هشام الشامي
نحو أصغر الغرف وأكثرها ضيقاً. أكثرها ازدحاماً أحياناً. أكثرها رعباً ورهبة. غرفة تعلو وتهبط. نسعى بها للولوج وأوقاتاً للخروج.
جرى خلف من كانا أمامه على بعد أمتار ليلحق بهما قبل إغلاق الباب. بعدما اعتذر لهما سأله الرجل المسن عن الدور الذي يريده فأجابه الشاب أنه يريد الدور الثاني عشر. ضغط الرجل الكبير على الزر رقم 5.
خرج الشيخ وبقي الشاب وخلفه فتاة بسترة صوفية حمراء. وتبدو أصغر منه بقليل، بوجه طفولي تضع عليه بعض المساحيق.. سعل قليلاً لتنظر إلى ساعتها وتنظر فوقها. وبعد بلوغ الدور التاسع توقف المصعد. انتفضت الفتاة و…
- اوه.
- يبدو أن المصعد قد تعطل.
- والعمل؟..
سألت الفتاة لتنظر إلى ساعتها مرة أخرى.. تناول الشاب سماعة الهاتف المعلقة بالمصعد وعبثت يده ببعض الأزرار حتى مل العبث..
بعد لحظات نظر الشاب إلى الفتاة وقال وهو يدخل يده إلى جيب بنطاله..
- وماذا بعد.. هل لكِ أحدا بالأعلى؟.
- صديقتي.
- أنا أيضا كنت صاعداً لصديقي.. سأتصل به…. ، علي.. أنا بالعمارة الآن بين الدورين التاسع والعاشر… نعم أرجوك تحدث مع البواب.
طمنئها وأخبرها بأن صديقه سيهاتف حارس العقار ثم قال
- لا تقلقِ.. ستحل المسألة عما قريب.
ابتسمت مجاملة ونظرت إلى ساعتها… وبعد صمت طال لوهلات رن هاتف الشاب ورد على صديقه الذي أخبره بأن حارس العقار عنده حالة وفاة. مات عمه وسافر إلى الصعيد، لكنه أعطاه هاتف حارس العقار المجاور وسيأتي بعد قليل..
مر الكثير من الوقت، وبدا الارتباك على وجه الفتاة. ارتعشت يداها وحاولت الثبات كي لا تسقط.. خلع الشاب سترته الجلدية ووضعها على أرضية المصعد وطلب منها الجلوس.. جلست وبعد شهيقين وزفيرين شكرته. بعدها قال..
- ألن تتصلى بأحد كي يطمئن عليكِ وتخبريه بما يحدث الآن؟.
- هاتفي مغلق. لا شحن فيه.
- هل تحفظين رقم أي أحد لتتصلي به من هاتفي؟
- نعم احفظ رقم أحدهم.
أملت عليه رقماً وقام بالاتصال وناولها الهاتف..
- الو. سامح.. لا يهم هاتف من الآن. إنني في ورطة. المصعد الذي أنا فيه معطل الآن. عالق بين الدورين التاسع والعاشر.. هاتفي لا شحن فيه وهذا رقم هاتف الشاب الذي صادفته بالمصعد…. سامح. لا وقت للغيرة والشك الآن. الرجل تفضل شاكراً وأعطاني هاتفه كي أتصل بك أنت، وأنت تتكلم بكلام فارغ وتشك في… نعم ذهبت إلى صديقتي التي لم أحضر حفل زفافها بسببك ومن أجلك أنت. من أجل غيرتك وأوامرك… أحتاج إليك وأنت تتحدث بتفاهات… هل ستأتي أم لا… في داهية.
ناولته الهاتف ثم وضعت كفيها إلى وجهها بأنين يصدى بأركان المصعد وجدرانه.. ترجى الفتاة لتهدأ وقال..
- الصديق يظهر وقت الشدة.. علي…. الو يا علي نحن هنا لمدة ساعة ولا مجيب… نعم؟!. الدفاع المدني وساعة أخرى..
أعاد الهاتف إلى جيبه وجلس جوار الفتاة وقال..
- إلى أي دور كنتِ ستصعدين؟
- نفس الدور ونفس الشقة. أنها زوجة علي صديقك.
- حقا.. أنتِ صديقة نرمين؟ّ!.
- وهل هذا المكان والوضع المناسب للكذب؟
- بل مناسب للمصادفة. فرصة سعيدة لن تنسى بالتأكيد.
بابتسامة معقوفة قالت..
- نعم. ونهاية ارتباط كذلك.
- هل يمكنني قول شيئاً مما حدث. إن كنتِ تسمحين.
- تفضل.
- الغيرة تعمي القلب والعقل. الثقة تضيء الاثنين. هل يثق بكِ
- أكذب عليك إن قلت أنه يثق بنفسه. يظل بالحمام أكثر من عشر دقائق ليغسل يديه فقط.
- وما الذي يجبرك للعيش معه؟
- شيئ لا مرئي. لا ملموس اسمه الحب.
- الحب يكون ملموساً مرئياً أمام من حول المحبين. لا تنظري لروميو وجولييت فقط. أنظري لوالديكِ كيف أنجبا بحبهما فتاة مثلك.
- وهل تعرف والداي؟!.
- لا ولكن أشعر بنتاج هذا الحب فيكِ.
- بالفعل. ماتا تباعا. لم تتحمل أمي فراق والدي فلحقت به بعد شهرين من البكاء والمرض.. آخر كلماتها كانت: أغداً القاك.
- آسف.. كم كان عمركِ وقتها؟
- خمسة أعوام.
صمتا وظل الصمت بينهما حتى وقع الشاب وانتفض جسده. صرخت الفتاة. صرخت حتى سمعت أصواتا بالخارج تنادي وتسأل ماذا حدث…
بعد لحظات هدأ كل شيء مرة أخرى.. فتح عينيه ثم عاد لوضعية الجلوس وسألها ماذا حدث
- سقطت فجأة وارتعش جسدك بالكامل. ولا أدري ماذا أفعل.
- نعم.. إنها نوبة صرع تنتابني لفترات متباعدة. ذهبت إلى الطبيب ولي علاج إن شاء الله.
- آسفه.. شكلك كان مريبا.
- فيلم رعب أليس كذلك. تلك النوبات تأتيني في أوقات غريبة. أغربها الآن.
- هل ستأتيك تلك النوبة مرة أخرى ونحن هنا ؟.
- لا أعتقد ولكن إن حدث ذلك مرة أخرى فضعي كم سترتي هذه بين فكيّ.
- ارجو ألا أكن قد أزعجتك بحكاية والداي.
- إطلاقاً. الموضوع بعيد تماماً عن ذلك. ولا فوبيا لدي من الأماكن المرتفعة أو المغلقة.
نظر إليها ليطمئنها، ونظرت إليه لترد على نظراته بنظرات… وبين تلك النظرات رن هاتفه.
- أين أنت.. بالخارج مع الجيران. يا حلاوة.. لا شيء سوى تلك النوبة التي تعرفها، وكل شيء هادئ الآن. المهم هل سيأتي أحداً لإخراجنا؟..
- هل سيأتي أحداً لإصلاحه ؟.
- سيذهب إلى أقرب مطافئ بنفسه لعدم استجابة أحداً لاتصالاته.
- لقد طال الوقت. أريد الخروج.
- أخفتكِ، صحيح؟
- أخفتني نعم وأخاف من حدوث نفس الشيء لك مرة أخرى.
- هنا فقط أم بعد ذلك ؟
- في أي وقت كان.
- يواجهني أمراً أشد خطورة الآن. أريد دخول الحمام. كنت أجري لألحق بكما وأنتما بالمصعد كي أدخل حمام بيت علي.
نظرت إلى الأرض مبتسمة كاتمة ضحكة قد تخرج منها حتى قال
- لتنسِ تلك الأشياء المآسوية ونلعب لعبة. لعبة الصراحة، وبما أننا أثنين فقط ولا زجاجة لدينا نلعبها سؤالاً مقابل سؤال. قشدة؟
- فليكن. اسأل أنت.
- لماذا أخطأتِ الاختيار؟
- آه.. مرآة الحب للاسف.. أتعرف مرآة الساحرة غريمة سنوه وايت؟
- طبعا.
- كان من الممكن أن ترى نفسها أجمل من في الكون دون سؤال المرآة. دون النظر إليها. لكنها أحبت المرآة فاستعانت بها لتظل عمياء. وكذلك كانت مرآتي. الآن أريد تحطيم تلك المرأة. سؤالي لك.. ما الحب بالنسبة إليك؟
- الحب.. الحب ليس فقط كلمة تقال كي تسعى لها القلوب وتهيم بها. هو شيء جميل كجنين ينمو برحم الأنثى، وما إن يولد حتى يتطلب رعاية الأبوين لا الأنثى وحدها. والأهم التفاهم ثم التفاهم.
- كلماتك حلوة عن الحب والعلاقات.
- وأنتِ أحلى وأجمل.. أيمكنكِ قبول عرضي بالزواج منكِ. أم سترفضين بسبب نوباتي.
صمتت. صمت.. نظر إلى مرآة المصعد ليُفتح الباب ويخرج وحده ويمحو الصورة التي كانت أمامه بشاشة الهاتف.