صَحوة

أحمد برحال
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد برحال

على نغمةٍ هادئةٍ من منبه هاتف حصل عليه هدية من أحدهم، استيقظ هذا الصباح. وكعادته دخل الحمام، قام بأشياء يقوم بها الإنسان. نظف أطرافه، مسح وجهه. فنظر إلى المرآة، أخذته الدهشة. لم يصدق ما رآه. التفت بدورةٍ من رأسه إلى الخلف، لا أحد. أعاد النّظرَ مرة أخرى في المرآة. تحقّق جيداً. الصورة كما رآها في الأول.

 عكست المرآة وجهاً غير وجهه، وجهٌ بملامحَ غليظةٍ، ينظر إليه بعينين واسعتين. تحرك يميناً، فتحرك الوجه إلى اليمين. نَحا جهة اليسار، فسارَ معه في نفس الاتجاه. همَّ بالخروج، ثم نظر إلى المرآة من الجانب الآخر، وهو يستند إلى باب الحمام، ظهر له وجهُ كائن أسودَ اللون يُطل من بعيد، ومن ورائه باب من خشب.

 سمع صوت زوجته تناديه:

ــ أبناؤك حول المائدة ينتظرون، أسرع لتشاركهم الفطور.

بخطىً مترددة، توجه نحوهم والحيرة تُحرقُ داخلَه. أخذ كرسياً وجلس إلى جانب أصغرهم. ما إن استقر جالساً، حتى شدَّ إليه أكبرهم نظراته، ينظر إليه بشكلٍ متواصل. أما هوَ، وبطرفِ عينه اليُسرى، بدأ يتابع في ريبة تَحَمْلُقَ الصغير في وجهه. ينتظر أن يُطلقها قنبلة تصيبه في مقتل، فأظهر عدم اكتراث بالحركات من حوله. وهو يدفع الطعام إلى معدته دفعاً، يحس أن بلعومه يرفض استقبال أيّاً من أنواع الطعام في الوقت الحاضر. يتظاهر بالعجلة من أمره، فيطلق كلمات متقطعة، فُهِمَ منها، عليه أن يصل إلى العمل في وقت مبكر، ليكمل بعض الملفات التي بقيت عالقة منذ الأمس، حتى يتمكن من مباشرة أعمال اليوم بشكل عادٍ. والحيرة تهز كل دواخله، يسترق نظراتٍ إليهم، يستنتج:

ــ الأمور عادية جداً.

 فيدخل في حوار داخلي:

ـــ أَ صحيح أنهم لم يلاحظوا أي شيء، أم لم يكتروا لأمري؟

 لماذا كان الصغير ينظر إليَّ بارتياب واضح؟

ألم يتلقَّ همساً من أمه تأمره بالصمت؟

هم فقط تجاهلوا الوضع، هكذا أظنُّ.

يمرر يده اليمنى على وجهه، وفي الحركة الثانية يُشرك اليسرى، فيقول:

ــ الأعضاء هي الأعضاء، لا تزال على حالها. أحس أن الأنف لا يزال ثابتا بعنفوان، يرعى ملامح الوجه. لا أثر لِشعرٍ على وجهي من النوع الذي يغطي وجه الكائن الذي رأيت.

يمرر راحتيْ يديْه على أذنيْه، فيمسك بطرفيهما مستخدماً السبابة والإبهام، وهو يتحسس شكلهما، فيجر إلى الأسفل، إلى الجانب، ثمّ إلى الأعلى. يُدخل سبّابته في ثقب الأذن، فيقول:

ــ يصلني شعور أن الأذنين لا تزالا على شاكلتهما.

 يرفع جبينه إلى الأعلى، يفرك عينيه، ثم يسأل بتأفف:

ـــ ماذا أصابني؟

 يجيب نفسه محاولاً البحث عن أسباب علَّها تُهدئ من روعه:

ـــ قد تكون بقايا النوم هي السبب. كانت حالتي النفسية غير جيدة وأنا أدخل الحمام. لا شكَّ أن شيطانا ركبني هذا الصباح، يريد إزعاجي. عَليَّ بالعودة إلى ذاتي.

قام من المكان، ارتدى ملابس العمل، توجّه ناحية دولاب الأحذية الموجود في مدخل البيت. بحث عن الجوارب، لبسها فانتعل الحذاء، وقد حاول أن يكون متناسقا مع اختاره من لباس. نظر مرة أخرى نظرة خاطفة إلى المرآة الموجودة في المدخل، بدا له الوجه الذي رآه في مرآة الحمام. كائن برأس كبير، يُحملق ببلاهة.

حوّل وجهه بسرعة عن المرآة، لِيجدَ زوجته وقد اتكأت بمرفقيْ يديْها على جدار قصير، يفصل المدخل عن البهو وهيَ تتابع حركاته بعينين مقوّستين، رماها بابتسامة بلهاء، من شفتين جافتين، أحسَّ بحلقه يجف ويجف فودَّعها بحركة باردة من يده. رَدّتْ عليه بمثلها في تثاقل. خرج وهو يسرع الخطوَ، وكل خطوة يرمي بها يحس أن جسده “تهوي به الريح في مكان سحيق”[2].

تركها تائهة الفكر، لتعيش يومها في دوامة. تطرح السؤال ثم تفكر في الجواب، تهجمُ عليها أجوبة من نوع خاص، يصب أغلبها في اتجاه غير حميد. تحتار. فتقرر أن ترجئ التفكير في الموضوع، لكن أنى لها ذلك؟!  وهل يختار المرء همومه؟

ينزل إلى الطابق التحت أرضي للعمارة. بصعوبة يُميِّز سيارته من بين سيارات الجيران المركونة بنظام في المرآب، يقف أمامها وقتاً غير هيّن، يستغرق دقائق وهو يفتَّش جيوبه بحثاً عن المفتاح، حتى المحفظة التي كانت بيده، قَلّب كل محتوياتها بيدين مرتعدتين. بمشقّةٍ يتمكن أخيراً من تحريك سيارته لِيخرجَ من الباب الكبير، شارد الذهن، وهو يحاول ألا يلتفت إلى أحدٍ حتى لا يصدمه بالحقيقة، حقيقة وجهه الذي تحول إلى ما يعلمه.

 حارس العمارة استغرب لسلوكه الغير عادي هذا الصباح، فعندما مرّ عليه في المدخل، لم يُلقي عليه تحية الصباح كما عهد منه في كل مقابلة. فأرجع الأمر إلى انشغال شدَّ انتباهه، منعه من التركيز فيما حوله.

 وهو يعيد الباب إلى وضعه الأول، قال بصوت مرتفع، أو بالأحرى خرجت الكلمات من فمه دون تفكير ولا استئذان:

ــ لا حول ولا قوة إلا بالله، كم هي فاتنة هذه الدنيا.

 غاص البَوّابُ في نفسه. تذكر أشياء كثيرة. تنهد بعمق وهو ينظر إلى الجدار المقابل، وما ينظر حقيقة إلا إلى حاضرٍ يُحرق، فتذكر همومه. وبسرعة نزلت على رأسه كالجبال. وما إن بدأ في استدعاء بعض الأحداث ذات الأهمية الكبيرة في مسار حياته حتى أعاده أزيز سيارة أحد السكان إلى مهنته، قام مِنْ على الكرسي متمايلاً وهو يمسك بيده اليمنى أسفل الفخذ، ليفتحَ باب القَبْوِ مرة أخرى، ويردَّ التحية بابتسامة رسمها على وجهه فأظهرت فماً خَرِباً. جلس على الكرسي ذي الرجل المكسورة يستند إلى الجدار ليثبت الجسد مخافة السقوط، فغاص في النظر إلى الجدار المقابل مرة أخرى.

أما صاحبنا، فقد سار بسيارته طول الطريق الفاصل بين السكن والعمل، وهو يفكر فيما أصابه، طرح جميع الفرضيات التي من الممكن أن تفسر حالته، لكنه لم يَركَن إلى أحدها تفسيراً لما يعيشه.

 ينعكس وجهٌ غير وجْهه الحقيقي على المرآة.

أخذته حالة هستيرية فقدَ فيها بوصلة نفسه. انفعل، غضبَ، انفجر، صرخ. هدأَ وفي حيرة تساءل:

 هل أعيش مكانا غير المكان الذي يعيشه الناس؟

 هل أبعاد الزمان التي أعيشها غير الأبعاد التي يحس بها باقي البشر؟

 لماذا لا تكون فوضى اتصالات وقعت بين المخ والحواس؟

استدرك:

ــ لكن، المخ يقرأ رسائل باقي الحواس بشكل جيد. أشم وأتذوق، أسمع وأحس.

شك في وظيفة العين، فافترض:

ـــ لعل خللا وقع في مسار الرسائل بينها وبين المخ. فالوفاء خصلة تميز العلاقات الجيدة.

 ما لِعلاقة العين بالمخ؟

ــ أَ انفكت عرى الوِدِّ بينهما؟

ــ هل تراخت وشائج تماسكهما؟

ـــ لماذا لا ترسل له الصورةَ كما هي؟

أبدو في المرآة قرداً!

ثمّةَ أشياءَ تقع.

أَ هي الصورة التي أحملها على نفسي؟

هذا أنا إذن!  وهذه هي حقيقتي.

تنهّد بعمق شديد، مدّ يده اليسرى إلى فمه، وبحركة عفوية من أسنانه، عضَّ على سبابته اليسرى، ليقول في نفسه:

ــ لا شك أن للممارسات التي أقوم بها، دور فيما وصلتْ إليه حالتي. 

 تردد هذا الاستنتاج في أذنه صدىً أصابه بالصمم لفترة من الزمن.

لم يدرك كيف كان يسوق السيارة، ولم يتذكر الطريق التي مرّ منها، فتعجب كيف وصل إلى مقر عمله.

 هو الآن يباشر مَهمّة، إنه يعيد ترتيب محتويات ملف. خدمةٌ تساوي مبالغ مالية دفعها صاحب الملف لرئيسه في إحدى الأماكن البعيدة عن الأعين، وقد تسلمها أوراقا نقدية، لحظتها لمعت عيناه لمعاناً، ودارتا في مِحجريْهما دوراتٍ وهو يدسها في جيبه.

أما هو فعليه أن يُعدِّلَ ويُدققَ بعض الحسابات. يُغير أرقاماً بأرقامٍ، ويعوض بياناتٍ بأخرى، لِيكون الملف مُعدّاً بما يليق من دقة حتى ينال رضى لجنة ستعقد اجتماعها في أقرب الأيام من أجل المصادقة على مشاريع حيّة تسكن هذه الملفات. مشاريع متنوعة، بعضها نضِج، والبعض الآخر ينتظر، مشاريع مدرّة للدخل. دخل سمين يعود ريعه على أصحابه بَدانةً، فيزيد من اتساع بطونٍ لا تميز بين الصالح والطالح، ولا الرديء والجيد، وقد أضحت حاويات لكل أنواع الطعام.

يستغرق هذه المرة وقتا طويلاً في التدقيق، أو بالأحرى في إعادة صياغة محتوى بعض الوثائق، لصالح مستثمر دفع للرئيس، والرئيس بدوره سيدفع لآخرين، ومن هؤلاء الآخرين، صاحبنا الذي سيتوصل بما تيسر من حلاوةٍ، يوزعها على زوجته وأبنائه لِيتذوقوا مرارتها.

هو عمل يقوم به كلما هبت الرياح بمثل هذه الملفات. بكل يسر، تسير أمور التغييرات. لكن العمل هذا اليوم لا يريد أن يستقيم، يأبى أن يسير بالشكل المعتاد. لقد وجد نفسه في المكتب، ينتقل من مكان إلى مكان، يقفز من ركن إلى آخر كقرد اشتد به الجوع. يفتش هنا، ليترك الأوراق مبعثرة في المكان، فينتقل إلى درج المكتب المقابل يبحث عن شيء ضائع، لم يتوصل بعد إلى ما هو هذا الشيء.

 يتوقف لحظة لتأخذه حكة استمرت لقرابة الدقيقة وهو يفرك قفاه، فيكتشف أنه ما من ضائع في كل هذا الخِضمِّ إلا نفسه. ضائع عن ذاته التي وجد صعوبة في إقامة بنيانها، ضائع عن أسرته عندما لم يجد طريقا إلى التوافق مع عناصرها، ضائع عن القِيّمِ التي رضعها في حليب أمه، ضائع عن حمولة كلام والده وهو يوصي في حياته بالتزام الاستقامة والصدق والأمانة وخدمة الصالح العام، …. ضائع عن أصالته وتاريخه العائلي.

مصَّ شفتيْه، بعدها عضَّ على السفلى عضاً خفيفاً، غيّر من هيئة جلوسه، وانحنى يبحث بين ملفات منضّدة تحت مكتبه عن ورقة ضائعة لا يدري كيف غابت عن الملف، ليتذكر أنه صاحب الفعلة، فقد دسّها في ملف آخر، ليكون الدفع بعدم تواجدها في الملف الأصلي سبباً لابتزاز صاحبه، فيدفعه للدفع.

حينها أحس فعلاً أنه قردٌ، قرد كبير، يقوم بمَهمّات صغيرة، يمارس فعلاً يجر عليه لعنة نفسه قبل لعنات الآخرين، فعل حَوَّله إلى شخصٍ بلا إرادة، فعلٌ صيّره لُعبة في أيدي كبار الفاسدين، يتقاذفون به كرةً في الهواء، وهو أول ضحية سيسقط إذا عصفت ريحٌ يوما ما، فيكون كبش فداء، لِيُعطوا المثل به عن طُهرانيتهم. به يقضون مآربهم الخسيسة، وعلى ظهره يبنون مجدهم الموهوم. أحس أنه أداة في أيدي قادة إمبراطورية الفساد.

انعتق من أغلال نفسه الأمارة بالسوء، فقرر أن يقطع مع ممارسات عاشت فيه وعاش فيها زمنا، فعزم بلا رجعة على أن يهجَرها.   

برباطة جأشٍ، استجمع كل ما لديه من عزيمة، وقرر بما يملك من قوة إرادة أن يصيح في وجه كبير القردة:

ـــ لن أستمر في القيام بالعمليات المعلومة، قررت أن أقوم بما يمليه واجب العمل فقط، ولا شيء غير ذلك.

 على الرغم مِمّا قام به الكبير من سعيٍ حثيث لثنيه عن القرار فإنه لم يتمكن من العودة به إلى المستنقع.

بِفخر صاح داخل نفسه، وبصوت شبه مسموع:

ـــ بلا رجعة سأُنصّب نفسي لخدمة لكل مستضعف تائه بين ردهات الإدارة، سأقضي له ما أستطيع أن أنجز من أغراض إدارية، سأوحي لكل حائر مرتبك بحل ممكن لمشكل إداري اعترضه وهو في الطريق إلى إكمال ملف من الملفات.      

 مسح على رأسه براحة يده اليمنى، فأحس وكأنه طرد عن ذهنه آخر ما ظل عالقا به من وساوس فاستطرد محدثا نفسه:

ـــ بعد أن استقلتُ من المَهمات الخاصة، سأتفرغ لمهمات أكبر، مهمة الابتسام في وجه مرتفق وهو يلج باب الإدارة بحثاً عن حق، فأقوم بواجب خدمته بتفانٍ.

وهو يعيش قراره، أحسّ براحة لم تزر كيانه منذ وقت طويل، وأن الهواء يصل إلى أعماق لم يكن يصلها في رئته، وتعجب كيف أن مسار حياته انقلب من ضياع مطلق إلى استقرار دائم.

انتعشت نفسه وعاش لذَّة من اكتشف نفسه أخيراً.

 

…………………………

 [1] قصة قصيرة خضعت للتعديل، سبق أن نشرتها في مجموعة”حراس الظلام” بعنوان آخر.

[2] سورة الحج الآية 29

مقالات من نفس القسم