ومن “مدينة الحوائط اللانهائية” اقتبست عنوانا لمقالى عنه أو عن مجموعته القصصية المتفردة ” حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها” الصادرة عام 2010 عن دار نهضة مصر.
ذلك لأن طارق امام يمتلك بالفعل خيالًا غير محدود وقدرة على مزج هذا الخيال الجامح بالواقع ليخلق واقعا جديدًا، عالما من صنعه هو، عالم رغم لا معقوليته الا أنك لا تملك الا أن تصدقه لأنه يصدر عن موهبة أصيلة لا افتعال فيها.
أي سر ذلك الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من أجله .. رغم أنه في نهاية المطاف ــ إذا ما أمعنا النظر ــ لا ينفع في أي شيء ؟!
هذه كلمات جابرييل جارسيا ماركيز التى اختار امام أن يضعها فى بداية مجموعته القصصية واختياره هذا ناتج عن وعى بما يكتب فقصص المجموعة تنتمى إلى اتجاه فى الكتابة وهو الواقعية السحرية والذى كان ماركيز واحد من أهم ممثليه بل صار اسمه مرادفًا للمصطلح.
بعد مدخل قصصى قصير بعنوان “صانع الصور” عن المصور العجوز الذى لا يذكر متى استغنى عن عينيه تمامًا تأتى قصة كفافيس عن الشاعر اليونانى السكندرى كفافيس ففى زيارة متخيلة لبيت الشاعر يخلق الراوى عالمًا اسطوريا غرائبيا يليق بسيرة الشاعر الذى يعطيه قدرات غير عادية
“كنا الآن في بيت الشاعر الذي أبى إلاَّ أن نقضي ليالينا الثلاث الفائتة مشوشين، بأحلام سيئة و خوف مجهول، و ها هو يواجهنا بتشوش جديد لا قِبَل لنا به. فور أن وضعنا حقائبنا الصغيرة في غرف الفندق الساحلي، و بمجرد أن فضضناها بادئين بترتيب أشيائنا في الغرف، اكتشف كلٌ منا ضياع نسخته من مختارات الشاعر، التي صحبناها معنا في رحلتنا من العاصمة إلى هنا، و ظللنا نطالعها طوال رحلة القطار” وهى النسخ التى يسرقها الشاعر أو روحه التى تعود لتسترد تلك النسخ
“صُعقنا، و استعدنا بشحوب هيئة رفيقنا الفضولي في القطار ــ من أبناء هذه المدينة ــ و الذي نبَّهنا حين شاهد انهماكنا في القراءة أثناء الرحلة أن لعنة الشاعر ستطاردنا حتى يسرق نسخ كتابه. قال إنه منذ موته يغتاظ كثيراً كلما صدر كتابٌ له، فهو لا يحب ذلك”
ويبدو أن تلك اللعنة أو المحبة طاردت طارق امام حتى أنجز روايته ” الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” عام 2012.
نحن لسنا مجبرين على الاستسلام لأقدرانا وبما يفرضه علينا الواقع،عن الحلم والرغبة فى الانعتاق والخروج الى مدن أكثر رحابة من تلك المدينة التى أصابتها لعنة ما، ربما الحرب ربما الكوليرا تأتى القصةالتالية ” كوليرا ”
“تشبث بملابس حمّاَل ، كان يريد أن يمنحه قروشه القليلة مقابل أن يصعد به إلى السفينة للحظات.. و رغم أنه كان ضئيلاً إلا أنه أخل بتوازن جرم الرجل الضخم ، فسقطت الحقيبتان الضخمتان اللتان كان يحملهما ، و لم يجد الرجل الحانق مناصاً من صفع ذلك الطفل الأحمق الذي ظل محدقاً فيه بعينين مندهشتين تحجرت فيهما الدموع”
لا أريد فى الاستمرار فى استعراض قصص المجموعة الواحدة تلو الأخرى سأترك لمن يريد الدخول واستكشاف تلك العوالم الساحرة أن يفعل ذلك بنفسه.
لكننى سأنتقل للحديث عن لغة طارق امام، هى لغة لا سهلة وسلسلة لا تعيق مسار السرد، لغة لا توجد رغبة لدى كاتبها فى استعراض ألعاب ومهارات لغوية، لا بلاغة هنا سوى بلاغة السرد والدهشة التى يبرع طارق فى تمريرها الى قارئ محظوظ يدخل مع ذلك العجوز المدن العديدة التى مات بل عاش فيها
يتجول في المدن التي يحلم بها ، يبحث عن مهن صغيرة ليأكل ، رغم شيخوخته ، ثم يموت . يستغرق ذلك أوقاتاً متراوحة ، قد تكون أياماً أو شهوراً أو سنوات .. بينما جسده ــ في نفس اللحظة ــ مسجى في سريره . كانت زوجته تضطر لإطعامه و هو نائم كي لا يموت في سنوات أحلامه .. و تضع له السجائر في فمه ، تشعلها له و تراقبه و هو يلتهمها بنهم ، كأن الدخان يشحذ صور مناماته . لم يكن طعامه هنا يعني شيئا لجوعه هناك ..مثلما لم تكن حياته هنا تتعارض و موته هناك . لكنه أدرك منذ سنوات طويلة ، أن واقعه الفعلي صار في كل الأماكن خارج هذا البيت .. و أنه لو كان ثمة حلم في حياته ، فهو مدينته و بيته و زوجته ، و قطار البضائع .