هشام أصلان
لطالما انتظرنا، طارق إمام وأنا، تلك الساعات من آخر الليل، التي نخطفها بعدما تنام المدينة، ويذهب الأصدقاء متخوفين من تركنا منفردين، تصورًا أن جلسة نميمة عميقة ستشتعل بوقود أحوالهم. غير أن هذا أمر، وإن كان يحمل شيء من الوجاهة، لا يأخذ أكثر من حجمه الحقيقي. ينظر أحدنا إلى الآخر ويبتسم بزفير ساخر للتحرر، وكأنها مداعبة أخيرة للأصدقاء الذين ذهبوا مبكرًا.
هناك اتفاق ضمني على طبيعة ما سنخوض فيه. سنتحدث في محبة الكسل، وسنجد مبررات منطقية لعدم استعجال العمل على مسودات الكتابة المركونة. بل لعدم العمل إن أمكن. وسنسخر من الملتزمين الذين يفوتهم الاستمتاع بالحياة في سبيل إنجاز كتاب. “الموهبة ابنة النزق، ونحن أسلاك عارية، ما فائدة أن نكتب كثيرًا بينما نترك الليل لآخرين يستمتعون به؟”. سنضحك بصوت يزعج رواد البار. بعد قليل سيتغير شكل الضحك، ويتدرج من الانتشاء إلى شبهة حسرة على ما يضيع من وقت. ضحك يفهم بعمق طبيعة هذه الصداقة، التي لا يحتاج طرفيها من بعض سوى عدم اللوم على أي شيء. النزق لآخره، الكسل، وربما خيانة النفس.
العلاقة بين طارق إمام والمدينة علاقة شديدة الالتباس. هو لا يخجل أبدًا من إبداء تأففه أمامي تجاه القاهرة، التي أنتمي حتى آخري إلى سطحها وداخلها. يعرف أنني سأتقبل منه حولها ما لا أتقبله من كثيرين، حيث تأفف ليس مصدره أبدًا من كراهية أبناء الأقاليم المعتادة لسلُطة العاصمة. هو ليس من هؤلاء المتكئين على تلك الأسباب البلهاء. ذلك أنه لم يأت من بيئة ريفية عبأته بمشاكل الطبقة. القاهرة لم تصدم الكاتب الشاب النازح منذ سنوات من بيئة حضرية حافظت مدينة دمنهور على ألا يلتهمها وحش العمارة وترامي الأطراف. حافظت على حدود كتلك التي صنعها طارق بينه وبين العاصمة، ليقف بجسده داخلها، بينما روحه عند حدود عتبات يحمي نفسه بعدم تجاوزها.
من هنا، يسير في شوارعها متماهيًا، دون أن تلحّ عليه رغبة تغيير العالم، خصوصًا بعدما أدرك طريقًا لعالم آخر يخّصه، واطمأن إلى أنه سيجد الونس الملائم.
بدأ الكتابة مبكرًا، وأصدر عدد غير قليل من الروايات والقصص. غير أنك إذا أزلت أغلفتها ووضعتها جميعًا وراء غلاف واحد، ستكتشف أنه كتاب كبير، ينحت في فصوله أبنية عالمه، ويخلق سُكانه واحدًا تلو الآخر. من هنا، ربما يصلح عنوانه الأخير، مدينة الحوائط اللا نهائية، عنوانًا لهذا الكتاب الكبير بحكاياته الخرافية وإن وصل بينها وبين أرض الواقع خيط غير مرئي، يحيل تلقيها أثرًا للواقع في تحوله السحري، وأنسنة ناجحة للخيال.