صنعة الحكاية.. عن كتاب «حكايات حارس الكتب»

حكايات حارس الكتب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكرم محمد

تربض كتابة حكايات كتاب “حكايات حارس الكتب”، للكاتب عماد العادلي، والصادر عن دار دون، في ما بين الفلسفة، والمشاعر، والكتابة الأدبية، المختلطة بالكتابة الساخرة؛ فثنائية الفلسفة/السخرية تمثل المعضلة الأكبر في هذه النصوص، المرتبطة ببعضها، والتي تشد بعضها كالبنيان؛ حيث يبدأ العمل بسرد ذاتي لحكاية عماد العادلي، التي أبرزت عناده، وأنتجت سؤالا فلسفيا عن تأثير النشأة في مفهوم القداسة، عن طريق حكايته مع  نوع من أمراض الحمى، التي أفضت به إلى مستشفى للحميات.. مستشفى ضعيفة الإمكانيات، ضعيفة القدرات، التي تخدم مرضاها.

ثم ينطلق الكاتب لنشأته الأولى مع الجنة، التي وهبت على الأرض، والتي انساب عقل الكاتب في مدنها، فقطن بها أبد العمر، وهي القراءة، التي بدأت بإهداء حبه الأول «سهام» كتابا ملونا، باللغة الإنجليزية له، ثم الإنطلاق مع قصص «أم شربات»، ثم الفوز بثروة مجلات “ميكي”، بعد جلبها من “مقلب مدبولي”.

“فلسفة الماضي “

«النوستاليجا» تمثل جزء مهم من سرد، وبناء العمل، ككل؛ فهي التي تبني اللغة، والنظرة الفلسفية، المباشرة أحيانا والتي تعتمد على التأويل، ورؤية المتلقي، أحيانا؛ حيث تقبع النظرة الفلسفية لعلاقة الماضي بالإنسان، سواء علاقته بالنشأة أو حتى بوجوده في الحاضر.

***

الفلسفة وحدة معرفية منفصلة، تخص الفكر، والتعرف على الأسئلة، ومنها المشاعر، التي تخلق ثنائية المحسوس/ الملموس، وهو ما يبني العمل، حيث المشاعر تبني الكتابة الأدبية، والحكايات.

“مثال يبني كتابا”

حكاية/فصل “الناسخ والمنسوخ” تمثل الهيكل الأساسي لكتاب “حكايات حارس الكتب”؛ حيث يقوم بنائه على المشاعر، والكتابة الأدبية، والنسوتاليجا، والقراءة، والكتابة الساخرة، والفلسفة، والسعي للمتعة، كهدف أولي للنصوص.

الفصل يسرد حكاية الكاتب مع أباه في نسخ كتاب «الرحمة في الطب والحكمة» لجلال الدين السيوطي؛ حيث أراد الأب أن يفهم الكتاب، فيحل المشكلات، التي يسببها الفقر، فأمر ابنه بمساعدته في نسخ الكتاب في أوراق من القطع الكبير، بعد أن مارس الأب هذا الفعل لأيام.

يكتب عماد العادلي عن تأثر نصيحة أباه في طريقة قراءته، وهي:

«لو ماتعبتش في الكتاب مش هاقراه.. لما أكتب الكلام مخي بيفكر فيه، وإيدي اللي بتكتب بتفكر، وعيني اللي بتشوف بتفكر، وكمان يقرأه بصوت عالي فبوقي بيفكر، ووداني بتفكر».

وهنا تأتي فكرة الكتابة عن القراءة، سواء للقارئ؛ حيث تكتب فصول كاملة يخاطب فيها السرد القارئ؛ ليخلق روح الخطاب، والنصح المباشر، أو، وهو الأغلب، عن حكايات عماد العادلي، التي تقدم أيضا للكاتب، لكن بمنظور الشخص الأول، الذي يبعد النصيحة عن المباشرة، ويحولها للهدف الأساسي من الكتاب، وهو المتعة.

***

الفصل، والكتاب، عامة، يسقط على فكرة إستحضار الماضي، وهنا تتمثل في التراث، ويرى ثنائية إستحضار الماضي/ الكتابة في الحاضر، وهي ثنائية تخلق الكتاب، وتخلق فيه إسقاطات فلسفية تربض داخل نصوصه، وأهمها علاقتنا في الحاضر بالتراث، ومفهوم القداسة؛ فالكتاب الذي أراد الأب تطبيق نظرياته هو ليس مفيد في حاضر الحكاية، ولكن هناك من يزال يعتقد به، ولا يريد تجديد نظره للطب..

وكذلك حكاية “كتاب الشيخ «عبد المرضي»”، الذي هو واحد من أكثر الحكايات التي تقطن بها المشاعر كأداة أساسية في السرد والبناء، وهي الحكاية التي تظهر محاربة التشدد الديني، حيث الشيخ المحبوب، لين القلب، الذي يفهم القرآن، ولا يجلد تلاميذه ليحفظوه، ويستمع لأم كلثوم، ويحلق في سماء رحابة الروحانية؛ ليعطي تلميذه عماد العادلي قلما يكتب به عنه..

***

وكذلك “حكاية «الفؤش ليفة» ومكتبه العامرة وأمه طيبة القلب”، التي يبزغ منها ما يمثل طابع الكتاب، الذي يربط في كل حكاياته بلا إسثناء إلا بعض المقاطع، وليس بعض الحكايات، وهو البناء القصصي؛ فبعيدا عن الإسم الذي لا يوحي بأجواء الكتابة الإبداعية، رغم أنها من الممكن أن تكون كذلك؛ بسبب لفظة “حكاية”، إلا أن الفصل يبنى على طريقة البناء القصصي، الظاهر كنور يقطع الليلاء.

البناء القصصي، الباني للمشاعر المكثفة، في جمل سردية مكثفة، تعكس علاقة الكاتب بالقراءة، التي هي مثال حي لجملة أورهان باموق ، المسروقة بنظرة الشخص الأول، الواردة في إفتتاحية روايته “الحياة الجديدة”، التي تمثل معان تبني نظرة فلسفية لنص “باموق”، وتمثل عتبة نص، لكنها أيضا تمثل علاقة القارئ بما يقرأ.

«قرأت كتاباً غير مجرى حياتي».

وبالإضافة إلى بنائه للمشاعر، فهو يبني علاقات إنسانية، تزيد من هيكل الكتابة الأدبية للنصوص.

«وهي ما زالت تحكي عن زوجها الذي كان يكبرها بخمس وعشرين سنة، وكيف أنها رضيت بالعيش مع رجل سبق له الزواج أكثر من مرة، وكيف أنه كان يسئ معاملتها ويهينها، ويضربها أمام الجيران، ولم تكتف بالكلام، ولكنها قامت وشمرت عن ساعديها، وبدأت تمثل الطريقة التي كان يضربها بها، وكأنها تعجن في مأجور فلاحي.»

وهو مقطع يعكس موقع البناء القصصي، والكتابة الأددبية من هذا الكتاب.

عدم تهذيب الذقن المصرية”

يرصد الكتاب تغيرات المجتمع في عدد من حكاياته، وأهمها “وكنت سلفي الهوى”، الذي يرصد تحول المجتمع المصري، دينيا، خاصة بعد فترة السبعينيات من القرن الماضي؛ حيث انتشرت السلفية، التي تؤكد على النظرة الفلسفية للعمل، ورؤيته لعلاقة الماضي بالإنسان، ولكن هنا بنظرة اجتماعية لمجتمع انتشر في رأسه الفكر المتشدد، السلفي، لأناس رفضوا كل شيء، واعتبروه حراما، ويجب أن يقطع من حياة الفرد نهائيا، وقلبوا الحياة لجحيم، ولغوا العقل والعلم والفن، وفتحوا الباب لذقون غاشمة، انتشرت بين الشباب وأبناء الأجيال الباذخة حديثا، وقتها وحتى الآن؛ بسبب الفقر، وفي الكثير من الأحيان الجهل.

«و((العلم)) هنا كان العلم الديني، لا.. العلم الديني على طريقة الإخوة الذين أقنعوني بأن كل ما خلا علمهم باطل لا يعول عليه، ولا يؤجر صاحبه يوم القيامة، بل يؤجر على العلم الديني ويثاب عليه، ويحاسب على تركه لصالح علوم الدنيا التي لا فائدة منها..»

“أ..أريد الحياة”

بعد تخرج الكاتب من كلية الحقوق، وهو ثاني مؤهل جامعي يظفر له الكاتب، بعد آداب قسم فلسفة، حاول العمل في بعض المجالات، منها العمل في مكتب محاماة، ولكنه لم يحتمل الوضع، حتى استقر كصحفي.

قرر الكاتب الولوج إلى الوسط الثقافي، وهو ما لم يتم، في البداية؛ بسبب الشكل التقليدي الندوات الثقافية وقتها، والتي حاول الكاتب التجديد فيها، والتغيير منها.

وأخيرا، ينجح الكاتب في الولوج بعد عرض جاءه من صاحب المكتبة حديثة المنشأ وقتها، مكتبات (أ)؛ ليكون المستشار الثقافي لها، بعد أن رأى صاحب المكتبة خبرته في المجال، عندما أعطى “العادلي” نصائح لأحد العمال في المكتبة، عن طريقة تنظيم الكتب.

وهنا، يثبت للكاتب ما لم يكن يتخيله، وهو أنه سينجح في المجال.

البورتريه بين البناء القصصي والبوح”

بعد الكتابة عن مرحلة الولوج لعالم مكتبات (أ)، والكتابة عن دور المستشار الثقافي الكبير في المشاريع الثقافية المهمة، والمؤثرة في تاريخ “تثقيف شعب مصر”، ومنها مشروع “تاكسي المعرفة”، الذي بدأ عام ٢٠١١، ورصد الكاتب أسباب هجر الكثير لهذه الجنة، يبدأ الكتاب في أخذ شكل “البورتريه”، وهو ما يظهر تغيرات الكتاب، وتأثير الأجناس الأدبية عليه، وهو تأثير بين، سواء في حياة الكاتب أو في نصوصه، النابعة من حياته.

هذه الفصول تقع بين سمات الكتاب الأساسية، وهي البوح الأدبي، والبناء القصصي.

فصول تكتب عن علاقة الكاتب بالأديب الراحل خيري شلبي، والأديب صنع الله إبراهيم، والراحل أحمد خالد توفيق، وأشرف العشماوي.

فصول تزيل برائحة المشاعر، مقدمة بموهبة الحكي، وهيكل البناء القصصي، وتكثيفه، دون التخلي عن سمة الكتابة الساخرة، أحيانا.

 

 

مقالات من نفس القسم