***
السفن البخارية
صعدت السفينة البخارية إلى الطابق الخامس وصاحت:
توت توت توت
لكن القمر لم يرد
صعدت السفينة البخارية إلى الطابق السادس وصاحت:
توت توت توت
لكن القمر لم يرد
صعدت السفينة البخارية إلى الطابق التاسع وصاحت
توت توت توت
لكن القمر لم يرد
السفن البخارية لا تبحر من طابق إلى طابق
السفن البخارية تبحر في البحار والمحيطات
تتنقل بين البحار وهي تصيح
توت توت توت
توت توت توت
توت توت توت
لكن القمر لا يرد
***
في رواية للكاتب اليوناني الكبير نيقوس كازنتزاكيس عنوانها “القديس فرانسيس” أو “فقير الله القديس فرانسيس الصقلي” يحكي كازنتزاكي هذه الحكاية:
في إحدى الليالي كان فرانسيس يطوف بأزقة صقلية، وكان القمر قد علا بدرا يتدلى وسط السماء، والأرض بأكملها كانت طافية في الهواء. نظر فرانسيس ولم يشاهد أحدا يقف عند مداخل البيوت ليستمتع بالأعجوبة هذه. اندفع نحو الكنيسة وصعد إلى برج الجرس وراح يطرقه وكأن كارثة قد حصلت، فاستيقظ الناس مذعورين وهم يظنون أنه لا بد من حريق هناك، فهرعوا أنصاف عراة إلى فناء سان روفينو حيث شاهدوا فرنسيس يطرق الجرس بهيجان.
وصاحوا به: “لماذا تطرق الجرس؟ ماذا حدث؟“
وأجابهم فرنسيس من قمة برج الجرس: “ارفعوا أنظاركم وانظروا إلى القمر“.
بعد ذلك، لا يحكي كزانتزاكيس شيئا. فقط ينتقل إلى شأن آخر من شئون فرنسيسه الصقلي، أو نادرة من نوادره على الطريق إلى القداسة. هل يمكن أن نتخيل نحن بقية القصة؟ كم في ظنكم من أهل صقلية رفعوا أعينهم فعلا إلى القمر؟ وكم منهم انحنى على الأرض يلتقط حصاة يرجم بها ذلك الذي أزعج نومهم؟ وبالنسبة لهؤلاء الذين استجابوا للدعوة العبثية، ونظروا إلى القمر، كم منهم أخذ ينقِّل عينيه بين القمر والقديس المعلق في الجرس في حيرة؟ كم من هؤلاء رأى في القمر ما رآه القديس؟ ثم، ما هذا الذي رآه القديس أصلا فأيقظ لرؤيته أهل المدينة؟
هل هناك علاقة أصلا بين نادرة القديس وقصيدة جاك روبو؟ الحقيقة، أن حضور القمر في كلا النصين هو الذي ربط بينهما في المقام الأول. ولكن ربما هناك علاقة أعمق. علاقة نجد صداها عند شاعرنا العربي القديم الذي أراد من زمنه أن يبلِّغه ما لا يستطيع الزمن أن يحققه لنفسه. ابتغاء المستحيل. انتظار رد من القمر. انتظار أن يتعلق الناس بالقمر، ويتأملوه، ويجدوا من تأملهم له معاني هي في أحسن الحالات تخصهم هم أكثر مما تخص القمر.
يكفي جاك روبو فضلا على القديس فرانسيس، أنه كتب قصيدته بدلا من أن يعيشها. جعلها طريقة إلى المتعة والتفكير، بدلا من أن يجعلها طريقة تخويف وإزعاج وإقلاق للراحة. ما يريد جاك روبو في ظننا أن يقوله في هذه القصيدة هو أن هذا العالم يحفل بما لا تدركه أبصارنا وحواسنا، وما لا تحيط به عقولنا. صحيح أننا نرى السفن تسير في طرق أفقية على سطح الماء، لا تتجاوزها إلا لتهبط في أسوأ الظروف إلى قاعه. ولكننا لا نعرف شيئا قط عن تصور السفينة لما تفعله. نحن نحسب أن نفيرها نذير لسفن أخرى أو قوارب أو عمال في مرفأ، ولكن، هذا النفير، كما تبين القصيدة، نداء من السفينة على القمر الذي لا يرد. ولكن، أليس غريبا هذا الحسم الذي نراه في نهاية القصيدة؟ هذا القطع بأن القمر لا يرد؟ فما أدرانا، وما أدرى الشاعر بأن المد والجزر ليسا إلا طريقة من طرق القمر في الرد على رسائل السفينة المشفرة تلك؟ ما أدرانا أنه لا صوت للقمر يبلغ آذان البعض، فيردون عليه بـ توت توت توت، أو يوقظون أهل مدينتهم كي يشاركونهم فيما يقوله القمر؟
***
وللشاعر الكوسوفي بسيم بوكشي قصيدة، ترجمها إلى العربية محمد الأرناؤوط، لعلها تصلح ختاما ملائما لهذه السطور:
أحب
أحب النقطة حين تثقب الحجر.
وأحب الثلج حين يخفف من حدة التوتر في الأرض.
أحب الشمس حين تدفئ الجلد
وأحب الصاعقة حين تخرج الشمس من الحزن.
أحب … لا أعرف ماذا أحب
ربما أحب القمر فقط
لأنه يرى كل شيء ولا يتكلم