صلاة الحرب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
مارك توين  ترجمة: يوسف نبيل لقد كان ذلك وقت الهياج العظيم.... كانت البلد تغلي والحرب في أوجها، ولهيب الوطنية يتقد في الصدور، والطبول تُدوِّي الموسيقى تعلو، وتقرقع النيران من الأسلحة وترن أصوات البنادق وتدمدم. ترفرف كمية هائلة من الأعلام في وجه الشمس في كل يد وبعيدًا حتى تختفي عن الأنظار وتتلاشى على الأسطح والشبابيك.  كانت المسيرات اليومية تخرج لشباب المتطوعين صوب المنحدر الواسع كل يوم. يبدو مظهرهم جميلا في ذلك الزي الرسمي يتلقون التحيات من الآباء والأمهات الفخورين بهم ومن الأخوات المحبوبات يحيونهم بأصوات تمنحهم السعادة التي ينتظرونها، وفي المساء يبدأ الاستماع إلى تلك المجموعات المتراصة من الجماهير يلهثون بإلقاء الخطب الوطنية التي تثير أقصى أعماق القلوب والتي يتم قطعها بفواصل قصيرة من أعاصير وزوابع من التصفيق، وتنهمر الدموع على الخدود لوهلة. في الكنائس يعظ الكهنة عن الإخلاص للعلم والوطن ويبتهلون إلى إله المعارك متضرعين إليه أن يمدهم بالمساعدة في فصاحة حماسية تحرك كل قلب مستمع. لقد كانت حقًا فترة ممتعة فاتنة، ولقت نصف دستة الأرواح الطائشة التي رفضت الحرب وطرحت الشك حول إنصافها واستقامتها تحذيرًا قويًا عابسًا وتهديدًا لسلامتها الشخصية فانكمشت واختفت عن الأنظار سريعًا ولم تكرر خطأها مرة أخرى. حل يوم الأحد صباحًا. في اليوم التالي كان من المفترض أن تغادر الكتائب صوب الجبهة، وكانت الكنائس مملوءة على آخرها، وكان المتطوعون هناك ووجوههم الفتية تشرق بتلك الأحلام العسكرية الشجاعة؛ تلك الرؤى عن التقدم الصعب وذلك الزخم من التجمع الكبير وتلك الشحنة المندفعة والسيوف البراقة والقتال ضد العدو والاضطراب والدخان يغلف المكان والمطاردات الضارية والاستسلام! بعد ذلك العودة إلى الوطن من الحرب والأبطال المتوجين يلقون الترحاب والافتتان بهم والغوص داخل البحار الذهبية من المجد! وقد جلس مع المتطوعين أحبائهم فخورين وسعداء ومحسودين من جيرانهم وأصدقائهم الذين ليس لديهم أبناء وأشقاء ليرسلوهم إلى جبهة المجد لينتصروا هناك من أجل العلم أو يسقطوا ويموتوا أشرف وأرفع الميتات. بدأت الخدمة وقُرأ فصل الحرب من العهد القديم وتُليت الصلاة الأولى وتبعها الأورغن يدوي ليهز المبنى كله وباندفاعة أخرى نهض الجمع وتوهجت الأعين وازدادت دقات القلوب سرعة وانفجر ذلك الدعاء الهائل: إله الكل جبار... يأمر الكل... أرعد ببوقك وأبرق بسيفك. ثم بدأت الصلاة الطويلة. لم يستطع أحد تذكر صلاة أخرى مماثلة لها في تأثيرها وتحريكها للمشاعر وألفاظها الجميلة الفصيحة. كان مضمون ابتهالها أن أبونا الدائم الرحمة الرؤوف العطوف سيرعى جنودنا الشبان النبلاء وسيساعدهم ويريحهم ويباركهم ويحفظهم  يوم المعركة وساعة الخطر، ويحملهم في يمينه المقدسة ويقويهم ويزيد ثقتهم بأنفسهم جاعلا منهم قوة لا تُقهر في هجومهم الدموي ويساعدهم ليسحقوا العدو ويمنحهم هم وعلم البلاد ذلك المجد والعظمة التي لا تزول. ثم دخل  عجوز غريب إلى الكنيسة وتحرك ببطء دون أن يصدر أي جلبة صوب جناح الكنيسة الرئيسي وعيناه مثبتتان على الكاهن. كان يرتدي معطفًا طويلا يصل إلى أطراف قدميه، ورأسه عارية وشعره أبيض تتساقط خصلاته على كتفيه، وجهه شاحب بشكل غير طبيعي؛ شاحب لدرجة تثير الذعر. تتبعته كل الأعين متعجبة، فقد مضى في طريقه صامتًا، ودون أن يتوقف صعد إلى منبر الواعظ ووقف هناك منتظرًا. واصل الواعظ صلاته مغمضًا جفنيه غير شاعرًا بحضوره، وفي النهاية أنهى الصلاة بذلك الابتهال الحماسي: " بارك جيوشنا... امنحنا النصر... يا سيد.. يارب.. يا أبانا وحامي أرضنا ووطنا" لمس الغريب كتفيه وأشار إليه ليبتعد قليلا، وهو ما فعله الكاهن، فحل محله. في غضون لحظات قليلة مسح بعينيه الوقورة الجمع المسحور الذي احترق وسط نور خارق معجزي، ثم قال بصوت عميق: لقد سمع الله صلوات راعيكم وخادمه، وسيستجيب لها إن كانت تلك رغبتكم ورغبتي أنا رسوله، وسيشرح لكم فحواها، أو يمكن القول سيشرح لكم أهميتها كاملا. فالأمر أن كثيرًا من صلوات البشر تطلب أكثر مما يعيه المرء إلا إن توقف قليلا ليفكر.  لقد صليتم أنتم وخادم الرب صلاتكم. هل توقفتم قليلا لتتأملوا الأمر؟ أهي صلاة واحدة؟ لا.. إنها صلاتين... إحداها تفوهتم بها، والأخرى لم تفعلوا. كلا الصلاتين وصلت إلى أذن الرب الذي يستمع إلى كافة التضرعات والابتهالات.. التي نطقتم بها والتي لم تنطقوا بها. تأملوا في ذلك. فكروا في الأمر. إن طلبتم البركة لأنفسكم فاحذروا... قد تكون طلبتكم بالبركة تتطلب اللعنة على جيرانكم في نفس الوقت. إن صليتم من أجل أن يهطل المطر على محاصيلكم التي في حاجة إليه، فنفس الفعل الذي تُصلون من أجله يعد لعنة على محاصيل جيرانكم التي ربما ليست في حاجة إلى المطر ويمكن أن تتلف بسببه. لقد سمعتم صلاة خادمكم... على الأقل الجزء الذي تفوه به. أنا مفوض من الرب أن أكمل ذلك الجزء بجزء آخر؛ ذلك الجزء الذي ربما تتقد قلوبكم أنتم وراعيكم به في صمت. أحدث ذلك بجهل دون تفكير؟ لقد سمعتم تلك الكلمات: امنحنا النصر.. يا سيدنا وإلهنا... هذا كاف. إن فحوى تلك الصلاة بأكملها يتلخص في تلك الكلمات الحافلة بالمعاني. لم تكن التفاصيل ضرورية، فعندما صليتم من أجل النصر فقد صليتم من أجل نتائج أخرى كثيرة لم تذكروها ستنتج عن ذلك النصر؛ عواقب ستنتج عنه. أمام روح الله التي تستمع للصلوات صعد ذلك الجزء الغير منطوق من الصلاة أيضًا، وقد أمرني أن أكمل صلاتكم بها... استمعوا: يا سيدنا وأبانا... لقد ذهب شبابنا الوطنيين .. أبناءنا الذين تحبهم قلوبنا إلى المعركة.. كن بجانبهم، كن معهم بالروح. نحن أيضًا ننتقل من حالة ذلك السلام الحلو الذي يغطي وطننا المحبوب لنُبتلي بالحرب. يا سيدنا وربنا.. ساعدنا لنمزق جنودهم إلى أشلاء بقنابلنا.. ساعدنا لنملأ حقولهم الجميلة بتلك الأجساد الشاحبة من الموتى.. ساعدنا لنغطي على أصوات أسلحتهم بصراخ الجرحي والغارقين في ألمهم. ساعدنا لنغرق منازلهم ببراكين من النيران. ساعدنا لنعتصر قلوب أراملهم بذلك الحزن الغير مجد. ساعدنا لنطردهم بلا مأوى هم وأطفالهم الصغار ليهيموا في مجاهل الأرض المهجورة وسط الأسمال البالية ليموتوا من الجوع والعطش وأشعة الشمس الحارقة في الصيف ورياح الشتاء المتجمدة.. كسيري الروح.. متعبين من الكدح ملتمسين الملجأ والملاذ في القبر. من أجلنا نحن الذين نحبك يا سيد.. أعصف بآمالهم وأفسد حياتهم وأطل رحلتهم المرة وأجعل خطواتهم ثقيلة وأروِ طريقهم بالدموع ولطِّخ الثلج الأبيض بدماء جروح أقدامهم! نحن نسألك ذلك بروح الحب التي تنبثق منك يا مصدر الحب... أنت يا ملاذ الرحمة الأبدي وصديق كل المتألمين والمنزعجين الباحثين عن المساعدة بقلوب كسيرة نادمة... أمين. ثم توقف الرجل قليلا وقال: " لقد صليتم تلك الصلاة... إن مازلتم ترغبون فيها تكلموا! إن رسول الرب في انتظاركم! وقد قيل بعد ذلك أن ذلك الرجل كان معتوهًا  فكلماته تفتقر إلى المنطق.

مقالات من نفس القسم