في سياق ثقافي مضطرب يموج بالثورات والثورات المضادة ، وفي لحظة فارقة يمكن أن تسقط فيها أعلام وترتفع أعلام، يخرج علينا وحيد الطويلة بروايته المتميزة “باب الليل”(منشورات الاختلاف 2013)ليؤكد وفاءه لسنة استحلاب ألم الانكسار والهزيمة من الوجوه العربية رجالاً ونساءً والتي غدت -من وجهة نظرنا- ملمحًا سرديًا يتجاوز الأجيال والأقطار. إن إخلاص الطويلة ابن جيل الثمانينيات لهذه السنّة ليس اختيارًا شخصيًا معلّقًا في الهواء، وإنما هو استجابة لدعوة الوجوه العربية التي يزخر بها عالمه الروائي في “باب الليل” لقراءتها قراءة تكشف عن أسباب الانكسار والهزيمة في زمن ما بعد السلام!!
فهل أصبح “السلام” وما تبعه من انكسارات وخيبات محفزًا إبداعيًا للروائيين العرب ينافس لحظة هزيمة 67 في قدرتها علي إنتاج رواية متلونة بلون ثقافتنا وملامحنا العربية؛ ملامح الانكسار والهزيمة والخيبات المتوالية؟! أيًا كان الأمر في المستقبل، فإننا أمام رواية تُعد خطوة علي هذا الطريق. إنه طريق البحث عن وطن بديل في زمن تبديد الأوطان، طريق البحث عن روح غير مهترئة تسكن جسدًا غير مُنتهَك!!
وللمفارقة يبدأ الإنسان العربي بوجوهه النسائية والذكورية في “باب الليل” رحلة البحث عن الوطن البديل من الحمّام حيث الخبث والخبائث؛ إنه حمّام لمقهي يحمل زورًا اسم “لمّة الأحباب” حيث لا مكان فيه سوي للعهر بمعانيه المختلفة. للعهر معانٍ عديدة، أقلها خطورة علي الإنسان عهر العاهرات، وأخطرها عهر الساسة والزعماء! بل إن عهر العاهرات في “باب الليل” ليس اختيارًا شخصيًا لكائنات حرة، بل في الغالب الأعم هو من توابع عهر الساسة والقادة!
فعقب اتفاقية كامب ديفيد وما تبعها من احتلال إسرائيلي لبيروت دخل العرب “باب الليل” حيث انتقلت جامعتهم لتونس ومعها طُردت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلي تونس، وتحولت السُلطة الفلسطينية إلي السَلَطة (بفتح السين واللام) الفلسطينية، حين أحالت المجاهدين إلي التقاعد بحسب أبي شندي المناضل الفلسطيني المتقاعد؛ “أحالتنا إلي التقاعد أحياء بعد أن رمتنا سابقًا علي رصيف الموتي الأحياء..بالكاد نكمل نصف الشهر”(ص48). ومن موقع المجاهد المتقاعد في زمن السلام ينسج أبو شندي بكلماته خيوط الحبل الواصل بين عهر العاهرات وعهر الساسة والزعماء حين يكشف عن وجوه الشبه والاختلاف بين المجاهدين المتقاعدين في زمن السلام وبين المومسات. “نحن نشبه المومسات، صدقني، لكنهن أفضل منا، الفارق الوحيد أنهن أكثر ذكاء من قادتنا”.(ص50).
يدخل العرب “باب الليل” باعتبارهم نسخًا كربونية لذات منهزمة منكسرة متواطئة مع أسباب هزيمتها وانكسارها؛ حيث يصبح التواطؤ القانون الذي يحكم العلاقات بين البشر بدءًا من تبادل التليفونات بين الرجال والنساء في حمام المقهي المشترك، مرورًا بتعليق صور الرئيس علي المقهي، بل في داخل الحمّام، وصولاً لمنع وتحريم الدعاء علي حزب الناتو في المساجد!
ومن ثم، يبدو لنا أن الانكسار والتواطؤ شكلا القاسم المشترك بين شخصيات الرواية علي اختلافها النوعي(نساء ورجال) ورغم اختلاف جنسياتها(فلسطيني، تونسي، سوري، لبناني، مصري) واختلافها العمري(شباب، كهول)، وهو ما مكّن الطويلة من توظيف اللغة روائيًا علي نحو يعكس التماهي بين الشخصيات لغويًا أكثر مما يكشف عن سمات لغوية وأسلوبية تتفرد بها شخصية دون أخري. إن الراوي يصنع لذاته بطولة لغوية تتمثل في دقة الوصف لشخصيات الرواية جسديًا ونفسيًا بمفردات وعبارات مستقاة من ذاكرة الشعراء لا من دفاتر الروائيين، كما يمنح هذا الراوي شخصيات الرواية قدرًا من بطولته اللغوية حين يجعلها تضفر معه من مفردات وعبارات السياسة والعسكرية ومن مفردات وعبارات الممارسات الجنسية معجمًا لغويًا يرسخ التماهي بين الذوات المستنسخة داخل الرواية، بل وخارجها بقدر ما يستطيع القارئ أن يفك شفرات الدلالات المشتركة بين الراوي والشخصيات والكامنة في مفردات مثل”الركوب، الأكل،القذف،العمليات،مؤخرة البندقية، سريع العدو“.
ومع ذلك يبقي لدينا تساؤل مشروع وهو إلي أي مدي استطاعت اللغة المستقاة من ذاكرة الشعر، والراوي المتمتع بالبطولة اللغوية والتي يصبغ بملامحها شخصيات الرواية دون تمييز، أن يقنعا القارئ بتطور شخصيات الرواية -علي الرغم من اشتراكها في ملمحي الانكسار والتواطؤ ذ علي النحو الذي حدث به في نهاية الرواية؟
يبدو لنا مقنعًا، من حيث البناء الفني ل” باب الليل”، أن تنتهي الرواية بالحصول علي الوطن البديل بتحقق الحلم بالسفر للخارج عند حلومة، أو بالاستعاضة عن العودة لدخول فلسطين بدخول النساء ووضع شادي لحلمه بالعودة بين سيقانهن لينام، بل ويبدو مقنعًا كفر مهدي بفكرة الوطن ورغبته في الانضمام للمارينز في العراق، ذلك أنها كلها مصائر تكشف عن استمرار الانكسار والتواطؤ بين الشخصيات ويتسق مع تجديد المقهي وإمداده ببنات هوي من الأجيال الجديدة مع تغيير اليافطة فقط!!
لكن ما كان يحتاج لمزيد من الإقناع الفني هو المصير الذي آلت إليه شخصية درة. إذ بدا لنا أن الطويلة يعتمد علي فجائية ثورة تونس التي فجرها بوعزيزي في 2010 كحدث خارج الرواية لم ترد إشارة إليه في الرواية ليرتب عليه الاختفاء المفاجئ للضباط والمخبرين من المقهي، ومن ثم الثورية المفاجئة التي انتابت شخصية درة حين رأت صورة الرئيس في الحمام فركلتها بقدمها ووضعتها مهشمة في سلة القمامة.
إن مصائر الشخصيات في نهاية الرواية هي المسارات المحتملة لرحلة البحث عن الوطن البديل في زمن تبديد الأوطان واهتراء الأرواح وانتهاك الأجساد في “باب الليل”. تلك الرواية التي تقطّر أمصال الماضي في عيون المستقبل حتي لا نكرر مع أبي شندي “الثورة مثل امرأة وضعت إصبعها في شيئها في نهاية المطاف”(ص216).