طانيوس

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 36
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

الطاهر شرقاوى

عادة هناك شخصية ما تأسرك عندك قراءتك لرواية أو مشاهدتك لفيلم، بحيث تظل موجودة فى الذاكرة، وربما تضبط نفسك من آن لآخر وأنت تفكر فيها أو تحاول أن تمنحها – هكذا بكل أريحية – لشخصية واقعية تدور فى فلك حياتك، من هذه الشخصيات كان “طانيوس” فى رواية “ناصية باتا” لحسن عبد الموجود.

شخصية طانيوس تبدو من الوهلة الأولى وكأنها شخصية واضحة عند تناولها، فمن السهل أن ننظر إليه من زاوية نفسية ونقول ونحن مرتاحون لهذا الحكم، أن طانيوس ما هو إلا شخصية “مازوخية” بامتياز، يستمتع بالقهر والألم الواقع عليه من قبل المدير وطلاب المؤسسة، وعلى ورغم تأففه الدائم وضيقه من هذه المعاملة إلا أنه يتلذذ بها وياستمرئها، لكن هذه القراءة تبدو – بالنسبة لى- خادعة، أولا: لأنها لم ترد على خاطرى عند قراءتى للرواية، وثانيا: وعلى اعتبار أن القاريء مشارك فى العمل نظرت إليه من زاويتين مختلفتين هما اللتان وردتا على ذهنى عند الانتهاء من الرواية.

الزاوية الأولى: أننى رأيت طانيوس من خلال زاوية اجتماعية، باعتبار أنه ينتمى إلى أقلية دينية،  ويبدو هذا واضحا من خلال  اسمه الذى يبدو غريبا وغير مألوفا، وأيضا من خلال عمله فى تلك المؤسسة التى تدير مدرسة داخلية، ولم تتوسع الرواية فى تحديد ماهيتها أو ذكر تفاصيل أكثر دقة عنها سوى أن اسمها مؤسسة أغسطس، والتى يمكن وبكل سهولة أيضا أن أضع لها سيناريو بأنها مؤسسة دينية أو خيرية تدير تلك المدرسة، وأنها محافظة لدرجة تصل الى الصرامة فى تعاملها مع الطلاب، وهو ما جعل الناس تثق فيها ويرغبون بشدة فى إلحاق أولادهم بها.

 إذن فطانيوس ينتمى إلى أقلية دينية، ويعمل كنائب مدير فى مؤسسة تدير مدرسة داخلية، وكأى أقلية فى العالم لديه تلك الثقافة التى تجعله يمتلك القدرة على مواصلة الحياة دون أن تتعرض حياته أو معتقداته الدينية الى الجور والظلم، أنها أشبه ما تكون بالحياة على حد السكين، فطوال الوقت هو مهيأ لتحمل المتغيرات السياسية والاجتماعية التى تدور من حوله برحابة صدر، وقادر على التأقلم مع أى جديد فى سبيل أن يبقى هذين الشيئين “الحياة والدين” بعيدا عن تلك المتغيرات العاصفة، بهذا المنطق يتعامل طانيوس مع مديره، فيتقبل فى صمت إهاناته المتعددة وتحكمه الطاغى وسعادته فى أن يظهر لطانيوس فى كل لحظة أنه المدير الحكيم وأن نائبه – أى طانيوس – لا يمثل شيئا ذا قيمة فى المؤسسة، وطانيوس يتقبل ذلك ولكنه فى نفس الوقت يلجأ مثل كل شخص يجد نفسه أقلية فى مواجهة أغلبية، يلجأ طانيوس وبدافع من العقل اللاواعى إلى الانتقام من المدير عن طريق أحلام اليقظة، وبهذا يحقق هدفين فى وقت واحد، الأول: أنه ينتقم من مديره حتى ولو كان ذلك الانتقام يتم بشكل افتراضى وغير متحقق وعبر استخدام الخيال، مما يحقق له نوعا من التوازن النفسى، فطانيوس ليس شخصا منسحقا أمام مديره ولكنه “يفوت بمزاجه” استعدادا للانتقام منه بطريقته الخاصة، أما الهدف الثانى فهو المحافظة على “الحياة” أى حياة طانيوس نفسه، من تصرف أحمق قد يتخذه المدير فى لحظة غضب، سواء بقطع عيشه ورفته من العمل أو تكدير وتسميم حياته بمشكلات لا طاقة له بمواجهتها.

وبما أننا استنتجنا أن المؤسسة تنتمى الى طائفة دينية أو أنها تابعة لدير أو ما يشبه ذلك أو على الأقل  تدار بنفس أساليب المؤسسات الدينية، وبالتالى فمن المنطقى أن يكون مدير طانيوس من نفس ديانته وملته، وهو ما يبدو ظاهريا متناقضا مع مضمون الفقرة السابقة، ولكن بقليل من التدقيق والتروى يتضح أن المدير والذى هو أقلية أيضا يمارس ديكتاتوريته على طانيوس الذى من نفس أقليته كنوع من الحفاظ على توازنه النفسى وكتعويض غما يلاقيه فى الحياة، فالمدير الذى  يتم التعامل معه خارج أسوار المؤسسة من قبل المجتمع بإعتباره شخصا ينتمى الى الأقلية، ويتم التعامل معه من قبل وزارة التعليم التى تشرف على مدرسته باعتبارها أيضا مدرسة أقلية بالنسبة للمدارس الحكومية التابعة لها، هذا الضغط الواقع على المدير من كل الأطراف يجعله يحتاج لأن يشعر ولو بشكل غير حقيقى بانه ينتمى الى الأغلبية، ولن يتأتى ذلك إلا بأن يمارس نفس الثقافة التى تمارسها الأغلبية على شخص ينتمى الى الأقلية، بالتأكيد ليس ينفع ذلك مع الطلبة الذين يدرسون لديه، لأنهم فى الواقع هم أبناء الأغلبية الذين يعيشون خارج سور المؤسسة، ولانهم – فى شعورهم الداخلى – يمتلكون هذا اليقين بأنهم منتمون إلى الأغلبية، ويتعاملون مع الإدارة من هذا المنطلق، إذن الشخص المناسب والذى يصلح لأن يمارس عليه المدير هذا الدور هو طانيوس ابن ملته وأقليته ومرؤسه فى العمل، وحتى يشعر المدير أكثر بأنه من الأغلبية لابد وأن تكون أوامره  ونظرته الى الطرف الآخر مبالغ فيها، وربما تصل الى درجة اللامنطقية، فيأمر وبكل ثقة طانيوس أن يذهب الى مكتبه ويكتب لنفسه خصما من المرتب بثلاثة أيام، بل وأن يوقع طانيوس بنفسه وبيده على الخصم من مرتبه.

الزاوية الثانية التى يمكن نظرت منها الى شخصية طانيوس، هى وضعه فى نطاق سينمائى، وبالتالى يصبح بالنسبة لى ممثلا بارعا، استطاع أن يؤدى وبمهارة فائقة الشخصية المكتوبة فى “ناصية باتا”، والتى تبدو من الخارج وكأنها غير قادرة على الحسم واتخاذ القرارات المناسبة فى الوقت المناسب، والتى من السهل أن يدخلها  الطلبة فى دائرة المزاح المتبادل بينهم، أو يضعوها فى مواقف محرجة، لكنه  – من داخله – يعلم أن هذا غير صحيح، فهو يعرف “دبة النملة” فى المؤسسة، لدرجة أنه يعرف كميات العصير التى شربها الطلبة أو المخدرات والسجائر التى يدخنونها فى السر.

 وعلى الرغم من أنه يؤدى دورا مساعدا فى فيلم “ناصية باتا”، إلا انه الدور الذى لن ينساه النقاد أو المشاهدين، وبهذا المنطق يبدو المدير وكأنه يؤدى دورا عاديا، فمن الطبيعى أن يتسلط المدير أى مدير على موظفيه، ومن الطبيعى أن يفتخر بانجازات صغيرة باعتبارها انجازات ضخمة بل وينسبها الى نفسه، كافتخاره بأنه السبب فى هدم محل “باتا” المجاور للمؤسسة وأن الحكومة استجابت لخطاباته ومبرراته التى صاغها لضم المحل الى المؤسسة. لكن دور طانيوس يختلف، فدوره يبدو مركبا وليس بسيطا ويحتاج الى ممثل غير تقليدى ليؤديه، فهو يمثل هنا الرأس الثانى فى التسلسل الهرمى داخل المؤسسة، وفى نفس الوقت هو المتصدر للعلاقة المباشرة مع الطلبة، حائلا بذلك بين الطلبة والمدير، يبدو لى طانيوس فى هذا الدور شخصا خمسينيا يرتدى  بدلة كلاسيكية ويضع نظارة على عينيه، يعرف عن ظهر قلب الدورة المستندية للأوراق والروتين الحكومى، كما يعرف أيضا أساليب الطلبة فى التملص من القيود والواجبات، طانيوس هنا مثل من فتح عينيه فوجد نفسه فى دير، هو ابن  هذه المؤسسة، هى عالمه الذى يحياه، العالم بالنسبة له هو ما يقع داخل المؤسسة لا خارجها، لا سيما لو عرفنا أنه يتيم الأب والأم منذ ولادته، وبذلك تتحقق فيه احدى صفات البطل الأسطورة ألا وهى اليتم، التحرر من علاقة وقيود الأب والأم، ولقد أجاد طانيوس فى التعبير عن تلك الشخصية.                       

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم