محمد سمير عبد السَّلام
كتابة سلام تعزز من تفكيك المركز، والانتشار الجمالي للعلامة، واستبدالاتها المحتملة داخل النص، وتعددية الأصوات المستلهمة من أزمنة عديدة؛ سحيقة، ومعاصرة، وإعادة اكتشاف أنماط السلطة انطلاقًا من الثراء الإبداعي للهامشي، أو آليات المحو الخفية في المركز، وأصواته العديدة، والتأويل الإبداعي للتاريخ في سياق سردي شعري كثيف، ومتعدد الحلقات، ويبدأ من الإنتاجية النصية؛ ليصل وعي المتلقي بالبنى الثقافية والتاريخية المشابهة، وتفسيراتها المحتملة.
وتقوم كتابة سلام على بلاغة الإيماءة، والصور الاستعارية التوليدية التي تشتبك مع غرائز الموت، والحياة، ومخزون الذاكرة الجمعية، وأطياف النصوص الأدبية، وانبعاثها المتجدد في النص بصورة لا مركزية، وتعزز أيضًا من المحاكاة الساخرة – ما بعد الحداثية – من أي بنية مكتملة، أو نهاية حاسمة للمدلول، وتتجه إلى اللعب الجمالي البكر للدوال في تداعيات النص.
ونلمح مثل هذه التيمات الفنية، وتقنياتها الجمالية في ديوانه “هكذا قلت للهاوية”، وقد صدر ضمن الجزء الأول من الأعمال الشعرية لسلام بالهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2013.
إنها كتابة يعاين فيها الوعي نغمات الذاكرة، وأشياء الكون، والعالم؛ وهي في حالة من الصيرورة الاستعارية السردية المملوءة بالفراغات الجمالية؛ وتنبت فيها الأشياء في حالة استثنائية من حالات الصوت المتكلم التي تلي العتبة الاستهلالية للديوان: “قتلوني“[1].
وهي عتبة تومئ بتفكيك مركزية الحياة، وتفكيك مركزية الموت في آن واحد؛ وبين كل منهما يقع الصوت المتكلم، ويمارس وعيُه الحياة الإبداعية في مسافة من التأجيل للنهايات الحاسمة، ويعاين مرح الكتابة، وثراء علاماتها التي تتناص مع الأدب، والنصوص الثقافية، وتعيد إنتاج الرؤى المختلفة للعالم وفق منطقها الجمالي الخاص، وتأويلاتها المنفلتة من أي قيد تفسيري مسبق.
أما عتبة العنوان – هكذا قلت للهاوية – فتشير إلى التحول، أو العبور باتجاه بهجة صامتة، تحمل في بنيتها الموت، والحياة المجازية؛ الحضور والغياب معًا، وهي موت مؤجل؛ ويتجاوز الصوت مركزيته في حواره الجمالي معها؛ فهي معبر محتمل لاتساع حلمي، وكوني يتجاوز الصوت فيه حدوده الذاتية الأولى؛ فيتفاعل مع مدلول الهاوية بوصفها سقطةً أحيانًا، أو بوصفها طفرةً استعارية للصوت الطيفي، واستبدالاته الممكنة في تداعيات الكتابة.
ويمكننا ملاحظة خمس تيمات فنية في الديوان؛ وهي: صوت المتكلم بين تداعيات الكتابة، والصيرورة الكونية، والإيماءات الاستعارية والثقافية في النص، والمحاكاة الساخرة للحضور والغياب، وبكارة الاستبدال في النص، وإيحاءات السرد الشعري.
أولًا: صوت المتكلم بين تداعيات الكتابة، والصيرورة الكونية:
الصوت المتكلم – عندرفعت سلام – يجمع، في بنيته المتحولة، بين كونه أثرًا جماليًّا في تداعيات الكتابة، وانتمائه إلى أصالته الأولى في عوالم اللاوعي؛ ولكن هذه الأصالة تنفلت من حدود الذاكرة والتاريخ، وتمارس لعبة التمثيلات الجمالية، والكونية في النص.
إن الصوت – في هكذا قلت للهاوية – يمارس إغواءً إبداعيًّا استعاريًّا، ويعيد تشكيل آثار الوعي المبدع، وأطيافه المولدة من الذاكرة الجمعية، وأخيلة النصوص، والتاريخ الحضاري البشري في نزوعه نحو الامتداد، والانتشار المجازي في النص؛ ومن ثم اتحاده الآخر بالمتكلم في نوع من التعاطف الجمالي، والكوني ضمن تداعيات الكتابة اللامركزية.
الصوت ينقل حضوره الزمني الخاص في أصوات مولَّدة من حكايات، وتمثيلات قصصية، وتاريخية، وحضارية متنوعة؛ كي يثري أصالته في تداعيات الأثر، واستبدالاته الممكنة؛ إنه لا يتخلى عن كينونته لكنه يمنحها انتشارًا مضافًا، ومكملًا. وبصدد العلاقة بين الكتابة، والأثر، واستبدالاته الممكنة، يرى جاك دريدا أنه ما من مدلول يفلت من لعبة الإحالات الدالة؛ فتعبير (دال الدال) يتزحزح تلقائيًّا في حركة ولادته؛ إذ يعمل المدلول فيه بوصفه دالًّا، كما يرى أن تسمية كتابة تُطلق اليوم على الفعل، والحركة، والفكر، والعاطفة، والوعي، واللاوعي، وتُطلق على كل ما يدفع إلى خط شيء بعامة، سواء أكان حروفيًّا، أم لا؛ كأن يكون سينمائيًّا مثلًا، أو رقصيًّا، أو نحتيًّا”[2].
هكذا يتشكل طيف الصور والتمثيلات الوليدة التي يتحد بها المتكلم في “ديوان رفعت سلام“؛ فهي دوال مؤقتة تضاف إلى بنية الصوت، وتستبدلها، وتعيد تشكيلها في حضور تعددي متجدد، وتشير – في الوقت نفسه – إلى الامتداد الخفي للصوت، الذي يمثل كينونة الوعي المبدع في الكتابة؛ كما نلاحظ عنده حالات من الأداء المتحول في التاريخ، وفي العناصر الكونية، وتداعياتها في النص، ومعاينة لتشكيلات بصرية، وأصوات، وانخراط في حكايات جزئية تراثية، أو جمالية مخيَّلة، ومعانقة لبكارة الاسم الخاص بدال العلامة في سياق حضورها الاستعاري المتقطع، وعلاقاتها بالعلامات الأخرى المتلاحقة، والمستبدلة في النص، التي يمارس المتكلم – من خلالها – حضوره المحتمل، وحياته المجازيةبين علامات الكتابة، وتخييل العناصرالكونية.
يتصل الصوت المتكلم اتصالًا وثيقًا بالإيحاءات، والإيماءات الجمالية المكثفة لصوت الإنسان القديم، والمتناقض، والمستعاد من الذاكرة الجمعية، وكذلك بالفضاء الاستعاري للشجرة، أو المقبرة، وما يحمله من دلالات ثقافية؛ كما يتوتر بين الحضور المتعالي، ومواجهة الفراغ، أو الخواء في تحولات الكتابة؛ فقد خرج من مركزياته التاريخية، ومن ثم فقد حمل آثار الصور، والأصوات البشرية الأخرى، وأطيافها كدوال تمثيلية مضافة لهويته، ومرجعيته الذاتية المتحولة في بكارة الأثر.
“لاَ ذَاكِرَةَ لِي،
وَلاَ حَنِيـن.
أمشِي.
فَليَتَنَحَّ الجَمِيعُ عَن طَرِيقِي،
أو يُخفِضُوا رُؤُوسَهُم إلَى الأرض،
حَتَّى أنسَى.
لَن أخرِقَ الأرضَ، وَلَن أبلُغَ الجِبَال
(لَستُ مَشغُولًا بِذَلِك!)
فَلِمَاذَا يَأوِي إلَيَّ الرَّاحِلُون
(لَم أُصبِح – بَعدُ – مَقبَرَة)
لِمَاذَا – حِينَ تَهُزُّ الرِّيحُ أغصَانِي –
يَسَّاقَطُ الحُطَيئَةُ وَبَشَّارُ وَرَامبُو وَالمُتَنَبِّي وَمَايَاكُوفسِكِي وَأبُو نُوَاس وَامرُؤُ القَيسِ وَرِيتسُوس وَتَأبَّطَ شَرًّا … الَخ
مَعَهُم تَسَّاقَطُ صَحرَاوَاتٌ لَم أقطَعهَا، وَخُمُورٌ لَم أشرَبهَا، وَذُنُوبٌ لَم أرتَكِبهَا، وَنِسَاءٌ لَم أنكحهَا، وَأحلاَمٌ لَم أقرَبهَا، وَحَمَاقَاتٌ لَم أقتَرِفهَا، وَشَهَوَاتٌ لَم أذُقهَا، وَقَصَائِدُ لَم أكتُبهَا
لاَ بَأسَ – إذَن – أن أُشعِلَ النَّارَ فِي الأغصَان،
وَأمشِي خُطوَاتٍ مِن نِسيَان. “[3].
ثمة اتساع بكر للصوت في النص؛ إذ يعلن انفصاله عن الذاكرة، والحنين للماضي، وربما يعانق جذور رحابة الأنا في عوالم اللاوعي؛ حيث ترتبط النفس بوفرة الكون قبل تشكل الاسم، والتاريخ، ويرتبط هذا الاتساع بأصالة الصوت الفريدة الدالة على المتكلم، ولكنه يمارس غواية التوحد بالدوال، والصور التي تتخذ مظهر الوعي المبدع في تداعيات الكتابة.
إن الإحالة إلى مركزية الصوت – في المقطع السابق – تحمل في بنيتها السخرية من المركز نفسه حين يمارس الصوت حالة من اللامبالاة إزاء التجبر والمرح، وقد تناص فيهما مع القرآن الكريم؛ ليوحي بتفكيك مركزية الصوت الذاتي، ثم يفرغ مكونات الوعي المبدع كعلامات، أو دوال، وأصوات تبدو كآثار متحولة للصوت؛ فهو مجال جمالي لشجرة تمارس تعاطفًا كونيًّا مع الريح، كما تومئ – ثقافيًّا – إلى شبح ملك الغابة، وارتباطه بالغصن الذهبي كما هو في تحليل جيمس فريزر، وتستبدل الثمار الجمالية للشجرة بتاريخ للثقافة، والشعر والشعراء في الوعي المبدع، وبتمثيلات أفعال النوع البشري، وأصواته العديدة، وشهواته، وغرائزه، وآثامه، وحضارته، وتاريخه الفني.
إن الصوت ليعلن عن اتساعه التاريخي في فضاء الشجرة، وأثرها التصويري الجمالي، والثقافي في الكتابة التي تجاوزت مستوى النص، وصارت وجودًا متكاملًا يتسم بالوفرة، والفراغ في آن؛ فالصوت يسخر من الوفرة الإيجابية في المشهد أيضًا، ويتجه لحرق الأغصان، أو الأعضاء، والأصوات، والأصوات المجازية التي يحملها؛ كي ينزع إلى تلاحق التبديل في الهوية، وإثراء اتساعها الأول الخفي في طبقات دوال الكتابة، وآثارها المتناقضة المتجددة.
إن الشجرة لتعانق وهج المقبرة الاستعاري في الكتابة؛ فالمقبرة تنتج الأطياف المرحة في الشجرة التي تحترق، وتدمر بواسطة النار بينما تكتسب سمة الزيادة فيها، والتي تشبه عمليات المحو، والاستبدال، واللعب، وتجدد الدال كما أشار إليها دريدا في الكتابة والاختلاف.
إن الصوت يعاين لذة التوحد بحالات الأداء المستنبتة من تناقضات الجنس البشري، بما فيه من بربرية، وحضارة، وموت، وحياة، وجمال، وقد عادت بشكل يتضمن الفراغ، والسلب، أو الحضور الافتراضي الذي يسخر من أبنيته الصلبة الأولى، مثلما سخر الصوت من مركزية الذاكرة، والوجود الفردي، وموته الخاص من قبل.
وقد تتجدد الرؤى الحلمية، والصور، والحكايات المولدة من الذاكرة الجمعية في سرديات استعارية جديدة في الكتابة، ويعاين المتكلم بهجة الوجود الآخر في أزمنة، وزوايا نظر مختلفة تتنازعه، وتؤكد ولوجه تلك الصيرورة الكونية، والثقافية للعلامة، دون نهايات حاسمة.
“مَرأةٌ مِن نُحَاس.
حَجَرٌ مِن سَمَاءٍ يَحُطُّ عَلَى نَافِذَتِي،
وَيُومِئ.
وَأنَا أُوغِلُ فِي غُرُوبٍ بَازِغٍ،
أو
أقتَفِي ظِلِّي عَلَى مِيَاهِ النُّعَاس.
صَهِيلٌ، وَمَرأةٌ مِن مَطَر.
تَهمِي طُيُورًا تَعُضُّنِي،
أو تَشرَبُنِي،
ثُمَّ تَعدُو عَلَى حُقُولِ الفُول:
مَــرأةً مِن حَجَر.
مَحلُولَةً تَجِيءُ أو تَمضِي،
فَيُومِئُ لِي حَجَرٌ مِن سَمَاء،
فَأمنَحَهَا رَصَاصَةً وَأشجَارًا هِيرُوغلِيفِيَّة.
تَأكُلُ الرًّصَاصَةَ هَنِيئًا، مَرِيئَا.
وَتُطلِقُ الأشجَارَ فِي صَدرِي،
وَتَجرِي“[4].
ثمة حضور طبيعي كوني للصوت المتكلم، ومعاينته للشفافية الكونية وتجلياتها في إيماءة الطائر الحلمي الحجري على النافذة، وأحلام المرأة النحاسية التي ارتبطت بالوحدة في الذاكرة الجمعية، وامراة الخصوبة، وامرأة الحجر التي تبدو كميدوزا أسطورية لعبية محولة عن الأصل، مثلما يمارس الصوت تحولاته، وتناقضاته بين صور الحجر، والسماء، والخصوبة، وأطياف الأمومة ممثلة في نقش حتحور المتضمن في الأشجار الهيروغليفية؛ وقد ارتبطت بشجرة الجميز، وحماية الموتى، ولكنها هنا تتسع، وتتفاعل مع الحضور الافتراضي المتجاوز لمركزيات الموت، والحياة في بنية المتكلم المتحولة في التصوير، والنقوش، والأساطير، وحكاياتها المتجددة في سياق الاختلاف.
إننا أمام حالات كونية تمثيلية مجزأة لضمير المتكلم، تتجلى في معانقة الأشجار التي تبدو كشلال مجازي نفاذ، وداخلي، أو معانقة انصباب الطيور كمطر خصيب، أو كوهج احتفالي بصخب العالم، وصمته الذي تجلى في الحجر في آن.
ثانيًا: الإيماءات الاستعارية والثقافية في النص:
يقوم نص سلام على تشابك الإيماءات الاستعارية التي تتخللها انقطاعات، أو فراغات، ولكنها تتصل بصورة لا مركزية في نوع من التلقي المضاعف؛ فالصوت الشعري يتلقى جماليات العالم وفق تأثيرها الجمالي، وعلاقاتها التأويلية المحتملة، والمتجاوزة للأنساق المعرفية المسبقة؛ وهو ينسج وجوده الخاص من خلال تناثر تلك الإيماءات في مرح الكتابة، وتداعياتها التي تبدأ من لحظة تجاوز الموت في عتبة الاستهلال التي توحي بالقتل؛ فالصوت يسخر من القتل، والبنية الصلبة المحدودة للوجود، بينما يغيب في إيماءات الصور الحلمية، وتأويلاتها في عالمه الداخلي من جهة، وفي عالم القارئ الداخلي من جهة أخرى.
وبصدد اختلاف توجهات، وتقنيات نصوص (ما بعد الحداثة) عن مثيلاتها في (الحداثة)، يرى إيهاب حسن أن (ما بعد الحداثة) تتميز باللعب، والغياب، والانقطاع، والمجاز، والسخرية، وانعدام التحديد، والأثر، والاختلاف، في مقابل التصميم، والحضور، والاتصال، والاستعارة، وفلسفة المعرفة والوجود، والتحديد، والأصل في (الحداثة)[5].
و نلاحظ أن نص سلام يقوم على الانقطاعات التي تفكك البنى المنطقية، وتسمح بإنتاجية تأويلية محتملة للإيماءات الاستعارية المتنوعة، والتي تعيد تشكيل المتكلم في مسافة إبداعية مؤجلة بين اكتمال الوجود، وإيحاءات الغياب؛ إنه يعيد اكتشاف علامات العالم وفق ما تحدثه من أثر تأويلي متجدد في التلقي؛ وكأن الذات، والعلامات، والتكوينات، والصور تقاوم الغياب، بما تحمله من وجود طيفي استعاري ممتد، ومتحول في التلقي الذي يشبه تلقي أصوات الموسيقى، وكذلك يوحي بالتداخل ما بعد الحداثي بين الفن، والسياق الواقعي الذي يختلط في بنيته بالتشبيهات، كما هو عند بودريار.
ثمة تكوينات حلمية، وصور سوريالية، وتشبيهات قد صيغت بطريقة تسجيلية في الوعي المدرك، ولكنها تحمل أثرًا يتجاوز بنيتها الأولى؛ مثلما تجاوز الصوت ذاكرته، وموته المؤجل في بداية الديوان.
“قَتَلُونِـي،
فَانفَرَطت:
قِطَارَاتٌ تَعوِي قَبَائِلُ مُدَجَّجَة جَرَّةٌ مَقلُوبَة صَمتٌ يَهوِي عَلَى حَجَر خِنجَرٌ مُعَلَّقٌ فِي سَمَاءِ الذَّاكِرَة لَيلٌ قَرَوِي (… ) طَائِرٌ يَلُوحُ فِي نَافِذَةٍ غَامِضَة قَاعِدٌ عَلَى حَافَّةِ وَقتٍ مِن رَمَاد مَرأةٌ تَمضِي إلَى قَبرٍ وَمَرأةٌ تَجِيء يَارَا غَابَةٌ مِنَ الضَّحِك طُبُولٌ تَقرَعُهَا الرِّيحُ فِي زَمَنٍ قَدِيم (… ) رَأسِي عَلَى طَبَقٍ مِن الفِضَّة (… ) شِعَارَاتٌ مُجَفَّفَةٌ فِي السُّوق ذَاكِرَةٌ أهَبُهَا لِلكِلاَبِ السَّعرَانَة..
وَانفَرَطت:
لاَ ألتَمُّ وَلاَ أتَبَدَّد.
أعضَائِيَ أغصَانٌ تَسكُنُهَا العَصَافِيرُ وَيَأوِي إلَيهَا البُومُ وَالصَّرخَاتُ وَلاَ مَن يَهُشُّهَا. وقَلبِي بَرزَخٌ يَنشَقُّ لِي فِي مُنتَصَفِ الوَيلِ فَأهوِي وَلاَ وُصُول“[6].
يتلقى الشاعر العالم وفق حضوره الاستعاري الآخر، وأثره الداخلي الذي يشبه النغمة الموسيقية؛ فهو أثر محول دائمًا؛ فنعاين صخب صوت القطارات، والسكين القابع في الذاكرة، وهدوء الليل القروي؛ وكأنه بانتظار مصير غامض مؤجل، وتشير الأنثى إلى خصوبة مؤجلة في الموت، وتختلط إيماءاتها الاستعارية بوفرة عالم يارا، ومرحها الكوني، وتقترن الطبول بحرب هوائية مجازية مُستنبتَة من حكمة الماضي، ونهاياته، كما تأتي رقصة سالومي خفية في جماليات الصوت، وتمثيلاته التراثية، كما يتوتر الصوت بين صعوده، وغيابه في جماليات الاختفاء؛ فالوعي يعايش وجوده النسبي الآخر في تحولات العلامة، وإيماءاتها الاستعارية، وينفصل عن مرجعيات الذاكرة باتجاه اللعب.
إن الرؤى الحلمية التي تجلت في الطائر، والنافذة الغامضة، وصور الذاكرة المذبوحة، تقع في مفارقة مع ميكانيكية علامة السوق، وسياقها الواقعي الذي يكتسب حضورًا صاخبًا استعاريًّا جديدًا، يقاوم مدلولها بدوال الحضور الطيفي، وتداعيات الصور المتلاحقة بين الحضور، والغياب.
ويكتسب الصوت الحضور الاستعاري لشجرة تسكنها العصافير، ويأتي إليها البوم؛ وكأنه يشير إلى المجال الطيفي الذي يقع في مسافة بين الفاعلية والحياة من جهة، والحضور المؤقت، واستبدالاته الممكنة من جهة أخرى.
الصوت مؤجلٌ في لعب العلامات، وفي صيرورة التأويلات المولدة لتمثيلاتها المتناقضة التي تجمع بين بهجة الشجرة، وصمت البرزخ، واتساع الهاوية، دون نهايات، أو اكتمال للوجود. ويتناص الديوان مع صورة البرابرة كما وردت في قصيدة “في انتظار البرابرة” لـ قسطنطين كفافي، ويمنح سلام صورة البرابرة تناقضا جماليًّا جديدًا، ويكمل نص كفافي بإقامة حوارية تشبيهية واقعية تفجر بنية العمل الفني السابق باتجاه الصيرورة الإبداعية لحياة المتكلم في النص.
إن الإضافات المكملة لصورة البرابرة تستعيد الصور الحضارية، والثقافية، والنصية المتباينة، والتأويلات المختلفة، والمتصارعة أحيانًا لحضورهم الغامض، ودورهم في تشكل الحضارات، وانهزامها.
يرى أرنولد توينبي في كتابه تاريخ الحضارة الهيلينية أن البربري هو رجل بدائي، كان من سوء حظه أنه سيق إلى معركة مع آخرٍ ما، يمثل إحدى الحضارات الآفلة، وقد حطمت فجأة عاداته، وتقاليده، وأطلقته من العقال قبل أن ينضج، ويستعد للحرية، وضبط النفس؛ ويرى أن تلك الطبيعة البشرية البربرية قد انعكست في قصائد هومر[7].
يرتكز توينبي – إذن – على التباين بين صور البربري، وتطور الحضارة فيما بعد تبجيل هذه الصور الإنسانية، وتأثيرها الثقافي على الوعي، وعلى تشكل الحضارة الهيلينية، وتطورها؛وكأن هذه الصور تبزغ من الماضي السحيق، وتستقر في الذاكرة الجمعية، وتنتقل من موقع المهيمن إلى الهامشي، أو العكس، تبعًا لاختلاف اللحظات الحضارية المنتجة لصورة البربري، وأنماطه الثقافية، والفنية.
وقد يستدعي سلام هذه الصورة؛ ليوجه نقدًا حضاريًّا، وإبداعيًّا لصورة البربري الغامضة التي تُطل في اللحظة الحضارية، وتتصل بصورها المتناقضة السابقة عند هومر، وكفافي، وكوتزي، وتمارس حالة جديدة من اللعب، والإكمال؛ إذ ترتبط – في النص – بدائرية المذابح المتخيلة، وكثافتها التاريخية، والحضارية، والسخرية الخفية من مركزية قوة البرابرة، وارتباطها بعالم الحلم، وولوج الفن للسياق الواقعي؛ وهو ملمح ما بعد حداثي، يتعلق بتجاوز العمل الفني لفكرة الإطار.
وقد مزج كوتزي – في روايته في انتظار البرابرة – بين نشوة الجسد، وارتباطها الحلمي بأخيلة البرابرة الممثلة في تضخم الفتاة البربرية في وعي ولاوعي البطل، ثم تناول حالة التداخل الإبداعي بين الميكانيكية العبثية التي لازمته في السجن، والإحساس بوفرة العالم. وقد منح كوتزي مدلول البرابرة مجموعة من الدلالات، والإحالات التي تتجاوز خطاب المركزيات الحضارية، وإن امتدت قوتهم اللامعقولة القديمة من اللاوعي إلى مستوى الحضور النسبي للبطل في النص.
لقد جاءت الفتاة البربرية التي أحبها في حلم من الأحلام في هيئتين كبيرتين، كبرتا حتى ملأتا المكان الذي نام فيه؛ فصحا مختنقًا، وقد تحولت ميكانيكية العبث في السجن إلى حركات أدائية مضادة مارسها البطل؛ مثل حركات الفزع الدوارة، ونتف اللحية، والضرب العبثي للأرض بقدمه؛ وذلك لتذكير نفسه بوفرة العالم، وتنوعه[8].
تنقل صورة البربري نفسها في بدائل نشوة الجسد، وعذابه، وآليته العبثية، والمضادة للعبث كذلك عند كوتزي؛ وهو ما يؤكد ثراء الصورة الحضارية، والتاريخية، والفنية المستدعاة من أخيلة البرابرة، وتصارعها، أو تفككها الذاتي، وتناقضها الإبداعي في النصوص.
إنها صورة تهدد الحضارة، وتتضمن نقدًا إبداعيًّا لها في آن. وسنرى أن سلام يقيم ارتباطات تأويلية جمالية جديدة حولها في هكذا قلت للهاوية؛ إذ ترتبط عنده بنفاذ الصوت، ومرونته الدائرية، واحتفائه أحيانًا بالغياب، كشكل من المقاومة لبنية القوة التي لازمت البربري القديم.
“أُهَيِّئُ نَفسِي لِلمَجزَرَةِ القَادِمَة.
(لَم أخسَر – فِي آخِرِ مَجزَرَة –
غَيرَ جُثَّتِي، وَخَيبَتِي المُتَكَرِّرَة)
أنَــا الوَلِيمَــةُ الدَّائِمَــة
أُرَمِّمُ قِلاَعِي وَحُصُونِي الوَهمِيَّة.
أشُدُّ مِن أَزرِ أطلاَلِي بِالخُطَبِ الحَمَاسِيَّة
(أعرِفُ أنَّهَا بِالِيَةٌ، مَلِيئَةٌ بِالثُّقُوب)،
…………………………..
حُقُولٌ مِن جَمَاجِمِ المَجزَرَةِ المَاضِيَة.
(هَل هِيَ لِي؟
فَأينَ جُمجُمَتِي ؟ )
أُهَدهِدُهَا فَلاَ تَغفُو.
أُوَبِّخُهَا: صَبَاحُنَا القَادِمُ مَجزَرَةٌ قَادِمَة.
………………………
أحلُمُ بِالبَرَابِرَةِ القَادِمِين.
(لَم يَجِيئُوا فِي قَصِيدَةِ “كَفَافِي”.
لَكِنَّهُم وَعَدُونِي بِالمَجِيءِ، عِندَ اكتِمَالِ القَصِيدَة)
أُهَيِّئُ نَفسِي لَهُم وَلِيمَةً ألِيمَة. “[9]
الصوت يسخر من مدلول المجزرة؛ فهو تصويري طيفي، ودائري متكرر معًا، مثلما يفكك الشعور بالحماسة، ومركزية الحضور المضاد للآخر / الآخرين؛ إنه يسخر من منطق البربري، وتاريخه الذي تختلط فيه الصلابة الجسدية بالعدم، ومرح الصور، وتحولاتها في الفن؛ فلا نجد انفصالًا بنائيًّا بين الضحية، والجلاد.
الصوت يعاين نهاياته، ونهايات البربري في معاينته للجمجمة، وأخيلتها الصاخبة التي ترتبط بحضور آخر للبرابرة؛ وكأنه يستدعي كثافة حضورهم من أنساق التاريخ، وإيحاءاته السردية في التلقي، ومن قصيدة كفافي، ومن أبنية السياق الحضاري، والواقعي المحتملة؛ ومن ثم تتداخل الأنساق في نزعة إبداعية ما بعد حداثية، يذوب فيها الصوت في تشبيهاته، والواقع في نماذجه الفنية، والأدبية المحتملة.
يقول قسطنطين كفافي في قصيدة “في انتظار البرابرة“:
“لِمَ يسكن مجلس الشيوخ؟
لِمَ توقف الأعضاء عن التشريع؟
لأن البرابرة قادمون اليوم.
ما جدوى التشريع الآن؟
سيفرض البرابرة قانونهم الخاص حين يأتون.
لِمَ تغيب خطباؤنا المتميزون
ولم يُعدُّوا خطاباتهم، أو يقولوا ما ينبغي قوله؟
لأن البرابرة قادمون اليوم.
وهم يملون البلاغة، والخطب الحماسية”[10].
ارتكز نص كفافي على حضور البرابرة بين الذاكرة الجمعية، والنص، بينما تأجل حضورهم في زمن القصيدة، وتبدو صورتهم الفتية المناهضة للحضارة، والمنطق، والقانون، والبلاغة؛ وكأنهم يسهمون في حالات التدافع التاريخية، ويطرحون الأسئلة الغامضة حول الوجود، والحضارة، ومدى ارتقاء الإنسان، وتحقيقه لاختياراته، وهويته الفردية، والثقافية.
إن تأجيل البرابرة يرتبط بحضورهم الخيالي الصاخب في الوعي، واللاوعي؛ وكأنهم في حالة تهيؤ لظهور متكرر يختلط بالغياب في أطياف الذاكرة، وفي عمق الحياة المدنية، وميكانيكيتها الإنسانية، وفي ضجر الصوت، ومخاوفه القديمة معًا.
ويتحول تأجيل البرابرة – عند سلام – إلى حضور تصويري، تمتزج فيه إيحاءات الفن بزمن الكتابة، وصيرورتها، ونشوة الغياب في الوعي المبدع، واختلاط الأبدية فيه بصخب الجسد المضاد لتكوينه، وتكوين البربري في آن؛ إذ يتلاشى كل منهما في لعبة النص، ودائرية الصور فيه بين الحضور، والغياب، والاختفاء الجمالي.
وتبدو تلك المسارات التأويلية للنص في جملة “أنا الوليمة الدائمة” التي وضعها الشاعر في المنتصف، وكُتبت بخط كبير؛ ليشير إلى لذة الهامش الحضاري المتكررة، والتي ارتبطت بنزعات الخلود، والأبدية، بينما تتلاشى من العالم الصاخب؛ وقد تشير إلى فاعلية الاختفاء التي تفكك بنية الغياب دائمًا؛ فالصورة تتكرر مثل صوت الشاعر، وتستعصي على مركزية الوجود، والمحو؛ ومن ثم البزوغ المفاجئ للبرابرة في الوعي، واللاوعي؛ فصورتهم المجازية تنقطع أيضًا، وقد تؤدي إلى حضور استعاري مضاعف للصوت في النص.
ثالثًا: المحاكاة الساخرة للحضور، والغياب:
تجسد صورة الهاوية – عند سلام – المحاكاة الساخرة لكل من الحضور، والغياب؛ فالصوت يعاين فيها غيابه البهيج المؤجل، أو حضوره المتناقض بين الإحساس بالاتساع الكوني من جهة، والهامشية والتمرد من جهة أخرى.
تمارس إنتاجية النصإذننوعًامنالمحاكاةالساخرةباتجاهالرؤى الفلسفية الإنسانية للوجود؛ فالهاوية تشبه الكتابة، وتحولاتها الجمالية، واستبدالاتها التي تؤجل مركزية المدلول؛ وهي تكشف عن ثراء الصوت، وتمجيده للهامشية، والتمرد، ومعاينته للذة الخسارة التي تشبه ولادة مجازية أخرى للكينونة، بينما تختلط الظلمة الملازمة للهاوية بالبهجة، واتساع العالم الداخلي.
“وَقُلتُ: تَضِيقِينَ عَنِّي،
فَلاَ أنزَلِقُ فِيكِ، أَو أَهوِي.
وَقُلتُ: كَيفَ أنفُذُ – أنَا الشَّاسِعُ الشَّاهِقُ –
فِي ثُقبِ إبرَةٍ يَتِيم.
وَقُلت: أنَا أضْيَـقُ مِن نَفسِــي.
فَكَيفَ أتَّسِعُلِي؟
أنتِ هُوَّة.
أنَا طَلقَةٌ عَابِرَة.
عَكسَ كُلِّ رِيح.
نَحوَ الغِوَايَةِ الخَاسِرَة.
قُلتُ: كُلُّ الخَسَارَاتِ مَنذُورَةٌ لِي،
وَكُلُّ التَّهلُكَاتِ المُضِيئَة.
قُلتُ: فَليَرتَفِع غِنَائِي – إِذَن –
نَشِـيجًا بَهِيجَا.
حَجَرٌ، وَهَاوِيَة.
وَسَمَاءٌ مِن حَدِيد. “[11]
الهاوية دائرة استعارية أنثوية في الوعي المبدع، وتجسد بهجة الولادة، واكتشاف لذة التجاوز المتكرر لحدود الذات، والانحياز لتناقضات الوجود الهامشي، بما فيها من مرح يختلط ببكاء صامت، وتلاشٍ مضيء، وصلابة للجسد مع نفاذٍ شفافٍ للصوت في حالات التعاطف الكوني.
ثمة أغنية، أو أنشودة للصوت في النص؛ وكأنها تحفر أثرًا في تداعيات الكتابة التي تشبه الهاوية؛ إنها أنشودة للتجاوز الذي يستنزف مركزيات الحضور، والغياب عبر مدلول (الهاوية) التي تسخر من بنية السقوط بالكشف عن هوامشها المضيئة، ومن الذات المتعالية بإبراز هوامش التمرد، والحضور العابر، ومعانقة الأثر الذي يحمل بداخله أصالة الصوت، وبهجته الصامتة المختلطة بالبكاء، قبل أن يتشكل تاريخه، وعالمه الشخصي.
رابعًا: بكارة الاستبدال في النص:
تحمل الذات المتكلمة عند سلام- في داخلها – أصواتًا من الماضي الحضاري، وآثارًا فنية، وتصويرية، وإيماءات استعارية متناقضة، أو أطيافًا يولدها النص من آثار أدبية؛ ومن ثم يتضاعف الصوت في الكتابة، ويتجاوز سيرته، وتاريخه باتجاه انفتاح الهوية الجمالية، واختلاط الأصالة فيها بالأثر الجمالي في تداعيات النص، واستبدالاته غير المعروفة سلفًا.
وقد يبدو العالم الداخلي كفضاء استعاري لأصوات الماضي، وصخبه، ولتناقض الصور الدالة على الصوت؛ فالاستبدال هنا داخلي؛ لأنه يرتكز على فضاء الذات، وثراء الصور، والدوال في الوعي المبدع.
“أَصوَاتٌ تَصرُخُ فِيَّمُبَعثَرٌ مَلمُوم(… )قَرقَعَةُ الظَّلاَمِ مُنتَصِبَةٌ لاَ تَنَام وَالأَعشَاشُ شَاغِرَة وَأَنَا أَفِيضُ بِالبَربَرِيَّةِ وَتَكتَنِزُ بِي رَجُلٌ آجِلٌ وَمَرأةٌ عَاجِلَة بَابٌ مَفتُوحٌ عَلَى هَاوِيَة هَكَذَا ذَاكِرَةٌ خِنجَرٌ أَو غَرِيق هَل مَرَّ الطُّوفَانُ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا؟ “[12].
الأصوات تكثيف جمالي لغضبٍ، أو تمردٍ قديم يمتزج بتناقض البعثرة، والأصالة داخل المتكلم، وهو يفيض ببربرية ممزوجة بإحساس إبداعي بالهامشية الممثلة في دال الهاوية، وتنكسر الذاكرة الثابتة، بينما تعاين طوفان الصور، أو الطوفان في الذاكرة الجمعية، وإيحاءات بكارة حضور العالم التي تستدعي بكارة تشكل الذات في الكتابة، وما فيها من استبدال داخلي.
وقد تتلاحق الصور، والمشاهد الفنية في استبدال تصويري حلمي، يوحي برحابة الفضاءات الداخلية، والكونية، وما فيها من سلام داخلي، وانسجام بين العناصر، وتداعياتها التي تؤكد الاختلاف، والتضاعف معًا.
“وَالشَّوَارِعُ شِرَاكٌ أَو شِبَاك (مَنِ الفَرِيسَة؟ ) وَأنت بَينَ بَين أَشيَاءٌ تُحَلِّقُ لاَ تَمرُقُ وَشِيَاهٌ تَغُوصُ فِي المِيَاه غَيمَةٌ يُمسِكُهَا خَيط وَنَافِذَةٌ صَبَاحِيَّةٌ تُخَاصِمُ الطُّيُورَ وَتُرَاوِدُ الحَنِين فَتَاةٌ تَنحَنِي عَلَى نَهرٍ فِي القَرنِ التَّاسِعِ عَشر أَرضٌ مَرِيضَة وَالوَصَايَا غَابَةُ زَقُّوم فَمَن يَطرُقُ اللَّيل مَن يَدُقُّ المَسَامِيرَ فِي المَرَايَا المَجَازِيَّة“[13].
تبدو الشوارع كشِباك بينما ينتج النص فريسةً مجهولةً من صورتها الحلمية؛ فهي تستبدل سلبية الشارع بإيجابية صاخبة غير واعية، وعدائية، وتقترن بانتحار خفي للشياه؛ وكأنها تبحث عن سكون الفتاة، وجماليات التضاعف اللانهائي في مرايا الحلم.
إن الصور تؤول عبر بدائلها في الوعي، ويبدو صخبها مؤجلًا في تفاعلها الجمالي، وانقطاعها عن أصالة الحدث الذي تشير إليه؛ إذ يبدو تمثيليًّا بدرجة كبيرة.
وقد يوحي النص باستبدال تاريخي حضاري، أو أدبي؛ فيمزج كثافة حدث تاريخي بآخر أدبي في النص.
“جَلاَّدٌ يَنتَحِلُ سَمتَ شَاعِرٍ وَلَه تَابِعٌ مِنَ الخِصيَان وَيَا أَيُّهَا النِّسيَانُ نَسَيتَنِي قَبرٌ أَم بَرق قَرَاصِنَتِي أَحِبَّائِي لَهُم وَردَتِي مَن يَطلُبنِي لِلمُبَارَزَة؟ “[14].
يختلط الجلاد بصورة السلطان الحضارية القديمة؛ وكأنه جوهر له، أو بديل حلمي في الكتابة، بينما يشير النص إلى الأثر الأدبي للمبارزة، وتتجلى هنا دراما هملت، ومبارزته الأخيرة، وانتصاره الوهمي الذي يشبه انتصارات الصوت الهامشية في النص.
خامسًا: إيحاءات السرد الشعري:
لا تنفصل أخيلة النص الشعري – عند سلام – عن وجود متواليات، ووظائف سردية، تقع في صيرورة الكتابة، وتداعياتها التي تجعل من المتكلم/ الراوي جزءًا من تحولات السرد الإبداعية المتعلقة بتأويلات حضوره الذاتي، وصوره الأخرى المحتملة، والمشكلة لهويته الجمالية المتجددة.
وقد تختلط شاعرية النص بكثافة سردية تاريخية، وحضارية؛ فأصوات المهمشين، والبرابرة، والمحاربين، تأتي في بنية سردية متضمنة في كثافة النص الشعري؛ وقد يستبدلها المتكلم في حدث أدبي يمثل أكثر من قصة، أو صوت؛ وكأن الرؤى الاستعارية القصصية تعيد تمثيل الماضي الحضاري البشري شعريًّا.
وبصدد العلاقة بين السرد، والتأريخ، والتلقي، يرى بول ريكور أن تحليلات تواشج التاريخ بالسرد، تنتمي إلى نظرية موسعة عن التلقي، يعيد فيها فعل القراءة اللحظة الظاهراتية؛ ومن ثم يتم في إطارها الانقلاب من التنابذ إلى التقارب بين السرد التاريخي، والسرد القصصي[15].
هكذا تقدم لنا نصوص سلام قراءات أدبية كثيفة لنماذج وشخصيات، وإيحاءات من التاريخ، والأدب في صور نصية تقبل إعادة التفسير، والتلقي بصور متداخلة، كما يشير ريكور.
“ذَاكِرَةٌ مُتخَمَةٌ بِالصَّرخَاتِ المُنتَهَكَة قَالَت لَكَ المَكَانُ وَالزَّمَانُ لِي غِيَابٌ يُشبِهُ القَهوَةَ نَلتَقِي أَو لاَ وَكُنتُ جَالِسًا عَلَى غَدِيرٍ أَرقُبُ الشَّبَكَة
فَهَدَمتُ المَملَكَة.
وَرَفَعتُ عَلَى أَطلاَلِهَا
رَايَتِي المُستَهلَكَة.
خِرقَةٌ بَالِيَةٌ،
وَنَشِيدٌ بَلِيدٌ،
وَشَمسٌ مُرتَبِكَة.
وَاغتَصَـبتُ المَلِكَــة“[16].
يمزج النص بين استدعاء إيحاءات الصوت المهمش الكثيف من التاريخ، ويقترن في الكتابة بحضور الذات المتناقض بين الحضور، والغياب، ثم اختلاط إيحاءات الانتصارات القديمة، بالسخرية من النصر نفسه، وتقديمه في صورة حلمية في فضاء واسع لا يوحي بسياق المملكة الأصلي، بينما يستدعيها في تداعيات الوظائف السردية في النص الشعري.
وتبدو الوظائف السردية متضمنة في صور ذاتية مولدة من أخيلة المياه في الوعي المبدع.
“أَصطَحِبُ البَحرَ فِي رِحلَةٍ بَحرِيَّةٍ أُغرِقُهُ وَأَرقُصُ فَوقَ جُثَّتِه الطَّافِيَة لِلزُّرقَةِ مِنقَارٌ وَأَجنِحَةٌ نُحَاسٌ وَصَرخَةٌ وَالِغَة مَن ذَا الَّذِي يَطرُقُ الصَّمتَ فِي انتِصَافِه“[17].
ثمة حياة إبداعية أخرى تحققها المتوالية السردية لصورة البحر الذي تضاعف باتجاه التلاشي في ذاته، أو غاب بصورة مرحة ساخرة؛ ومن ثم يرتبط خيال الماء في الوعي المبدع بسكون يتولد منه التحول الصاخب، والبهيج للصور الجمالية.
…………………………..
[1]رفعت سلام، ديوان رفعت سلام، الجزء الأول، هكذا قلت للهاوية، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2013)، ص 289.
[2]راجع، جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة: كاظم جهاد، تقديم: محمد علال سيناصر، (الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط2، سنة 2000)، ص ص 104، 107.
[3]رفعت سلام، مصدر سابق، ص ص 296، 297.
[4]رفعت سلام، السابق، ص ص 304، 305.
[5]Read, Ihab Hassan and others, A Postmodern Reader, Edited by Joseph Natoli and Linda Hutcheon, State University of New York, 1993 p. 280، 281
[6]رفعت سلام، السابق، ص ص 289، 290.
[7]راجع، أرنولد توينبي، تاريخ الحضارة الهيلينية، ترجمة: رمزي جرجس، مراجعة: د. صقر خفاجة، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2003)، ص ص 34، 35.
[8]راجع، ج. م. كوتزي، في انتظار البرابرة، ترجمة: ابتسام عبد الله (بيروت والدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط2، سنة 2004) ص ص ص 122، 125، 126.
[9]رفعت سلام، السابق، ص ص 306، 307.
[10]C. P. Cavafy , Selected Poems, Penguin Group, London, 2005 p. 10.
[11]رفعت سلام، السابق، ص ص 302، 303.
[12]السابق، ص 346.
[13]السابق، ص 347.
[14]السابق، الصفحة نفسها.
[15]راجع، بول ريكور، الزمان والسرد، الجزء الثالث، الزمان المروي، ترجمة: سعيد الغانمي، راجعه: د. جورج زيناتي، (بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، سنة 2006)، ص 272.
[16]رفعت سلام، السابق، ص 385.
[17]السابق، ص 383.