صديقي

صديقي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منتصر القفّاش

ظللنا نسير ونحن نحاول ألا نكف عن الكلام، أو بمعنى أصح يندفع محمود متكلما عن أي شيء كلما أوشك صمت أن يخيم علينا، وكنت أساعده بقول تعليقات سريعة تدفع عني شبهة اضطراري للسير معه.

 مع مرور الوقت تأكدت أن الموضوع كله مختلق، فلم يحدث شئ لملابسه التى أكد محمود أنها ستبدأ فى التآكل بمجرد خروجنا إلى الشارع، ولم أكرر له شكوكي خوفا من أن يُخرج الملابس المتآكلة من الحقيبة التي يحملها، ويعرضها علىّ أمام الناس ليؤكد حكايته.

– أكيد التمشية هيه السبب.

فهمت ما يريد قوله، لكنني سألته عن قصده لأبدو مهتما. قال إن التآكل يبدأ ما إن يشرع في الخروج إلى عمله أو موعدٍ، المهم أنه يخرج “بجد” وليس للتمشية كما نفعل الآن. وقبل أن أكمل سؤالى عما إذا كان التآكل قادرا على تمييز نوع الخروج، صاح:

– ممكن. ما أنا عايز أفهم.

قالها بصوت عالٍ. لم يلتفت إلينا أحد السائرين، لكننى قلقت من معاودته  التحدث بهذه الطريقة كما كان يفعل قبل خروجنا، فمع أي تلميح منى بالشك يبالغ هو فى رد فعله كأنه بمبالغته يريد أن يكون فى مستوى غرابة ما يحدث له.

ظننت حينما بدأ يحكى لى فى الشقة أنه سيهدأ تدريجيا لكن زاد احتداده رغم إشاراتي له أن يخفض صوته، حتى شعرت أن الجيران كلهم عرفوا الحكاية، ودفعنى هذا إلى مقاطعته أكثر من مرة بأسئلة مبالغ فى طولها لأجعله يصمت أو يكف عن الصراخ قليلا، لكنني فوجئت أن أسئلتى دفعته لتكرار ما حكاه من قبل، وإضافة تفاصيل جديدة، فلم يحكِ في البداية – حينما اكتشف حكاية التآكل فى المترو – عن هذا الراكب الجالس الذى انتبه لانسحاب طرفيّ بنطلون محمود إلى أعلى فابتسم، ومع ازدياد التناقص، سأله “إيه ده؟” عندها تأكد أن تآكل البنطلون ليس وهما وأنه من المستحيل مواصلة طريقه إلى عمله.

كان محمود أثناء روايته يسأل أحيانا الأسئلة المتوقعة منى وبعضها لم يخطر

– أصلا – في بالى، مثلا لماذا لم يذهب إلى طبيب، أجاب أن أمه اتصلت بقريبٍ لهم يدرس في كلية الطب فنصحها بأن يرتاح أياما فى البيت،وإذا أراد الخروج فمن الأفضل أن يلبس ملابس أخيه. وهذا ما فعله بعدما جرّب ملابس كثيرة له، أصابها كلها التآكل، وأحضر معظمها معه فى حقيبته لأراها.

حدثني عن ضيق أخيه  من كثرة استعارة محمود لملابسه، وأنه بدأ يطالبه بشراء أخرى جديدة، وارتفع صوته مؤكدا لي أن رفضه الفكرة ليس بخلا منه، لكن شراء شيء ليستعيره هو بعد ذلك يعنى تكيفه مع التآكل والعيش معه.

حينما يكون أحد أصدقائك جادا، وغير معروف عنه غرابة التصرفات، ونلجأ له كثيرا لنعرف رأيه فى مشاكلنا، سيصير من الصعب السخرية منه حينما يحكى لك – جادا أيضا- ما لا تصدقه، خاصة حينما يأتيك فجأة بدون موعد، على غير عادته، ويُخرج ملابسَ تقطّعت أطرافها، ويشير إليها منفعلا ويردد “تآكلت” مرات عديدة فلا تقدر إلا على أن تتابعه وتبدى على وجهك علامات الدهشة التي ترضيه وتدفعه إلى مواصلة الكلام.

لكنني رفضت في البداية أن أخرج معه لأشاهد بعينيّ ما يحدث له، ومع إلحاحه أخذت أشكّك في كل ما قاله، فأخرج ما في حقيبته مرة أخرى وهو يرمي بكل قطعة في الهواء وغطت إحداها وجهي فأبعدتها عني سريعا خوفا من أن تعديني، وطلبت منه أن يلملمها كلها بنفسه وبسرعة. بنطلونات وقمصان وبلوفرات بدت وكأن مقص مجنون قصقص أطرافها بدون انتظام، ولاحظت قميصا مازال تيكت السعر ملصقا على ظهره

 

ـ لبسته في المحل اللي اشتريته منه، ومشيت بيه كده في الشارع.

اندهشت من كثرة الملابس المتآكلة رغم مرور يومين فقط على ظهور الحالة، فأوضح لي أن معظمها نتاج اليوم الأول الذي بدل فيه ملابس كثيرة – صيفية وشتوية – على أمل أن تنجو أية قطعة وربما لظنه أن التآكل سينتهي لو أتى على كم كبير. وهو يلملم القطع المتناثرة على الأرض قال

ـ كويس انك ساكن لوحدك. حاسس كأني في بيتي.

فقد تكرر هذا المشهد مرات كثيرة في بيته كلما شكك أحد من أسرته فيما أصابه أو اتهمه بالمبالغة في رد فعله، فلا يكون منه سوى أن يخرج الملابس ويقذفها في وجوههم، وأسرّ لي أنه في كل مرة يفعل هذا يتمنى أن تخذله الملابس فتخرج سليمة كما كانت أو على الأقل لا يجدها بعدما تكون تآكلت تماما.      

وجدت أن استرساله في الكلام يزيد بمرور الوقت ليدفع عني أي ملل أشعر به، تذكر مرة أخرى الراكب في المترو وكيف أنه سارع بالجلوس على الكرسي قبل أن يجلس عليه محمود ووضع يده على صدره مستنشقا نفسا عميقا وعيناه مغمضتان ثم قال ” تعبان شويه “، كانت كلماته التي قالها ببطء وبصوت خفيض تناقض تماما اندفاعه للجلوس، وعندما لم يرد عليه محمود تظاهر بالنهوض ” طب تعالى اقعد “، ” لأ. والله ” قالها بتلقائية وضغط بكفه على كتف الراكب الذي أكمل عرضه للنهاية ب ” اوعى تكون زعلان “.

شرح لي لماذا اختارني ليبوح لي بسره، فهو يثق في أنني كتوم ولا أفشي الأسرار إلا بصعوبة، وذكرني بالمحاولات الكثيرة التي حاولها حتى عرف مني سبب جرح صديقنا جلال وربطه رأسه بالشاش ” حوالين داير ” فقد كسرت صديقته زجاجة على رأسه حينما كانت عنده في البيت حينما حاول أن ينام معها بالغصب،

ـ  وحتى لو حاولت تقول مافيش حد حيصدقك

قالها بنفس طريقته التي أعرفها عند حسمه لنقاش حول مشكلة ما، لكن هذه المرة زادت حدة خبطه كفيه في بعضهما واتسعت مساحة حركة ذراعه علامة على نهاية الكلام.

ـ  كنت حتعمل إيه لو كنت مكاني؟

أفضت في الإجابة مكررا طريقتي في إسكات محمود أطول فترة ممكنة، وبدأت بتذكر برنامج إذاعي كان اسمه ” لو كنت مكاني ” يقوم على إبداء الضيوف الحاضرين في الأستوديو بآرائهم في إحدى المشكلات التي بعث بها ” مستمع كريم” وفي مرة اتصل صاحب المشكلة وبعد أن بسمل وشكر المذيع والجمهور صاح ” مافيش حد فاهم مشكلتي، ومستحيل حد يكون مكان حد وأصابع الإيد الواحدة مش زي بعض 000 ” وهنا انقطعت المكالمة، وقبل أن يظن محمود أن هذه إجابتي على سؤاله سارعت بحكي كيف شارك والدي في الحلقات بعدما كتب خطابات كثيرة للبرنامج ليستضيفوه، وكان الضيف الذي سبقه في الإعلان عن رأيه قد أطال في مقدمته التي استشهد فيها كثيرا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية حتى قاطعه المذيع ” يعني إنت مع الطلاق ولا لأ؟ ” ” لأ “، وانتقل إلى أبي بنفس السؤال ” لأ ” وكان هذا كل ما شارك به أبي في البرنامج.

لم تكن هذه طريقتي في الكلام، فانا أحب الإجابات المختصرة والتي تصل إلى هدفها بأقل الكلمات، لكنني شعرت وأنا أتمهل في إجابة سؤاله وأطيل في المقدمة وتفاصيلها براحة كأنني أتكلم مع نفسي فلا أنا أخشى من ملل المستمع الكريم ولا هو يرغب في مقاطعتي بل يشجعني على الاسترسال والإطالة.

انتظارنا لظهور التآكل بالإضافة إلى محاولتي إسكات محمود أطول فترة ممكنة جعلني أشعر بمزايا التمهل في الحكي والتي قد تدفعك إلى تذكر حكايات طواها النسيان أو إعادة قولك شيئا يعرفه من يسمعك، والأهم أنها تدفعك إلى التفكير فيها أثناء حكيها.

كان محمود يرى أنني أحب والدي جدا ولا أحكي عنه إلا قصصا جميلة، حتى حكيت له مرة عن إحساسي بمظاهر الكبر على والدي سواء ضعف الحركة أو تزايد نسيانه الذي يجعله يعيد قول الشيء مرات للشخص نفسه وربما في يوم واحد، وكلما اصطدمت بهذه المظاهر يتولد داخلي إحساس مضاد ينفض عني أية صفة أجدها تتشابه أو تتماس مع حالة والدي حتى لو كانت مجرد تأجيل مكالمة صديق، فأجدني أرفع السماعة واتصل به مباشرة، لكنني صرت أتضايق من كثرة هذا النوع من ردود الأفعال، فما يكسبني الحيوية هو رد فعلي على ما يجعلني أتشابه مع والدي وليس ما هو أصيل فيّ، وقتها قال محمود إن تكرار رد الفعل قد يتحول إلى طبيعة أصيلة بمرور الوقت. وبعد وفاة والدي وجدت أن رد الفعل هو الذي يحكم علاقتي معه، وأصبح مرآة أقارن أمامها حياتي، فعندما يتملكني الخجل في جلسة ما أتذكر والدي ومقدرته على جذب السامعين فأتحرر قليلا من الخجل وانطلق في الكلام دون مخزون الحكايات الذي كان يملكه والدي فأتلعثم لكنني استمر مؤكدا لنفسي أن والدي لم يولد حكّاء، وأنه بالتأكيد تلعثم كثيرا حينما كان في مثل عمري. أفقت أو بمعنى أدق ارتبكت حينما صاح محمود

ـ  أكيد كان بيتهته لما كان في سنك

فقد كنت أظن أنني لا أتكلم معه وأنني أفكر في صمت، ولوهلة شعرت أن صوته امتداد لحواري مع نفسي أو كأن تعليقه صوتي وإن اختلفت النبرة قليلا مع المبالغة في التأكيد.

ازداد ضيقي من هذه التمشية التي قد تعرضني لأشياء لا أريدها والتي رغم كل شيء تسعى لهدف غامض لا أصدقه وفي نفس الوقت أنتظره.

قاطعني باقتراح أن نذهب إلى هشام أو إلى أي صديق أختاره، فوجود هدف لتمشيتنا قد يوفر المجال الطبيعي الذي يعمل فيه التآكل، ” إبراهيم” تلقائيا نطقت بالاسم وانتبهت بعد ذلك أنه أكثر الشخصيات التي يكرهها محمود ويراه لا يطاق سواء في كلامه أو صمته، لكنه وافقني على أمل أن يكون إرغامه على الذهاب  يهيئ المجال الطبيعي.

أشار إلى ناحية الشمال وقال إن كل هذه البيوت آيلة للسقوط وهناك أوامر بإزالتها لكنها لا تُنفذ وأعرف أصدقاء يسكنون فيها

ـ  كلها؟

ـ تقريبا وواحد منهم لسه متجوز جديد وعارف أن البيت حيقع

ـ امتى؟

ـ  في أي وقت

لم أنبهه إلى أن الناحية التي أشار نحوها خالية من البيوت وليس فيها سوى مصنع موتسيان للسجائر، استمر في الكلام موضحا انه بنفسه كتب عدة قرارات بالإزالة وسلمها لأصحاب هذه البيوت. وجدت أن كلامه مجرد ملء للوقت، وإذا كنت أسير معه منتظرا التآكل فطبيعي أن أسايره في أي شيء يتفرع من هذا الانتظار، ولا داعي من المجادلة في وجود شيء من عدمه

ـ  حاجة غريبة انك مش شايف البيوت

ـ أنا ما قلتش كده 

ـ جايز

 لا أصدق حكاية التآكل من أساسها إلا أنني صرت واثقا من عدم معرفتي  متى أتكلم مع نفسي ومتى أكون متكلما مع محمود

ـ وأنا بيحصلي كده بالظبط

فيجد من يكلّمه يقاطع حواره مع نفسه ويبدي رأيه فيما ظنه محمود شيئا يقوله لنفسه، لكنه لم ينشغل بهذا الأمر ورآه من أعراض التآكل.

توقفت ونظرت إلى طرف بنطلوني فوجدته في حالته العادية لكنني قلقت من عدم تغطيته لرباط الحذاء كبقية بنطلوناتي وقلت ربما يكون السبب سرعة توقفي، ولم يعلق محمود أو لم أعرف إن كان سمعني أم لا.

التفت إلى الوراء كان محمود يتكلم مع شخص بصوت عال وظل ينفي له ما سمعه من أخيه

” انت أكيد فهمت غلط، ما فيش أي مشكلة “. عرفت منه ونحن نكمل السير أن أخاه حكى لصديقه بالتفصيل عن التآكل

– الحقيقة انه خايف على لبسه وعايزني اقعد في البيت

بدأ محمود يكثر من النظر إلى طرف بنطلونه وهو مسترسل في الكلام عن أي شيء، ولا يرد علىّ كلما اقترحت العودة إلى شقتى أو تأجيل التجربة إلى يوم آخر.

خبط على حقيبته بقوةٍ

– تفتكر الحكاية انتهت؟

– أكيد

– ارجع انت، وانا حاروّح.

رفض أن أصحبه إلى بيته، خاف أن يكون استمرارى معه جزءًا من التمشية مما يعوق تأكده من انتهاء التآكل، ووعدنى بالرجوع إلىّ سريعا إذا حدث شئ لملابسه.

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال