“شوارع الأبيض والأسود” شعرية الشر الجميل!

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شريف الشافعي

"أحمد يماني" شاعر مصري شاب، يكتب قصيدة النثر الحديثة، عرفه الوسط الأدبي منذ منتصف الثمانينات أو بعد ذلك بقليل، حيث فاز بجائزة رامبو لأفضل قصيدة في المسابقة التي نظمتها مجلة "إبداع"، ثم دأب على نشر قصائده في المجلات الثقافية المختلفة: الشعر، أدب ونقد، الكتابة الأخرى، الجراد، الفعل الشعري، وغيرها.

 أحمد يماني ابن أحدث جيل يكتب القصيدة الشعرية في مصر، وهو الجيل الذي صنفه بعض النقاد (على أساس المرجعية الزمنية) تحت مسمى جيل التسعينات، على غرار جيل الثمانينات وجيل السبعينات… إلخ. إلا أن هذا الجيل الذي له يماني إذا صح تسميته جيلا هو جيل النص المشترك، والتقنيات الواحدة المستنسخة، والالتقاء في جسد الصداقة لا روح المفاهيم، وإن كان شاعرنا هو محور هذا النزوع الجمالي، وأحد “الأفراد” القلة الذين يدافعون عن فردانيتهم في كتابة النص الجديد المغاير.

انطلق يماني خارج المؤسساتية في نبض شعره وفي المجلات “غير الرسمية” التي نشر بها قصائده، ثم في اختياره أن تتم طباعة ديوانه الأول شوارع الأبيض والأسود، على نفقته الخاصة ليوزع يدويا على مثقفي القاهرة كما هو الحال بالنسبة للمجلات الثقافية الخاصة التي تعبر بشكل صادق عن الثقافة الحرة في مصر.

يعتمد الشاعر على عنصرين أساسيين في سبيل بلورة تجربته- على النحو الكيميائي، أولهما: هو ألينة الإنسان في حركته المنتظمة مع الواقع.

في الصباح قررت أن أنهض باكرا

وأضع كل قدراتي العضلية في مصنع الكرتون.

وكذلك حين يقول:

أفكر في رتابة يومها وأنها ما زالت

تصنع الطعام كل يوم

وأننا ما زلنا نأكل ثلاث مرات يوميا.

أما العنصر الثاني فهو القياس المنتظم أو التحديد للأشياء والظواهر على نحو يشي بالاهتمام بما هو حسي ملموس، والانفلات عن الرموز والمبالغات العاطفية التي تحيل عادة إلى المثال المتخيل.

يقول:

أذكر أنني انسكبت أمامك كلتر ماء

أو

أحب غرفتي حيث الكتب المرصوصة

تناسب 23 عاما من الدوران حول الذات

أو

على بعد 30 مترا من نقطة الانفجار

وكذلك حين يحدد الفعل بقول:

أعرف أنك فعلت شيئا محددا، أنك نمت وسط الدائرة. و…

ومن خلال عنصري الألينة، والتحديد، يحرص يماني على مفارقة جمالية بالغة الدلالة وهي (وضع المعنوي في صورة حسية)، على نحو مضاد لما كان يفعله الشعراء الروحانيون الذين كانوا يعبرون بالمعنويات عن الأمور الحسية، ويبدو ذلك من خلال تجسيده للحب بقوله:

وربما تضيئين الأباجورة

مفتشة عن إبرة حب سقطت منك.

وتتلاقى هذه النزعة نحو التحديد واللمس مع الحرص البالغ على مطالعة الجسد والوقوف عنده في هدوء تأملي تشريحي تفصيلي حيث يستمتع ويلهو ويسيطر ويتحكم في ما يمتلك وحيث يثور ويسخط على ما هو خارج عن إرادته.

أود أن أمسك كليتي بنفسي

وأمسك كبدي والمعدة

وأن أقيس أمعائي بنفسي

وأشرف على تنظيم ضربات القلب

وكمية الدم المضخوخة إلى المخيخ

… إلخ ألخ

ورغم هذا الجنوح إلى صيد اللحظة، ورصد تفاصيل المعاش/ اليقين، تبدو الرغبة في تجاوز اللحظة والانفلات عنها فوق بساط المتخيل المشهدي، خلال ثلاثة مواقف تتكرر كثيرا في النص، وهي مواقف: ذكريات الطفولة اللاهية الحالمة، واستدعاء الأب والأم في صورة الأطياف، والرغبة في مغادرة العالم والموت وسط الصخب مع بقاء الرحص على الاستلذاذ حتى بعد هذا الموت الجميل.

إن إبرز ما أثاره هذا الديوان من جدل لم يكن بسبب مغايرته الجمالية فهناك من سار على نهجه جماليا ولم يتعرض للتقريع وإنما جاء نتيجة لمعاينته من منظور أخلاقي قيمي، حيث تنقلب فيه الأوضاع السائدة، ويبدو الشذوذ على جميع مستوياته التأويلية هو الصوت الأعلى، المتحكم في حركة الذات والعالم، وحيث تأتي نثارات الخراب المتعفنة (بالنقل الفوتوغرافي) لتتجاور فوق صفحة النص ليصل الشعر إلى آخر مدى له من حيث الإفراط في السوداوية والعبث والالتصاق بالمرايا الداخلية لكاتبه فقط، بعيدا تماما عن معنى (الالتزام) سواء الالتزام الأخلاقي القديم أو الالتزام الجمالي البديل.

وفي الندوة التي عقدت بمركز الهناجر للفنون لمناقشة شوارع الأبيض والأسود أشار الناقد الدكتور محمد بدوي إلى أنه يجب قبل مطالعة هذا النص التفرقة القاطعة بين الأنا الشاعرة وأنا المتكلم في النص، فأنا النص شخصية ورقية لا تعبر بالضرورة عن ذات الشاعر وإن كانت تتحد معها على المستوى اللغوي فقط. كذلك تجدر الإشارة إلى انتماء هذا النموذج من الشعر إلى إيديولوجيا “الأشياء الصغيرة” التي حلت محل “إيديولوجيا المطلقات”. ومع هذا التحول الإيديولوجي تحولت آليات الكتابة، وصار الشاعر مكبا على الحبز المكاني المحدد. الجسد مثلا، دون خوف أو خجل من عدم التحدث عن القضايا الكبيرة التي لا يمتلك منها شيئا.

ويمكن إدراج هذا النص ضمن ما يطلق عليه: شعرية الشر أو جمالية القبح حيث يتنامى الارتياب من الآخر وتبدو وطأة الشعور بخراب وقبح العالم وتتحول التجربة إلى ذاتها إلى نوع من الخلاص (بالمعنى الوجودي) فتتعرى الذات تماما ويسكن الشاعر وحده في كهف الكتابة ليشكف ويطالع أسراره ونقائصه دون خوف من العالم الخارجي الذي ابتعد عنه تماما.

ويبقى السؤال الأخير، الفارق، حول الغاية الجمالية التي يطرحها هذا النموذج الشعري، بعيدا عن فكرة البعد السوسيولوجي الرثة، وبعيدا عن الإشارات الإيديلوجية وإنما انطلاقا من بؤرة الجمال ذاته حيث يجدر أن يكون للفن دور جمالي يرد الإنسان إلى إنسانيته المفقودة ويساعده على إرهاف حواسه واكتشاف فصاءات روحه البكر، حتى ولو كان القبح هو وسيلة الإبداع، فمكمن الجمال في عملية تصوير القبح وكيفية نقله، لا في طبيعة المادة القبيحة، المنقولة فوتوغرافيا بالأبيض والأسود.

ــــــــــــــــــــــ

جريدة الرياض 26/04/1995

 عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم