ضيوف الأمة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فرانك أوكونور

ترجمة: ممدوح رزق

(1)

في الغسق؛ كان الإنجليزي الضخم بيلشر يزيح ساقيه الطويلتين عن الرماد ويسأل: “حسنًا رفاق، ماذا عن ذلك؟” فيقول نوبل أو أنا، وقد تعوّدنا على بعض تعبيراتهما الغريبة: “كما تشاء، رفيق”.

كان الإنجليزي الصغير هوكينز يشعل المصباح ويجهّز أوراق اللعب. أحيانًا يأتي جيريميا دونوفان في المساء ويشرف على اللعب، ويصبح متحمسًا جدًا بسبب أوراق هوكينز ـ الذي كان يلعب دائمًا بشكل سيء ـ ويصرخ عليه كما لو كان واحدًا منا: “آخ، يا الشيطان، لماذا لم تلعب هذه الورقة؟”.

كان جيريميا شيطانًا فقيرًا، رزينًا وراضيًا مثل الإنجليزي الضخم بيلشر، ولم يكن موضع تقدير على الإطلاق، فقط يُشار إليه كموثّق مستندات بارع، لكنني أقسم بأنه كان بطيئًا للغاية في ذلك. كان يرتدي قبعة صغيرة من القماش وجوارب كبيرة فوق بنطاله الطويل، ونادرًا ما رأيته يخرج يديه من جيوبه، كما كان يتورد خجلًا عندما تتحدث إليه، يقلّب قدميه الكبيرتين من الأصابع إلى الكعبين وبالعكس، محدقًا إليهما كالفلاح. كانت له لهجة ممطوطة غريبة، تثير السخرية اللاذعة لواحد مثلي من أبناء المدينة.   

لم أفهم في ذلك الوقت سبب وجودي ونوبل مع بيلشر وهوكينز على الإطلاق. كنت، ومازلت، أعتقد أنه بوسعك زرع ذلك الثنائي في أي مكان غير مراقب من هنا إلى كلير غالواي”1″ وسيظلان في مكانهما وينموان مثل عشب محلي. لم أر في تجربتي القصيرة رجلين تأقلما مع البلاد كما فعلا. تم تسليمهما إلينا من قِبل الكتيبة الثانية للاحتفاظ بهما حين تكثف البحث عنهما. تولّى نوبل وأنا الأمر، لكوننا شابين يمتلكان شعورًا متوهجًا بالمسؤلية. لكن هوكينز الصغير جعلنا نبدو كالأغبياء عندما أظهر معرفة بالريف تماثلنا وأكثر. قال لي: “أنت الرجل الذي يُدعى بونابرت؟.. ماري بريجيد هوكونيل كانت تسأل عنك، وقالت إن لديك زوجًا من الجوارب يخص أخاها الصغير”.

بدا، كما أوضحا، أن الكتيبة الثانية كانت تقيم أمسيات صغيرة، يحضرها بعض الفتيات من الحي، ولم يستطع شبابنا تجاهل الإنجليزيين بوصفهما رجلين محترمين، بل ودعوهما للدخول وتبادلوا التحية معهما.  أخبرني هوكينز إنه تعلم رقص “أسوار ليمريك” و”حصار إنيس” و”أمواج توري” “2” في ليلة أو اثنتين، رغم أنه بالطبع لم يستطع رد المجاملة؛ فلم يكن لشبابنا تأدية الرقصات الأجنبية من حيث المبدأ.

لذا، مهما كانت الامتيازات والمزايا التي حصل عليها بيلشر وهوكينز من قبل فلا تقارن بما حصلا عليه معنا. تخلينا بعد الليلة الأولى عن أي تظاهر بمراقبة سلوكهما عن كثب، ليس لأنهما غير قادرين على الابتعاد كثيرًا بسبب اللهجة الملحوظة والسترة ذات اللون الكاكي التي يرتديها كل منهما تحت المعطف مع البنطلون والحذاء المدنيين، ولكن لأن فكرة الهروب بدت مستبعدة تمامًا لديهما. كانا يُظهران طوال الوقت الرضا التام عن مصيرهما.

من الممتع أن نرى كيف استطاع بيلشر أن يتعامل مع العجوز بالمنزل الذي نقيم فيه. كانت امرأة صارمة، موبّخة، توزع جهامتها على الجميع حتى نحن، لكنها قبل أن تحصل على فرصة لإعطاء ضيفينا، كما يمكنني تسميتهما، لمسة من لسانها الحاد، كان بيلشر قد اكتسب صداقتها الدائمة. في ذلك الوقت كانت تُقطّع الحطب، حين قفز بيلشر، الذي لم يتجاوز وصوله للمنزل عشر دقائق، من مقعده وتوجه إليها.

“من فضلك، سيدتي”، قال وعلى وجهه ابتسامته الصغيرة الغريبة، “أرجو السماح لي”، وأخذ الفأس من يدها. كانت مصدومة لدرجة أنها لم تستطع الكلام، ومنذ ذلك الحين ظل بيلشر يتبعها حاملًا سلة أو دلوًا أو مقدارًا من العشب، حسب الظروف. وكما أشار نوبل بشكل فكاهي؛ كان بيلشر يسبق العجوز إلى هدفها من قبل أن تتحرك، وكانت المياه الساخنة أو أي شيء صغير آخر تريده يصبح جاهزًا من قبل أن تطلبه. مع ضخامة رجل كهذا ـ كنت أنظر إليه رافعًا رأسي لأعلى رغم أن طولي خمس أقدام وعشر بوصات ـ كان لديه قصور غير عادي ـ أو يجب أن أقول نقص ـ في الكلام. استغرقنا بعض الوقت للتعوّد على دخوله وخروجه كشبح لا ينطق بكلمة، خاصة أن هوكينز كان يتحدث بما يكفي لفرقة كاملة. كان غريبًا أن نسمع بيلشر الضخم، مع أصابع قدميه المغموسة في الرماد، يتفوّه بعبارة واحدة “عذرًا، صديقي”، أو “هذا صحيح، صديقي”. كان شغفه الوحيد الدائم هو لعب الورق، ويمكنني القول إنه كان لاعب ورق جيد. كان بإمكانه أن يخدعني ونوبل مرات عديدة بينما كان هوكينز يخسر أمامنا المال الذي أعطاه إياه بيلشر. خسر هوكينز أمامنا لأنه تحدث كثيرًا، وأعتقد أننا خسرنا أمام بيلشر لنفس السبب.

كان هوكينز ونوبل يتبادلان السباب حول الدين حتى الساعات الأولى من الصباح، وكان الإنجليزي الصغير، كما ترى، يُقلق روح الشاب نوبل ـ الذي كان شقيقه كاهنًا ـ بسلسلة من الأسئلة القادرة على أن تُحيّر كاردينالًا. ولجعل الأمر أسوء، حتى عند مناقشة هذه الموضوعات المقدسة، كان لدي هوكينز لسان مروّع؛ لم أصادف في مسيرتي المهنية رجلًا يمكنه خلط مثل هذا النوع من الشتائم والألفاظ الفاحشة في أبسط موضوع. نعم، كان هوكينز الصغير رجلًا فظيعًا، مرعبًا في النقاش! لم يقم بأي عمل، وعندما لم يكن لديه شخص يتحدث معه؛ كان يغرز مخالبه في المرأة العجوز.

يسعدني القول إنه وجد نظيره في شخصها؛ ذات يوم حاول دفعها لأن تشكو بفظاظة من الجفاف، لكنها أحرجته بشدة وهي تلقي باللوم على جوبيتر بلوفيوس “3” ـ وهو إله لم يسمع به هوكينز ولا أنا من قبل، لكن نوبل قال إن الوثنيين كانوا يعتقدون أن له علاقة بأحوال المطر. وفي يوم آخر كان هوكينز يشتم الرأسماليين لأنهم بدأوا الحرب الألمانية، عندما وضعت العجوز مكواتها، وقطبت فمها الصغير كالأخطبوط وقالت: “سيد هوكينز، يمكنك أن تقول ما تشاء عن الحرب، معتقدًا أنك تخدعني لأني مسنّة جاهلة، لكنني أعلم جيدًا من الذي بدأ الحرب. إنه ذلك الكونت الإيطالي الذي سرق الألوهة الوثنية من المعبد الياباني. صدقني سيد هوكينز؛ من يزعج القوى الخفية لن يتبعه سوى الحزن والحرمان”. أوه، عجوز غريبة، كما تلاحظ!.

(2)

في إحدى الأمسيات تناولنا الشاي معًا، وأشعل هوكينز المصباح ثم جلسنا جميعًا للعب الورق. جاء جيريميا دونوفان أيضًا، وجلس يراقبنا لبعض الوقت. على الرغم من كونه رجلًا خجولًا، لا يتحدث كثيرًا؛ كان يسهل إدراك أنه لم يكن لديه حب كبير للإنجليزيين، وكنت متفاجئًا لأن ذلك لم يتضح لي من قبل. ككل ليلة؛ نشب خلاف رهيب في وقت متأخر من المساء بين هوكينز ونوبل حول الرأسماليين ورجال الدين وحب الوطن.

قال هوكينز بغضب: “الرأسماليون! إنهم يدفعون لرجال الدين كي يخبروك عن العالم الآخر، حتى لا تلاحظ ما يفعلونه هنا”.

“هراء يا رجل” قال نوبل، وهو يفقد أعصابه، “قبل أن يوجد أي رأسمالي، كان الناس يؤمنون بالعالم الآخر”.

وقف هوكينز كما لو أنه سيلقي خطابًا. “أوه. كانوا يؤمنون، أليس كذلك؟” قال بسخرية. “كانوا يؤمنون بكل الأشياء التي تؤمن بها، هذا ما تعنيه؟ وأنت تؤمن أن الله خلق آدم وآدم خلق سام وسام خلق يهوشافاط؟ تؤمن بكل الحكايات الساذجة عن حواء والجنة والتفاحة؟ حسنًا، استمع لي، يا صديقي. إذا كان يحق لك أن تتبنى اعتقادًا سخيفًا كهذا، فيحق لي الاحتفاظ باعتقادي السخيف الخاص، وهو أن أسوء شيء خلقه إلهك كان رأسماليًا عاهرًا يتمتع بالأعجوبة الرولز رويس كاملة. هل أنا محق، يا صديقي؟” تساءل ملتفتًا إلى بيلشر.

“أنت محق، يا صديقي” قال بيلشر، بابتسامته الغريبة، ونهض من الطاولة ليمد ساقيه الطويلتين نحو النار ويداعب شاربه. لذا حين رأيت جيريميا دونوفان ذاهبًا، ولم يكن هناك ما يضمن متى سينتهي هذا الجدال حول الدين، أخذت قبعتي وخرجت معه. مشينا نحو القرية ثم توقف فجأة بوجه متورد، وكما هي عادته راح يقلّب قدميه من الأصابع إلى الكعبين، وقال متلعثمًا إنه ينبغي عليّ أن أكون في الخلف لأحرس السجينين. سألته عن سبب ذلك بحق الجحيم ثم أخبرته بأنه فيما يتعلق بنوبل وأنا فقد ناقشنا الأمر وفضّلنا أن نكون في الخارج.

“ما الفائدة من ذلك الثنائي بالنسبة لنا؟” سألته.

نظر لي طويلًا وقال: “ظننت أنك تعرف بأننا نحتفظ بهما كرهائن”.

“رهائن..؟” قلت، دون فهم كامل.

“العدو”، قال بنبرة ثقيلة، “لديه أسرى من عندنا، والآن يتحدثون عن إعدامهم. إذا أعدموا أسرانا، سنعدم أسراهم، وهذا ما يستحقونه”.

“إعدامهما؟” قلت. وبدأ الاحتمال يتشكل في ذهني.

“إعدامهما، بالضبط” قال.

“الآن”، قلت. “ألم يكن غير متوقع منك أن تخبرني ونوبل بذلك؟”.

“كيف؟” سألني. “كنا نتصرف معهما كحراس بالطبع.. ألم يكن لديك أسباب كافية لتخمين ذلك؟”.

“لِمَ نفعل ذلك، جيريميا دونوفان، لِمَ نفعل ذلك؟ كيف لنا أن نعرف وهذان الرجلان في أيدينا منذ فترة طويلة؟ وما الفرق الذي سيحدثه قتلهما؟ العدو لديه سجناء منا لفترة طويلة أيضًا وأكثر، أليس كذلك؟. قلت.

“إنه يُحدث فرقًا كبيرًا، ماذا تعني؟” قال بحدة.

لكنني لم أستطع أن أخبره بشيء. كنت أبدو كالمغفل لدرجة أنني لم أتمكن من التحدث.

“ومتى تتوقع أن نتحرر من هذا على أي حال؟” سألت.

“يمكنك أن تتوقع هذا الليلة” قال. “أو غدًا أو بعد غد على الأكثر. لذا إذا كان ما يزعجك هو البقاء هنا فستكون حرًا قريبًا بما فيه الكفاية”.

لا أستطيع حتى الآن وصف مدى الحزن الذي شعرت به، لكنني عدت إلى الكوخ رجلًا بائسًا. عندما وصلت كانت المناقشة لا تزال جارية؛ هوكينز يتحدث بحرية للجميع عن أنه لا يوجد عالم آخر على الإطلاق، ونوبل يرد بأسلوبه الكنسي بأنه من الأفضل أن يوجد هذا العالم. لكنني رأيت أن هوكينز كانت له الغلبة.

“هل تعلم، يا صديقي؟” كان يقول بابتسامته البذيئة “أعتقد أن لديك نفس القدر من عدم الإيمان مثلي تمامًا. تقول إنك تؤمن بالعالم الآخر، في حين أنت تعلم عن العالم الآخر بقدر ما أعلم، وهو لا شيء على الإطلاق. ما هي الجنة؟ لا تعرف. أين هي الجنة؟ لا تعرف. من في الجنة؟ لا تعرف. أنت تعرف لا شيء على الإطلاق! أعود وأسألك، هل يرتدون الأجنجة في تلك الجنة؟”.

“حسنًا” قال نوبل، “إنهم يرتدونها؛ هل يكفيك ذلك؟ إنهم يرتدون الأجنحة”.

“من أين يحصلون عليها إذن؟ من يصنعها؟ هل لديهم مصنع للأجنحة؟ هل لديهم نوع من المتاجر حيث تسلّم قسيمتك وتأخذ أجنحتك؟ أجبني على ذلك”.

“أوه، أنت رجل يستحيل الجدال معه” قال نوبل. “الآن استمع لي…”.

وانطلق الثنائي مرة أخرى في جولة جديدة. كان وقت طويل قد مر بعد منتصف الليل عندما أغلقنا الباب على الإنجليزيين وذهبنا إلى الفراش. أطفأت الشمعة، وأخبرت نوبل بما قاله لي جيريميا دونوفان. أخذ نوبل الأمر بهدوء شديد. وبعد أن ظللنا في السرير ساعة تقريبًا سألني إذا كنت أعتقد أنه ينبغي علينا إخبارهما بالأمر. كنت قد فكرت في نفس الشيء ـ بين أشياء كثيرة أخرى ـ فقلت لا، لأنه من المحتمل جدًا ألا يطلق الإنجليز النار على رجالنا، وعمومًا لم يكن مفترضًا أن ترغب الكتيبة الثانية التي تعرف الإنجليزيين جيدًا في التخلص منهما.

“أعتقد ذلك” قال نوبل. “سيكون نوعًا من القسوة أن نثير خوفهم الآن”.

“كان ذلك غير متوقع تمامًا من جيريميا دونوفان على أي حال” قلت. ومن خلال صمت نوبل أدركت أنه قد فهم قصدي.

بقيت هناك نصف الليل، أفكر مليًا، وتخيلت نفسي والشاب نوبل نحاول منع الكتيبة من إطلاق النار على هوكينز وبيلشر. شعرت بعرق بارد يسري في جسدي. ثمة رجال في الكتيبة لا يمكنك إعاقتهم دون أن تحمل مسدسًا في يدك، وعلى أي حال، كان الانقسام بين الأخوة في تلك الأيام يبدو لي جريمة فظيعة، لكنني أصبحت في حال أفضل لاحقًا.

في صباح اليوم التالي، وجدنا صعوبة كبيرة في مواجهة بيلشر وهوكينز بابتسامة. تجولنا في المنزل طوال اليوم دون أن نتفوّه بكلمة واحدة. لم يكن بيلشر يهتم بنا كثيرًا؛ ظل مستلقيًا في الرماد كالمعتاد، بنظرة الانتظار الهادئة لحدوث شيء غير متوقع، لكن هوكينز الصغير أفسد وقتنا بتعليقاته واستجوابه الجريء. كان يشعر بالاشمئزاز من عدم رد نوبل عليه.

قال “لماذا لا يمكنك أن تضرب مثل الرجال يا صديقي؟ أنت مع آدم وحواء! أنا شيوعي أو فوضوي.. نعم فوضوي، هذا ما أنا عليه”.

وبعد ساعات راح يتجوّل في المنزل ويتمتم عندما تسيطر عليه الحالة “آدم وحواء! آدم وحواء!”.

(3)

لا أعرف بوضوح كيف تجاوزنا ذلك اليوم، لكننا تجاوزناه على أي حال، وكان شعورًا عظيمًا عندما أُزيحت أدوات الشاي، كأن القدر سمح لنا بعمر كامل مع تناوله، خاصة حين قال بيلشر بأسلوبه المسالم: “حسنًا، يا أصدقاء، ماذا عن ذلك؟”

جلسنا جميعًا حول الطاولة وأحضر هوكينز الأوراق. في تلك اللحظة سمعت خطوات جيريميا دونوفان تتجه نحو الممر، وداهمني شعور مقبض.

نهضت بهدوء من الطاولة ووضعت يدي على كتفه قبل أن يصل إلى الباب.

“ماذا تريد؟” سألته.

“أريد صديقيّ الجنديين” قال بوجه متورد.

“هل هكذا الأمر، جيريميا دونوفان؟” سألت.

“هذا هو الحال. لقد ذهب أربعة من أولادنا هذا الصباح، أحدهم صبي في السادسة عشرة”.

“هذا سيء جيريميا” قلت.

في تلك اللحظة خرج نوبل، وبدأنا نمشي في الممر ونتحدث همسًا. كان فيني، ضابط الاستخبارات المحلي، واقفًا بجانب البوابة.

“ماذا ستفعل حيال ذلك؟” سألت جيريميا دونوفان.

“أريدك أنت ونوبل أن تخرجاهما. يمكنكما إخبارهما بأنهما سينتقلان مرة أخرى؛ ستكون تلك الطريقة الأكثر هدوءً”.

“اعفني من ذلك” قال نوبل فجأة.

نظر جيريميا دونوفان إليه بصرامة لدقيقة أو اثنتين.

“حسنًا” قال بهدوء. “أنت وفيني اجمعا المجارف من المخزن، واحفرا حفرة في الطرف البعيد من المستنقع. سأتبعكما أنا وبونابرت بعد حوالي عشرين دقيقة. لكن مهما فعلتما، لا تدعا أي شخص يبصر المجارف معكما. لا يجب أن يعرف أحد سوى نحن الأربعة”.

رأينا فيني ونوبل يتوجهان إلى المنزل حيث كانت المجارف محفوظة ثم دخلنا في صمت. كل شيء، إذا جاز لي التعبير، كان يتهاوى أمام عيني، وتركت جيريميا دونوفان ليشرح الأمر بأفضل ما يمكنه، بينما جلست دون أن أقول شيئًا. أخبرهما بأنه يجب عودتهما إلى المقر الثاني. حينئذ أطلق هوكينز مجموعة من اللعنات، وكان يبدو الاضطراب على بيلشر بشكل ملحوظ،، مع ذلك بقي ساكتًا. كانت العجوز تؤيد بقائهما رغمًا عنا، ولم تغلق فمها عن الكلام حتى فقد جيريميا دونوفان أعصابه وقال لها بعض الكلمات القاسية. في هذه الأثناء كان المنزل مظلمًا تمامًا، لكن لم يفكر أحد في إضاءة المصباح. في الظلام أحضر الإنجليزيان معطفيهما الكاكي وودعا سيدة المنزل.

“مثلما يمكن للرجل أن يصنع منزلًا من مكان بائس” تمتم هوكينز هو يهز يدها. “يبعدك بعض الأوغاد عن هذا المكان حين يعتقدون أنك أصبحت مرتاحًا أكثر مما يجب”. 

قال بيلشر وهو يصافحها بحرارة شديدة “ألف شكر يا سيدتي، ألف شكر على كل شيء”.
ذهبنا إلى الجزء الخلفي من المنزل وتوجهنا نحو المستنقع المميت ثم أفصح جيريميا دونوفان عن ما في ذهنه.

“لقد تم إطلاق النار على أربعة من أولادنا على أيدي رفاقكم هذا الصباح، لذا يجب أن نتخلص منكما”.

“توقف عن هذا الكلام” قال هوكينز منفعلًا. “من السيء بما فيه الكفاية أن تسخر منا”.

“هذا صحيح” قال جيريميا دونوفان. “أنا آسف، هوكينز، لكن الأمر صحيح”. وراح يردد الحديث المعتاد عن أداء الواجب وطاعة الرؤساء.

“توقف عن ذلك!”. قال هوكينز غاضبًا. “توقف عن ذلك!”.

وعندما وجد دونوفان أنه يرفض التصديق، لجأ إليّ. “اسأل بونابرت” قال.

“لا أحتاج إلى سؤال بونابرت، أنا وبونابرت صديقان”.

“أليس كذلك بونابرت”. قال لي جيريميا دونوفان بجدية.

“نعم” قلت بحزن.  “توقف هوكينز.. الآن، من أجل المسيح…أعني ذلك، صديقي” قلت.

“لا تبدو كما لو كنت تعني ذلك، أنت تعرف جيدًا أنك لا تعنيه”.

“حسنًا، إذا لم يكن يعنيه فأنا كذلك”. قال جيريميا دونوفان.

 “لماذا بحق الجحيم تريد أن تطلق النار عليّ، جيريميا دونوفان؟”.

 “لماذا بحق الجحيم يجب على شعبك أن يأخذ أربعة أسرى ويطلق النار عليهم بدم بارد في ساحة الثكنات؟”.

أدركت أن جيريميا دونوفان يحاول تشجيع نفسه بكلمات حماسية.

على أي حال، أمسك هوكينز الصغير من ذراعه وسحبه، لكن كان من المستحيل أن نجعله يستوعب جديتنا، ومن هنا ستدرك كم كان أمرًا صعبًا بالنسبة لي وأنا أتحسس مسدسي الـ “سميث وويسون” “4”، وأفكر في ما سأفعله لو شرعا في القتال أو حاولا الهرب، متمنيًا في قلبي ألا يفعلا. كنت أعلم أنهما لو حاولا ذلك فلن أطلق النار عليهما أبدًا.

“هل سيشارك نوبل في هذا؟”. أراد هوكينز أن يعرف فأجبنا بنعم. ضحك.

لكن لماذا سيرغب نوبل في إطلاق النار عليه؟ لماذا يجب أن يُطلق النار عليه؟ ماذا فعل بنا؟ ألسنا أصدقاءً؟ (تظل الكلمة محفورة بشكل مؤلم في ذاكرتي)، ألسنا كذلك؟ ألم نفهمه ولم يفهمنا؟ هل تخيّل أي منا للحظة أنه سيطلق النار عليهما من أجل كل هؤلاء القادة في الجيش البريطاني؟ في هذه اللحظة، بدأت أرى في الغسق حواف المستنقع القاحلة، المقررة أن تكون سريرهما الأرضي الأخير، وداهمني حزن عظيم. سرنا على حافة المستنقع في الظلام، وبين الحين والآخر كان هوكينز يتوقف ثم يعاود المشي كما لو كان يحاول التيقن من صداقتنا، بينما اليأس يتملكني من أنه لا شيء سوى القبر المفتوح البارد والمجهّز من أجله سيقدر على إقناعه بأننا جادون حقًا. لكن مع ذلك، إذا كان بوسعك أن تفهمني، لم أكن أريده أن يُصدم على هذا النحو.

(4)

أخيرًا رأينا وميضًا غير مستقر لفانوس على مسافة قريبة فتوجهنا نحوه. كان نوبل يحمل الفانوس وفيني يقف في مكان ما وسط الظلام خلفه. كانت الصورة التي تجمع صمتهما داخل الأراضي المستنقعية تشبه ألم الموت في قلبي. عندما تعرّف بيلشر على نوبل قال “أهلًا، صديقي” بطريقته المسالمة المعتادة، لكن هوكينز هاجم الفتي المسكين على الفور، وبدأ النزاع من جديد، فقط لم يكن لدى نوبل كلمة واحدة يدافع بها عن نفسه، ووقف هناك مع الفانوس المتأرجح بين ساقيه المغموستين في المستنقع.

كان جيريميا دونوفان هو من أجاب. سأله هوكينز للمرة العشرين ـ لأن الأمر بدا أنه يطارد عقله ـ إذا كان أي شخص يعتقد أنه سيطلق النار على نوبل.

قال جيريميا دونوفان باقتضاب: “أنت ستفعل ذلك”.

أجاب: “لن أفعل، اللعنة عليك”.

قال: “ستفعل إذا كنت تعلم أنه سيطلق النار عليك”.

أجاب: “لن أفعل، حتى لو كان سيطلق عليّ النار عشرين مرة؛ إنه صديقي. وبيلشر لن يفعل، أليس كذلك بيلشر؟”.

قال بيلشر بمسالمة: “هذا صحيح صديقي. اللعنة عليّ لو كنت سأفعل”.

“على أي حال، ماذا تعتقد أنني سأفعل إذا كنت في مكان نوبل وكنا وسط مستنقع ملعون؟”

قال جيريميا دونوفان: “ماذا ستفعل؟”

أجاب هوكينز: “سأذهب معه أينما كان ذاهبًا. سأشارك آخر قرش لي معه وسأقف بجانبه في السراء والضراء”.

“لقد سئمنا من هذا” قال جيريميا دونوفان وهو يوجّه مسدسه إليه “هل هناك أي رسالة تريد إرسالها قبل أن أطلق النار؟”.

“لا، لا توجد، لكن…”.

“هل تريد أن تتلو صلوات؟”

فوجئ هوكينز بهذا السؤال البارد الذي صدمني شخصيًا، ثم التفت إلى نوبل مرة أخرى.

“استمع إليّ، نوبل” قال. “أنت وأنا أصدقاء. لن تأتي إلى جانبي، لذا سأذهب إلى جانبك. هل هذا عادل؟ فقط أعطني بندقية وسأذهب معك أينما تريد”.

لم يرد عليه أحد.

“هل تفهم؟” قال. “لقد انتهيت من كل شيء. أنا منشق أو أي شيء آخر تريده، لكن من الآن فصاعدًا أنا منكم. هل يثبت لك هذا أنني أعني ما أقول؟”.

رفع نوبل رأسه، لكن عندما بدأ دونوفان في الكلام خفضه مرة أخرى دون أن يجيب.

“للمرة الأخيرة، هل لديك أية رسائل؟”. قال دونوفان بصوت بارد ومتحمس.

“أه، اصمت، أنت، دونوفان؛ أنت لا تفهمني، لكن هؤلاء الرجال يفهمونني. إنهم أصدقائي؛ يقفون بجانبي وأنا أقف بجانبهم. لسنا أدوات رأسمالية كما  تظن”.

كنت الوحيد من بين الحشد الذي رأى دونوفان يرفع مسدسه نحو مؤخرة عنق هوكينز، وحينما فعل ذلك أغمضت عيني وحاولت أن أتلو صلاة. كان هوكينز قد بدأ يقول شيئًا آخر عندما أطلق دونوفان النار. فتحت عيني عند دوي الطلقة، رأيته يجثو على ركبتيه، ويسقط مسطحًا عند قدمي نوبل، ببطء وهدوء كطفل. تهاوى حزينًا وضوء الفانوس على ساقيه النحيفتين، بحذائه الريفي اللامع. وقفنا جميعًا ساكنين لفترة نراقبه وهو يستقر في آلامه الأخيرة.

ثم أخرج بيلشر بخفة منديلًا وبدأ يربطه حول عينيه ـ لأننا نسينا في حماسنا أن نفعل نفس الشيء لهوكينز ـ وحين رأى أن المنديل ليس كبيرًا بما يكفي، استدار وطلب مني إعارته واحدًا. أعطيته إياه، وبعد أن انتهى أشار بقدمه إلى هوكينز قائلًا: “إنه ليس ميتًا تمامًا، من الأفصل أن تعطيه واحدة أخرى”.

بالفعل، رأينا تحت ضوء الفانوس ركبة هوكينز اليسرى ترتفع. انحنيت ووضعت مسدسي على أذنه ثم استجمعت شجاعتي، لكنني بمعاونة نوبل وقفت مرة ثانية متمتمًا ببضعة كلمات. فهم بيلشر ما يدور في ذهني.

قال: “أعطني الطلقة الأولى، لا يهمني، المسكين، لا نعرف ماذا يحدث له الآن”.

وبما أني في هذه المرحلة تجاوزت كل شعور فقد انحنيت وأعطيت هوكينز الطلقة الأخيرة بمهارة حتى أرسله إلى الراحة الأبدية. أخذ بيلشر يتحسس المنديل بشكل محرج قليلًا وهو يضحك حين سمع الطلقة. كانت المرة الأولى التي  أسمعه يضحك، وهذا ما جعل القشعريرة تكهرب جسمي. ضحكات تنبعث بشكل غير مناسب بعد موت صديقه القديم بهذه المأساوية.

“مسكين” قال بهدوء. “في الليلة الماضية كان فضوليًا جدًا بشأن كل شيء، إنه أمر غريب جدًا، أصدقائي، دائمًا ما أفكر بذلك. الآن، هو يعرف بقدر ما سيسمحون له بمعرفته، وفي الليلة الماضية كان غارقًا في الظلام”.

ساعده دونوفان في ربط المنديل حول عينيه. “شكرًا، صديقي” قال.

سأله دونوفان إذا كان هناك أية رسائل يرغب في إرسالها.

“لا، صديقي” قال. “لا شيء لي. إذا كان أي منكم يرغب في الكتابة إلى والدة هوكينز، ستجدون رسالة منها في جيبه. لكن زوجتي تركتني منذ ثماني سنوات. ذهبت مع رجل آخر وأخذت الطفل معها. أحب شعور المنزل ـ كما قد تكون لاحظت ـ لكنني لم أستطع البدء من جديد بعد ذلك”.

وقفنا حول بعضنا مثل الحمقى لأنه لم يعد بإمكانه رؤيتنا الآن. نظر دونوفان إلى نوبل فهز رأسه. رفع دونوفان مسدسه، وضحك بيلشر بطريقته الغريبة المتوترة مرة أخرى في تلك اللحظة. لابد أنه يعتقد أننا نتحدث عنه؛ على أي حال، أنزل دونوفان سلاحه.

“اعذروني، يا أصدقائي”، قال بيلشر، “أشعر أنني أتكلم كثيرًا.. وأبدو سخيفًا.. بشأن كوني بارعًا في المنزل.. لكن هذا الأمر جاء فجأة. سأكون ممتنًا لكم. أنا متأكد”.

“ألا تريد أن تتلو صلاة؟”. سأل جيريميا دونوفان.

“لا، صديقي”. رد “لا أعتقد أن ذلك سيساعد. أنا مستعد إذا أردتم إنهاء الأمر”.

“أنت تفهم” قال جيريميا دونوفان، “ليس الأمر بيدنا كثيرًا. إنه واجبنا، إن جاز التعبير”.

رأس بيلشر مرفوع مثل أعمى حقيقي، بحيث يمكنك رؤية أنفه وذقنه فقط في ضوء المصباح.

“لم أستطع أبدًا أن أفهم ما هو الواجب” قال. “لكنني أعتقد أنكم جميعًا أولاد طيبون، إذا كان هذا ما تعنيه. أنا لا أشتكي”.

أومأ نوبل بنظرة يأس إلى دونوفان، وفي لمح البصر رفع دونوفان سلاحه وأطلق النار. سقط الرجل الكبير مثل كيس دقيق، ولم تكن هناك حاجة هذه المرة لإطلاق النار ثانية.

لا أتذكر الكثير عن الدفن سوى أنه كان أسوء من كل ما سبق، ذلك لأننا اضطررنا لحمل الجثتين الدافئتين لمسافة قليلة قبل أن نغمرهما في المستنقع العاصف. كان كل شيء انعزاليًا بشكل جنوني، مع وجود مصباح صغير بيننا والظلام الدامس، والطيور تصرخ من حولنا في اضطراب بسبب الطلقات. كان يجب على نوبل أن يفتش هوكينز أولًا ليحصل على رسالة والدته ثم، وبعدما أزالوا كل آثار القبر، جمع نوبل وأنا المجارف، وودعنا الآخرين، ثم عدنا على طول حافة المستنقع الغادر دون كلمة. وضعنا المجارف في المخزن ثم دخلنا إلى البيت.

كان المطبخ مظلمًا وباردًا، كما تركناه، والمرأة العجوز جالسة عند المدفأة تمرر حبات مسبحتها. خطونا بجانبها نحو الغرفة، وأشعل نوبل عود ثقاب لإضاءة المصباح. في تلك اللحظة نهضت العجوز بهدوء وتوجهت إلى المدخل. لم تكن مندفعة أو عابسة كما هو معتاد.

“ماذا فعلت بهما؟” قالت بصوت خافت، وقفز نوبل بصورة مروعة جعلت الكبريت ينطفئ في يده المرتجفة.

“ما هذا؟” سأل دون أن يستدير.

“سمعتكم” قالت.

“ماذا سمعت؟” سأل نوبل. لكنه بالتأكيد لم يكن ليخدع طفلًا بتلك الطريقة التي نطق بها…

“سمعتكم، هل تظن أنني لم أكن أنصت إليك وأنت تعيد المجارف إلى المنزل؟”.

أشعل نوبل عود كبريت آخر وهذه المرة أضيء المصباح.

“هل كان هذا ما فعتلوه بهما؟” سألت.

لم ينطق نوبل. بعد كل هذا، ماذا يمكنه أن يقول.

ثم، والله، سقطت العجوز على ركبتيها عند الباب، وبدأت في تمرير حبات مسبحتها، وبعد دقيقة أو دقيقتين، ركع نوبل بجانب المدفأة، فتجاوزته ووقفت عند الباب، أراقب النجوم وأستمع إلى صراخ الطيور اللعينة. غريب ما تشعر به في مثل هذه اللحظات، والأغرب ألا يُكتب بعدها. قال نوبل إنه شعر بكل شيء رآه  في حجم يتجاوز عشرة أضعفاف، ولم يكن يبصر سوى بقعة صغيرة من المستنقع الأسود يتجمد الإنجليزيان داخلها.

لكن بالنسبة لي كان الأمر على العكس؛ كأن بقعة المستنقع، حيث كان الإنجليزيان، تبعد عني ألف ميل.. حتى نوبل الذي يتمتم خلفي والمرأة العجوز والطيور والنجوم الدموية كانوا بعيدين جميعًا.. كنت بطريقة ما صغيرًا جدًا.. وحيدًا جدًا.. وأي شيء حدث لي بعد ذلك.. لم أشعر بنفس الشيء مرة أخرى.Top of Form

…………………………

1 ـ قرية إيرلندية تقع على نهر كلير.

2 ـ رقصات إيرلندية تقليدية مستلهمة من الأحداث التاريخية والحياة اليومية.

3 ـ ملك الآلهة الرومانية وإله السماء والبرق في الميثولوجيا الرومانية.

4 ـ مسدس عسكري، العيار 9 ملم، يوصف بأنه الأنجح في العالم على الإطلاق.

 

مقالات من نفس القسم