– بداياتي كانت في التسعينات، حيث نشرت مجموعتين قصصيتين «طيور جديدة لم يفسدها الهواء»، و «شارع آخر لكائن»، لكنني أصنف حاليا بانتمائي الى ذلك الجيل الأدبي الجديد (الألفية الثالثة) الذي ينظر اليه كجيل روائي في الأساس، وبداياتي معه كانت بروايتي الأولى «شريعة القط» التي نشرت عام 2000، وتلك حالة انزياح شائعة، ربما ترتبط بفكرة النضج الأدبي، والمعرفة في الوسط الثقافي، لكن يظل ارتباطي بجيل التسعينات -دون الوقوع في شرك التسمية الضيقة لمصطلح الجيل- هو الأكبر لنشأتي الحقيقية وسط أفراد ذلك الجيل، وتربيتي في أجوائهم، حيث تأثرت برؤيتهم للأدب والفن والاشتغال على الكتابة، الاهتمام بتجويد وتنقيح الأعمال القصصية والروائية، وعدم التسرع في الكتابة والنشر، خلاف أجيال الستينات والسبعينات المشتهرين بغزارة كتاباتهم.
هناك كتاب بالذات ينتمون الى هذا الجيل، أشعر بالإعجاب والتأثر برؤيتهم الفنية وكتاباتهم مثل مصطفى ذكري و إبراهيم فرغلي البارع في المزج بين الواقع والخيال وياسر عبد الحافظ ومنصورة عز الدين وغيرهم، ومعظمهم بدأ بالكتابة القصصية أولا.
• ما مصادر الكتابة الروائية بالنسبة اليك، تأثراتك، اتجاهاتك؟
– تكويني الحقيقي وجزء كبير من تجربتي الذهنية، هو تكوين شعري وتأثر بالمشهدية السينمائية، قرأت الشعر أكثر من القصة، في كتاباتي أبحث عن أثر شعري أكثر من فكرة الحدوتة، فأي شخص عادي بإمكانه القص أو الحكي، وهذا أوقعني في عدة مفارقات أعتبرها طريفة منها أن مجموعتي القصصية الأولى، ترجمت فيها بعض القصص على أنها قصائد نثر، والمجموعة نفسها رفض الناشر كتابة أي تصنيف أدبي لها فنشرت هكذا بعنوان فقط دون تحديد جنس أدبي، وكأنها حالة هائمة بين الشعر والنثر. فليس المجد للحكاية ولكن لأشياء وعناصر أخرى قادرة على صنع الدهشة.
كتابي المفضلون هم من فعلوا ذلك في كتاباتهم منهم ماركيز، سارامجو، فوكنر وميلان كونديرا.
• قلت أن أفراد الجيل الحالي هم روائيون بالأساس، وهذا يمضي بنا الى سؤال ملح الآن، لماذا الرواية؟
– الرواية لأنها ذلك الكائن الاحتوائي القادر على استيعاب كل الأجناس الأدبية الأخرى، فكما أن السينما هي الفن السابع للفنون، الرواية كذلك في الأدب، تحتوي الأشواق الشعرية، الحوارات والتقريرية، القصة، اللغة، حتى الفلسفات الكبرى أصبحت توجد ضمن سياق روائي أكبر، في الرواية تستطيع أن تعبر عن رؤيتك للعالم، عن الهموم الكبرى، عن المسائل الوجودية الهامة، الزمن، الموت، الحياة، أنا مع أهمية هذا التعبير الإنساني الخاص والشامل في نفسي الآن، فمسألة كالزمن موجودة ومؤثرة في كل إنسان عادي ومن يبتعد عن تلك الأمور فهو مبتعد عن هموم الفرد، ورغم أن كل كاتب أو روائي سيعبر في النهاية، شاء ذلك أم أبى عن رؤيته الخاصة جدا جاعلا من الرواية في النهاية لسان حال شخصي، فإن التميز هنا لمن ينجح في جعل تلك الذاتية تجربة إنسانية عامة ومؤثرة، وأعتقد هذا ما استطاع كاتب -غير مرحلي ـ مثل نجيب محفوظ أن يفعله ببراعة، والمقصود بالمرحلية هنا أولئك الكتاب الذين ارتبطت كتاباتهم بمراحل وأحداث تاريخية معينة، إذا ما انتهت أو تغيرت نضب الخيال الروائي، وتوقف الإبداع، أما محفوظ فهو كاتب كوني ذو أسئلة وجودية، وهذا هو ما أحاول فعله في كتاباتي الروائية بقدر الإمكان. في حفل تسليمي جائزة «ساويرس» عن «هدوء القتلة»، أسعدتني حيثيات منح الجائزة، التي لم تتوقف عند فكرة القاتل المتسلسل رغم أن هذا هو الإطار الخارجي للأحداث، لكنها في الحقيقة كانت رؤية لمدينة القاهرة، وتصويرا لما فيها من متناقضات، تفكيرا أعمق كثيرا من فكرة الحدوتة، وهذا ما حاولت فعله أيضا في روايتي الجديدة.
• ماذا قدمت الجوائز لك، وما تأثيرها في الواقع الثقافي الحالي؟
– الجوائز أسهمت وقدمت الكثير لي، ولمسيرتي الأدبية، حصلت قبلا على جائزتين من وزارة الثقافة المصرية، وجائزة «سعاد الصباح «، لكن تلك الجوائز لم تكن بشهرة وانتشار الجائزة الأخيرة «ساويرس»، التي كان حصولي عليها بمثابة مولد جديد لرواية «هدوء القتلة». الفرق بين الجوائز الأولى والأخيرة كان فرقا ماديا في الأساس، وربما لعلاقة الناس بالسلطة، كان هناك تشكيك دائم في نتائج جوائزها، جائزة «ساويرس» كانت تتميز بالسرية وعدم الكشف عن الفائزين، أو تسريب المعلومات، إلا ربما، ليلة الإعلان عن النتائج.
ثم هناك فرق آخر في مستوى الانتشار والجماهيرية، فهي ومعها جائزة «البوكر» العربية، أصبحتا من أكثر الجوائز الأدبية تقديرا وانتظارا ومتابعة، وربما كان هذا لما يميز العصر الحالي، الدور الكبير للميديا والإعلام والمواقع الإلكترونية الشهيرة كـ «facebook»، الذي جعل من «قارئ الصدفة» يقبل على الرواية، ويكسبني جمهورا جديدا، ونجومية حتى في خارج الوسط الثقافي.
• هناك الآن انتشار لافت للعديد من المكتبات الجديدة، ودور النشر، وحتى النشر الإلكتروني، إلى أين يفضي كل هذا؟
– كل ذلك أصبح حوافز للكتابة، وللإقبال عليها من فئات كثيرة لم يكن الأدب أو الكتابة هدفا بالنسبة اليهم، أدى ذلك إلى حدوث حالة من الفوضى، قد تبدو مثمرة، لكنني أتخوف منها حين تقوم دور النشر ـ بعضها مهم ومعروف- بتمرير كتابات لا تصلح للنشر، كالتجارة، همها الوحيد الربح المادي، تعلمت التواضع حين قابلت كتابا كبارا متواضعين، وبينما تنتشر تلك الكتابات الرديئة يشعر «كاتبو الصدفة»، بنوع غريب من الاستعلاء على الغير، نجومية بلا أساس كمطربي الفضائيات الجديدة، حتى ظاهرة «أكثر الكتب مبيعا» ليست مقياسا حقيقيا للجودة، رواية «خريف البطريرك» لـ غابريل غارسيا ماركيز لم تحقق توزيعا لناشرها حين صدورها، رغم أنها من أفضل أعماله وأكثرها قيمة أدبية وفنية، ورغم فوضى النشر وانتشار «ثقافة الصدفة» فانني أثق بوجود الضمير الأدبي، فلم يعد النقد خاضعا للمعارف والصلات الشخصية، ومن المؤكد هناك عمليات فرز وتشريح وذوق أدبي سليم سيبرز من خلاله العمل الجيد من الرديء.
* كيف تحقق تلك الموازنة بين استغلال تيمة شعبية كموسيقى «البوب»، لتبرز من خلالها أفكارا أعمق وأكثر تعقيدا؟
ـ هذا هو رهاني الذي نجح في «هدوء القتلة» وأتمنى أن ينجح كذلك مع «الأرملة التي تكتب الخطابات سرا»