحمراء والشمسَ التي أحفر بها عيني كلما راقت روحي. وعموما فإنني بعيدٌ أو غائر. سواءٌ في عيني كل المسافات. أقدّمُ لكم هذا الشجر، انظروا تلك الرعشة على غصن السيسبان، إنها الجنية القديمة، التي طلبتها في يوم طفوليّ بحريّ في صحراء طرابلس. بعيون متسعة، مزاجها الناري، مَزجُها الحرّيف، مقاصدها النبيلة لأنها مقاصد قديمة، شاركت في حملاتٍ طويلةٍ على عمارات البشر، خسرت أبناء وأزواجا وأحباء. جسّدت في فترةٍ حاسمة في تاريخ الأرض، صنم الثورة، أرسلت كل أخوتها وقودا لسقوط الشهب، إذا كفّت عن لعانها الطويل، طرب لها القلب، وحتى في أحلك أوقات يأسي، عندما أقف وجها لوجه مع الموت، الموت الكبير، وليس رسله، في تلك الأوقات، يمكنها أن تجذبني بغمزةٍ من تحت الحربة اللعينة، وتصرفني في أمورٍ تعرف تماما أنني أحبها، تعدني مثلا أن خاتمتي ستكون بين المعاجم، أن الوحدة الهائلة التي أعاني منها في البصر والسمع والحس والذوق وحتى تتبع الأريج، أن هذه وحدة السحرة، أرفض هذا بحسم، تقول أنت شاعر، أردّ أنني لا أنظمُ كلامي على وقع مفاصل القوافل، تقول أنت مجنون، أخبرها أن العنصر الأصلي في روحي، غير قابل للستر. لن تسمّيَ مسألتي بالكهانة، اهتماماتي في الحقيقة بسيطة وخطيرة، وبخلاف حاجتي المستمرة لإطفاء قلبي المستعر، فؤادي، في عيونٍ أو أيدٍ أو صدور، فإنني أمضي الساعات مراقبا حركة السماء، لديّ نظارة مكبّرة ميدانية، باهظة الثمن، ومثيرة للشبهات، ولبيتي شرفةٌ واسعة، تطل على الشرق. الشرق. إلاهة. البراح. الشمس. أعود إليك من جديد، صرة البهلول المقدس قد خسرتها، بكساد معارفي في جهلي، بغرور بشريّ رائع، روحي محمومة حول فمي، لا أعرف في الحقيقة لماذا أمسكها عن الموت، الأمر يشبه الأورجازم، لكن ما ستقذفه هو روحك، من فمك، هؤلاء الذين يدعونني إلى الخروج، لا أعرفهم، وجوههم مدسوسة في المكان، في البداية آمنت بوجودهم دون أن أراهم، ثم كفرت به، ثم رأيتهم، ومرّرتهم على فكري وأملي، أعرف أن محاولاتهم توقفت منذ زمن. لكنني جالس هنا على البوابات، بلا حاجة، أنا مواطن الليل العتيق، سارق القطعان، في كل يوم أكتشف وجها لي، أعرف: الصمود بوجه ثابتٍ لا يحدث، والتغير صفة الحدثان. كل هذا يا حبيبتي لن يعني لكِ شيئا هنا، في عين العاصفة، التي تنشب بصيرتها في الطبيعة، بمجونٍ مدوّخٍ، ووجهٍ قسيم، واسعٍ وموشوم، وجهٌ هو للموتى الخلود وللأحياء هو ذروة الشقاء.