باسم شرف
كوب شاي :
إذا أردت أن تحكي عن صديق مقرب .. للأسف لن تجد حكايات أسطورية ومثالية تليق بالحدث الذي تحكي فيه .. ولكنها للأسف الحكايات المشتركة دائما ما تكون غير صالحة لأنها عن أشخاص فوضويين غير روتينين .. او بالأدق أشخاص غير صالحين .. وهكذا كنا .. أنا وطارق.
البطاقة المنسية بالمنزل :
طارق إمام .. شريك الليل في الطرقات والتسكع علي المقاهي حتي الصباح .. يعرف حكايات المدينة التي احتوته مؤخرا أكثر من سكان هذه المدينة .. يهتم بتاريخ كل الأماكن التي يمر عليها عابرا .. يعرف شوارعها وتفاصيلها الدقيقة ومقاهيها وباراتها .. يعرف تاريخ الشخصيات البسيطة ويحكي عنها بحب لا يكتبه .. فغالبا ما يأخذ هذه الشخصيات الحقيقية في رحلة لعالمه فمنهم من يأكل جسده ومنهم من يقتل بيد واليد الاخري يكتب بها شعرا .. شخوص تعيش بأذن واحدة وتطير .. هكذا يري طارق الشخوص ولكنه يتحدث عنها بحب فقط .. وغالبا ما يبدأ الحكي عنهم عندما يمر أحدهم بقوله الشهير ( أنا أقولك ) كدلالة تعيش في منطقة عشوائية تدخل البيوت لتبيع الأقمشة بالتقسيط .. فهي تعلم دخل كل فرد ..وتعلم ماذا يأكلون .. وتقيس أحلامهم بترمومتر خاص بها تحدد علي أساسه القسط الواجب دفعه .. وليس لاحتياجهم لأنها تعرف كيف تبيع .. هكذا طارق .. يعرف أحلام العابرين الذين لا تربطهم به أي علاقة تاريخية .. ويثبت أحقيتهم بالحياة ليبيع لك حكاياتهم بالتقسيط .
الهروب من المقاهي :
كان يسكن بجواري في حي فيصل .. فكنا نتقابل بشكل دائم .. نتحرك سويا بحثا عن مقهي جديد له خصوصيته .. فهو بارع مثلي في اكتشاف المقاهي وخبير في اكتساب عمال المقاهي .. وهذه الخبرات في التنقل من المقاهي كانت لها ميزة لا يعلمها سوانا .. في بداية حياتنا العملية كنا نربح كثيرا من عملنا غير الثابت وكنا نصرفها سريعا لنعود من البداية ونبدأ في البحث عن عمل جديد نكتبه حتي نسدد الديون المتراكمة علينا للمقاهي وللمطاعم ..
أثناء فترة التسكع وغياب المال كنا نجلس علي مقهي بالساعات لا نحصيها وبعدها نذهب دون أن نحاسب ونقول قولنا الشهير الذي نضحك عليه الآن ( هنجيب حاجة ونرجع ) ونذهب ونغيب شهرا أو شهرين حتي تعود لنا الفلوس وندفع ما شربناه وأكلناه بزيادة .. فالتنقل أتاح لنا الهروب من مقهي لمقهي دون عناء .
كثيرا ما كنا نتقابل علي المقهي دون اتفاق .. أذهب لأجلس وأكتب .. أجده جالس يفترش التربيزة بكتبه وأوراقه وكأنه مكتبه الذي استأجره في فندق جراند حياة .. وتكون أوراقه مبعثرة وعليها رماد السجائر ووأثار لكوب الشاي . .
أنزل من منزلي في نيتي الذهاب الي العمل أجده جالس علي المقهي في نيته الذهاب للعمل .. نجلس سويا والنيات تذهب بدلا منا .. ونكمل يوما كأننا في أجازة .
ملحوظة ( أكثر المطاعم التي كنا نذهب اليها ونحن نمتلك العالم بالفلوس كان اسمه الفقير بحي فيصل )
شريط قديم
كنا نشترك في حب يوسف شاهين .. كنا نعتقد أننا أبطال فيلم لشاهين وضللنا طريق الشاشة للشوارع والمقاهي .. كبرنا وظل طارق بنحافته يشبه أبطال شاهين وأنا تحولت لأبطال فيلم السبكي بعد أن زاد وزني .
كنا نشترك في حب عمرو دياب وحفظ أسماء شعراء وملحنين أغانيه وزمن صدور هذا الشريط .
كنا نختلف في حب نوع الأدب .. كان يحب أدب أمريكا اللاتينية وأنا أحب الأدب الروسي .. طارق كان مولعا بالواقعية السحرية وكأنه أحد أبطال ماركيز .. فهو بارع في تحويل التفاصيل العادية إلي عالمه الغرائبي الذي يعيش فيه .. العالم الموازي الذي يراه هو وحده وأحيانا كان يصحبني اليه .. نجلس كطفلين نتحدث عن تاريخ سري للكرة الأرضية وكان يضحك عندما أخبره أن هناك شخص يسمي الزبير بن العوام .. وأسأله كيف كانت تناديه أمه وهو صغير وكيف كان يعامله أصدقاء الطفولة .. ولماذا صيغة التصغير في اسمه التي ستصحبه لعنة لمستقبل غامض يلاحق رجولته .
عربة نقل العفش
عندما انتقل طارق الي مدينة نصر للزواج .. كان يأتي لنجلس في فيصل ونسترجع الذكريات .. وكان دائم الحديث عن الفوضي التي لحقت بفيصل رغم غيابه عنها شهر مثلا .. ( ايه التكاتك دي كلها الواحد مش مستحمل الفوضي دي .. فيصل يا باسم بقي زحمة قوي ) .
البلوجات
كان يملك كل منا مساحة اليكترونية علي موقع البلوجات .. فكنا نتعامل معها علي أنها جريدة خاصة نكتب فيها أي شئ عن أي شئ .. ولأول مرة نجد شخصا يوقفنا في الشارع ليسلم علينا ويخبرنا أنه من المعجبين بكتابتنا وأننا نجومه المفضلين في الكتابة .. كان شعور بالفخر أن ما نكتبه له جمهور وقراء .
بدأ طارق يحلل هذه الظاهرة الطارئة علينا في العلاقة بين الصورة والواقع .. القارئ يعرفنا كصورة موضوعة علي يمين الصفحة ويعرفنا كصورة من كتابتنا في مخيلته .. احساس أول مرة يتعرف علينا قارئ كالقبلة الأولي لفتاة خلسة بالطريق .. ياله شعور بالانتصار .
هزمتنا الثورة
بعد خطاب مبارك الذي ألقاه قبل موقعة الجمل .. خرج الجميع يهتف ( ارحل ارحل ) واثناء تجولنا في شارع طلعت حرب أنا وهو ومعنا أحمد عبداللطيف ومصطفي عبدالفتاح وجدنا جموع تحمل اسلخة بيضاء قادمة علي الميدان .. فالكل وقف ثابتا وبدأت أصوت تعلوا شيئا فشيئا ( اثبت محدش يتحرك ) شعرنا بأننا مقدمين علي حرب لابد أن نكون جنودا من أجل أفكارنا .. كل منا مسك بيد من بجانبه .. والقوة ملأت قلوبنا .. وفي أقل من خمس ثواني كان الجميع هرب وجري الا انا وطارق واحمد عبداللطيف .. وجدنا أنفسنا نواجه الأعداء وحدنا والكل باعنا .. وفي أقل من عشر لحظات كنا في الميدان زاحفيين علي بطوننا من التعب ونقول لهم ( بعتونا وجريتوا يا أندال .. الناس باعتنا يا طارق وجريت ) ونضحك ..
شعرة بيضاء
لم استطع أن أحكي تفاصيل لجلسات النميمة لأنها سوف تفضحنا .. اكتفيت بالحكايات التي تصلح لأن تحكي .. ولكن الذي عرفته الآن فور انتهائي من الكتابة أننا كبرنا وصارت لدينا ذكريات نحكيها .. والشعر الأبيض في رأسنا يعيش معنا ليذكرنا أننا كنا هنا يوما .