صوت الغراب…. لا يمكن لوعى نشأ أن يتوارى!

صوت الغراب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قبل نيله جائزة محفوظ عن روايته: حكايات يوسف تادرس، بعدة شهور كنت قد بدأت في قراءة الرواية، وانتهيت منها في مدة قياسية وقلت وقتها إني لم أقرأ عملا مصريًا بهذه الجودة منذ وقت طويل. فرحت جدًا بحصوله على الجائزة فقد كان في ظني من الأعمال القليلة التي تستحق جائزة فعلا ، وعندما صدرت روايته الجديدة: “صوت الغراب” التهمتها في يوم واحد، وعندما انتهيت منها فكرت لمدة في سبب إعجابي الشديد بكتابة عادل عصمت إلى الدرجة التي تجعلني أصرح لبعض الأصدقاء إني أعتبر  هاتين الروايتين من أفضل الروايات التي قرأتها بالعربية في الأعوام الأخيرة. توصلت إلى بعض الأسباب في محاولة للإحاطة بسحر عالم عادل عصمت.

في الأعوام الأخيرة بدأت موجة من الكتابات تنتشر بشكل كبير في سوقنا الأدبي الصغير جدًا، وهي كتابات تعتمد على التغريب والتقنيات المعقدة والمركبة بشكل ملفت للنظر، حتى أنه رغم جودة اللغة الشديدة في كثير منها، قد يظن القاريء أنه يقرأ عملا مترجمًا، وهي دائمًا ما تحمل مضامينًا ليست بعميقة على أية حال، إلا إن الكاتب يستخدم في كتابتها أعقد وأصعب الطرق. ربما بدأت هذه الموجة منذ أعوام طويلة، واندثرت في أعوام أخرى وعاودت الظهور مجددًا هذه الأيام. يسيطر العامل الذاتي على العمل بشكل مطلق، حتى أن القاريء قد لا يشعر بأي شيء مشترك يجمعه مع أبطال هذا العمل الفني، وصار التجريب هدفًا في حد ذاته.

يجمع عادل عصمت في كتابته بين عمق المضمون الشديد، واستخدام أكثر التقنيات صعوبة وبساطة في الوقت ذاته بشكل يناسب هذه المضامين، وهذا ما سأحاول لفت الانتباه إليه.

في روايته صوت الغراب يواصل عادل عصمت الكتابة عن عالم المدن الصغيرة، فهو لا يتحدث عن الريف، ولا عن عالم القاهرة الفسيح، بل يتحرك بقلم دقيق ورصد عميق لتناول العالم الاجتماعي الذي يدور في المدن الصغيرة، وكيف يقضي أبطالها أوقاتهم.

تتناول صوت الغراب مشكلة الحرية وتحقيق الذات بشكل مكثف ومركز ، فنحن نبدأ مع البطل الذي يجمع في لغته ملامح الصحة والمرض في وقت واحد، ليبدأ سلسلة من التذكرات تتناول عالمه بشكل زمني منتظم إلى حد كبير منذ الطفولة وحتى اللحظة الراهنة، ثم يتخطى لحظى الحكي صوب النهاية التراجيدية التي يحقق فيها البطل ذاته بتدميرها تمامًا.

كيف يمكن أن يقص رجل قد تخطى الأربعين حكاياته منذ الطفولة وحتى اللحظة الراهنة؟ يستخدم عادل عصمت تكنيكًا مدهشًا في بساطته وعمقه وصعوبته. عندما يقص البطل عن أحداث الطفولة تتناول اللغة التصوير والتحليل من منطلق عالم الطفل بشكل كامل، ودون أي فواصل واضحة تنتقل اللغة للحكم على الحالة النفسية للطفل من منظور الرجل البالغ الذي تخطى الأربعين بسهولة فائقة.

كمثال: ” كدت أتملص من طلبها كالعادة وأواصل اللعب، لكنها أومأ لي بطريقة ذات مغزي. تركت الدبور وتوجهت إلى مدخل البيت. رأيت عم دسوقي يقف بهيأته النحيلة…. إلخ”

وبعدها بسطور قليلة جدًا:

لم أكن نابهًا، بل طفل شارد، كسول، يفضل اللعب على أداء واجبات المدرسة... إلخ” هذه التنقلات التي تحدث ببساطة منقطعة النظير تجعلنا نعايش حالة الطفل كاملا وأفكاره البديهية التي تصطدم بعادات مترسخة لا يجد لها معنى مثل الغسيل الأموات وحبس عمته وكثير من المواقف الأخرى، وفي الوقت ذاته يصحبنا الكاتب بكاميرا فوقية تجعلنا نرى الموقف من بعيد، فكأننا نرى الحياة من الداخل والخارج، وببراعته الشديدة في استخدام السرد بهذه الطريقة يحقق الكاتب درجة غير عادية من معايشة القاريء لحياة أبطاله.

بطل صوت الغراب، مثل بطل حكايات يوسف تادرس يبحث عن الحرية بمعناها الأصيل، ويسرد لنا تجاربه المختلفة ومراحل تشكل وعيه منذ الطفولة، وردود أفعاله المختلفة عبر مراحل عمرية مختلفة فيعايش القاريء حياة البطل بشكل مكثف وعميق.

تمتليء صوت الغراب بمشاهد ساحرة؛ تلك التي تصف لنا لحظات متفردة في حياة البطل. يرصد عادل عصمت تلك اللحظات التي تغير شيئًا عميقًا من عوالم أبطاله الداخلية، فيصف لنا مثلا في صوت الغراب في مشهد مذهل كيف قام البطل بالسرقة لأول مرة، ونشوة الفعل الغريبة، التي يصفها مرة أخرى في مشهد لا يقل روعة عن الأول، وهو مشهد قيادته للدراجة وشعوره ببريق الطيران الذي سيصاحب البطل في عالمه المتأزم والمخنوق والضيق في تلك المدينة الصغيرة، صوب نهايته المأسوية التي لا يحقق فيها ذاته سوى بالانتحار، وهذا التوصيف: “الانتحار” يمكن أن نصفه من منظور أهل البطل، أما بالنسبة للبطل فهو فعل التمرد والتحرير الذي يتماهى فيه البطل مع طائر لا يحمل له الوعي الشعبي المصري أي مودة أو تعاطف وهو “الغراب” ولكنه يطير على أية حال.

خسارة؛ تلاشت اللحظة بسرعة ظهورها. كل ما هو حقيقي لا يترك لنا غير لمحة منه. ربما لكوننا لا نقدر على تحمله، أو غير مؤهلين له. من يعاين تلك اللحظات تترسب في أعماقه حيرة لا تفارقه أبدًا، وتصبح لحياته حس الظل وفي أعماقه يحمل حسًا بأن الحياة ليست ما يعيشه، وأن ما يعيشه هو ستارة تغطي السر. يظل طوال رحلته يكذب نفسه ويظن أنه كان طفلا ساذجًا، ويعتبر ما تجلى له وهمًا أو مرضًا، لكن ذلك لا يغير من الأمر شيئًا. يظل حائرًا يسلك بطريقة تجعل من حوله يشعرون بان في روحه لمحة من فساد“.

تمتليء الرواية بالأسئلة الوجودية الحقيقية على غرار الروايات الروسية العظيمة: “الجريمة والعقاب- الحرب والسلام – آنا كارينين – الأخوة كرامازوف” وفي الوقت ذاته تصور لنا عالم شديد الحيوية رغم ضيق المجال المكاني الذي تجري فيه الأحداث.

عرفت لأول مرة أن اللحظات فقاعات تنتهي بمجرد انتفاخها. الإحباط من انطفاء النور في المطبخ كشف لي ما في النهايات من حدة، كأنها مقص غير مرئي يقطع اللحظات ويفصلها عن بعضها، لكن ذلك الاستغراق الذي تبدد كان عميقًا وخاليًا من الحدود والزمن، فيه توحدت بالنور في المطبخ وتلاشى كل شيء عاده. أدركت ما في لحظات الاستغراق من اتساع وشمول كأنها أبدية“.

على غرار كتبات محفوظ نجد صوت الغراب مليئة بالأحداث إلى درجة تجذب القاريء لالتهام الصفحات، وفي الوقت ذاته لا ينفصل الخطاب الفلسفي والأسئلة الوجودية عن متن النص للحظة واحدة، فالرواية لا تعبر عن عالم أفكار  لملء الصفحات، بل فلسفة متجسدة ومكثفة وحية في عوالم شديدة الصخب حتى في الحيز المكاني الضيق، وكما أن عالم عادل عصمت يرتبط بالإنسان مجردًا إلا إن المكان يفرض تأثيراته على الشخصية بشكل واضح، تكشف عنها فقرات بسيطة سريعة على غرار:

تلك الخلافات تكشف الحياة الصغيرة التي تدور حولها الصراعات كأنها حروب. كل حدث داخل الصراع يؤجج الحرب، ويوقظ العداوة، وإذا استمر النزاع ولم يُحل بسرعة فإن العداوة تتوغل“.

تكشف لنا بعض الفقرات أيضًا عن كيفية استقبال أهل البلاد الصغيرة لأحداث جسام، في وصف مذهل يعبر عن مدى ضيق هذه الحياة التي ينفر منها البطل، فيصور كيف يمكن لانتشار الفئران أن يقلق سيدة أكثر من أحداث اجتماعية وسياسية تجتاح البلاد بأكملها!

أكثر ما يؤرق عادل صمت كباحث عن الحرية عبر حيوات أبطاله وتطورهم النفسي والجسدي، هو النفاق، لذا تفرد الرواية مساحات كبيرة لتصوير التناقضات المختلفة التي يتعايش أبطال الرواية عبرها في انسجام كامل:

إنهم أخوة من رحم واحد، كل النصوص المدرسية والخلق العام والمواعظ الدينية، تدعي أنهم أكثر رحمة ببعض، لكن الأمر لا يكون على هذا النحو. الحياة عندهم صراع أعمى. يمكن أن يبدأ الأمر بالحديث ثم العرام ثم المحاكم

وعبر التصعيد المنتظم للأزمة النفسية التي يعاني منها البطل لا يفوت عادل عصمت تصوير تلك المشاهد التي تشي بانفجارات شديدة يمكن أن تحدث في ثانية واحدة، فيصور لنا انقضاض البطل على أخيه الأكبر عندما قام الأخير بضرب أخته المتمردة على العادات المنافقة التي تسيطر على منزلهم، وفي انقضاض البطل على أخيه كاد أن يقتله لولا تدخل الأخت في اللحظة الأخيرة. وتسير الحياة بشكل طبيعي.. هكذا يبدو الأمر من بعيد، لكن القاريء مثله مثل البطل يعلم أن الأزمة ستنفجر مرة أخرى، وعبر تشكلات البطل الجسدة والنفسية يواصل البطل تحوله إلى صورة الطائر المتمثل في ذهنه الذي يمكنه من الهرب لتحد أولى محاولات تحرره\ انتحاره حسب وجهة نظر الرائي للأحداث، والصراع بين الفرد والمجتمع وإن تناولته أعمال كثيرة جدًا إلا إنه في عالم عادل عصمت يتميز بحدة وكثافة لا مثيل لها.

كيف أريد أن أمحو هذا الطيف الذي دخل تلك الغرفة، أمحو آثار وجودي ومعرفتي. كيف يمكن لشخص أن يوقف هذا، لا يمكن لوعي نشأ أن يتوارى إلا بالموت أو بالتحقق

يقينًا لن ينتهي عالم عادل عصمت إلا بالتحقق!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر بجريدة القاهرة المصرية ــ مايو 2017

مقالات من نفس القسم