عيد صلاح
تخيّل أنّك بعد أن تغمض عينك للحظة تكتشف أنَّك في قبر، وسط الجثث، وحولك الجماجم، في ظلمة رهيبة، ورائحة عفنة لا يمكن أنْ تحتملها، من هذا المدخل تنطلق رواية “صاحب السر” للروائيّ المصريّ دكتور عمّار على حسن، صدرت عن الدار المصريّة اللبنانيّة، في القاهرة، 2021م، تقع الرواية في 215 صفحة من القطع المتوسط. هي رواية ماتعة تضاف إلى الرصيد الأدبيّ المتميز لعمّار على حسن.
تتميز الرواية بالحبكة الدراميّة، والتسلسل المشوق للأحداث التي تدور حول شاب وحيد مريض بالكبد، وفي غيبوبة كبد دفنه عمدة القرية حيًا على اعتبار أنَّه ميت لكي يتخلص منه. يكتشف بطل الرواية مرزوق الحر بعد الإفاقة من الغيبوبة أنَّه في القبر، يصارع مع الحياة، وفي تقاطع الزمن يستدعي الذاكرة (الماضي) في ضوء (الواقع المرير) القبر، ثم الحلم في الحرية وهو الخروج من القبر لمقاومة العمدة (المستقبل). وهي دوائر ثلاث تشتبك معًا: الماضي والحاضر والمستقبل. ومن هنا تأتي الحوارات الداخليّة لبطل الرواية، والحوارات التخيليّة، والحوارات الحقيقية ليشتبك الواقع مع الخيال في سردية جميلة من خلالها جعل من القبر نافذة على القرية والعالم.
في الرواية مشكلات كبيرة منها حب ضائع (حميدة ومرزوق)، وجسد عليل منهك (مرزوق) الذي يظهر أنه ميت حي وحي ميت. والعمدة يمثّل السلطة حين تتحول إلى أداة للاستبعاد والقهر، فيما يجسّد اللصوص ونبّاشو القبور منظومة الفساد التي تعيش على أنقاض الضعفاء. أمّا مرزوق، فينهض كصوت للمقاومة السلمية التي تحاول استعادة الكرامة الإنسانيّة في مواجهة الموت الرمزيّ والمادي معًا.
في القبر يكون لمرزوق القدرة على إدارة أزمته، بدأها بالقدرة على طرح السؤال: لماذا أُتّيَ به إلى هنا حيًا؟ ويحاول الإجابة بأنه يعرف أسرار أهل القرية، ولا سيما العمدة، وبالتالي تخلص منه، منتهزًا غيبوبة الكبد ليكفَّنه، ويُصَلَّى عليه، ويُدفَن، ويوضع في المنامة، وعند الإفاقة يجد نفسه في القبر المظلم وسط الجماجم والرائحة النتنة والجثث.
يمكث في القبر محاولاً الخروج، وهو المريض العليل يقاوم كل عوامل الوهن والضعف، يستخدم الأدوات المتاحة لمحاول عمل ثقب في جدار القبر، لتكون نافذة للحياة والحرية. في القبر وهو الضعيف المريض المنهك لديه قدرة على الإبداع وقت الحاجة، والقدرة التفاوض مع الغير، والتفكير في الحيلة للتمكن من الخروج. ليتمكن أخيرًا بعد محاولات كثيرة للخروج من القبر لفضاء الحرية لكي يموت ميتة حقيقيّة كما تمنى.
يظهر مرزوق في وضعية تبدو للوهلة الأولى خاتمة قدرية، لكن الرواية تكشف تدريجيًا عن قدرته على إدارة أزمته عبر طرح الأسئلة، والتحايل على الوضع، واستثمار كل نقطة ضوء ممكنة. فمحاولته المتكررة لثقب جدار القبر ليست مجرد حركة مادية، بل فعل رمزي يعيد إنتاج معنى المقاومة داخل أضيق مساحة ممكنة.
هذه رواية تضم إلى أدبيات لاهوت التحرير ومقاومة الاستبداد ليتحرر الإنسان من الفقر والجهل والمرض والاستبداد والديكتاتوريّة لينعم الإنسان بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانيّة. وهي رسالة لكل إنسان قابع في قبر الوهم والخوف والضياع والاستبداد والظلم لديه فرصة للمقاومة ليخرج إلى الحرية والسلام والعدالة والكرامة.
تعتبر رواية عمار على حسن صاحب السر قطعة أدبيّة متميزة في المبنى والمعنى في الأسلوب واللغة في مصالحة الخيال مع الواقع. وهي تعتبر قراءة أنثروبولوجيا للريف المصريّ الذي يعاني من مشكلات اجتماعيّة جمّة تظهر في قهر السلطة، وتصدع في العلاقات، والخيانات، واستخدام عجز وفقر وقلة حيلة الناس. ويرسم عمّار في هذه الرواية صورة تفصيلية للقرية في تفاصيل كثيرة من ناحية المكان والإنسان والبيئة والأدوات الريفية.
هذه الرواية التي تدور كل أحداثها من خلال القبر رمز السكون والهدوء والتي تحوي على موتى، هي في ذاتها تعلّي من ثقافة الحياة على ثقافة الموت، وثقافة المقاومة على ثقافة الاستكانة، وحلم المستقبل على مرارة الواقع، وثقافة الحرية على ثقافة العبوديّة، ليصبح مرزوق الحر صورة ونموذج كل شخص يسعى للحصول على الحرية من خلال المقاومة السلمية.
المفارقة الأساسية في الرواية أنّ أحداثها تجري داخل القبر، رمز السكون والجمود والموت. لكن القبر في الرواية يتحول إلى فضاء معكوس: من داخله تنبعث إرادة الحياة، وتُستعاد قيمة الحرية، ويُعاد تعريف معنى الوجود. مرزوق الحرّ، في هذا الإطار، ليس مجرد شخصية سردية، بل نموذج إنسانيّ وصورة مكثّفة لكل من يسعى إلى الحرية عبر المقاومة السلمية، حتى وإن بدا محاصرًا من كل الجهات.
خلف الرواية قصة حب لا تموت حتى لو غاب أحد شخوصها. ويظل مرزوق الحر يعافر ويقاوم لكي يحيا بالرغم من العجز والمرض والوحدة وقلة الحيلة ربما يكون في ذلك صورة رمزيّة لكل شخص أو شعب يعاني تحت قهر السلطة لتي ازاحت مرزوق إلى القبر متمثلة في (العمدة) والسرقة والفساد واستغلال الفقراء والضعفاء متمثلة في (اللصوص).
الحياة من منظور قبر في سبيل الحياة والحرية، وإن كانت قد عرضت لأسرار الناس فليس هو لُبّ القضية، ولكن السر الأعظم في القدرة على المقاومة للخروج من القبر إلى فضاء الحرية. فهي رسالة أمل لانبعاث ثقافة الحياة من قلب القبر.
……………………..
- باحث في االتراث العربي المسيحي ـ وراعي الكنيسة الإنجيلية بعين شمس، القاهرة





