شوائب فى الفانتازيا.. لمحات من قص أحمد سمير سعد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

"الضئيل صاحب غيّة الحمام" هى المجموعة القصصية للقاص المصرى أحمد سمير سعد الحاصلة على الجائزة الثالثة فى المسابقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر عام 2009 والنسخة الموجودة بين يدى هى الصادرة عام 2014 عن دار اكتب .

قرأت المجموعة أكثر من مرة بينهما فاصل زمنى . الموهبة لا يمكن تجاهلها ولا الحمولة المعرفية لكن يمكن مناقشة بعض الملامح و تأثيرها مع بعض المرجعيات على اتجاه و " مذاق " بعض النصوص هنا كما يمكن تأمل الطروح والإيحاءات التى تقدمها بعض القصص فى ضوء اختيار القاص للفانتازى بتمثلاته و درجات تشبع النص به فى عدد من القصص .

 

فى القصة التى حملت المجموعة عنوانها و التى هى بالفعل القصة الأبهر كما استقبلتها نجد عملا مقدما كما لو بعين كاميرا حديثة ، كما لو كانت فيلما يبدأ بتعداد زوايا الرؤية و تصوير المشاهد لذات الحدث أو الشخص .. من مواقع شخوص عدة يتم بث و استثارة حس سوداوى منها خاصة وأن الكاتب اختار هنا أن يبقى تلك الشخوص بما فيها بطل القصة بلا أسماء مما شحن السرد بعنصر أحب تجاوز المسميات النقدية ( و غالبا لن أنجح فى هذا المسعى ) من غرائبية و حس فانتازى لأسميه ” الإشعار بالخوف ” ، بأن ثمة ما هو مخيف قد يقع ( ها أنا أسقط فى المسميات التى يغرق فيها العالم ) فمثلا تقول إحدى الشخصيات فى حوارية مع الباقين : ” مش عارف ليه حاسس إن لو حد خبط جنبه هيطير زى الحمام ” فيرد صوت شخصية أخرى بلا تسمية ” و يقع .. و يقع .. و يقع ” وتنفجر الشخصيات فى الضحك .. الضحك الذى هو أسود .

فى هذه القصة يتم تقديم شخص ” الضئيل ” فهذه صفته من زوايا مختلفة من جيرانه أو بائعة خضر فى الشارع أو من مجموعة من اللصوص لكن النهاية تظل غير متوقعة حتى لحظة حدوثها مما يحسب للقاص بالطبع .. هذا جاء محقِقا للمتعة الدرامية القصوى التى نتلذذ بها أثناء تعاطينا لحكى كاتب ما أو شعر شاعر ما .. معناه أصالة الشغف و الموهبة و الحرص لدى المبدع على أن يفاجئ نفسه بوصف ذلك الوسيلة الوحيدة كما قال أحد كبار المبدعين يوما لمفاجأة القارئ .

إذن بقيت النهاية صدمة أو قنبلة مؤجلة التفجير بعد قص استدعى حالة أو بالأحرى طريقة شبه سينمائية و لغة خلقت تراكمًا فى التوتر المتصاعد كأن القصة تقدم نبيًا قبل غروبه الوشيك يتكاتف على براءته كل الفسدة و الشخوص القادرة على التعايش فى عالم الخمش و التهشيم . هنا الضئيل ربما استشعر النهاية التى لم نستشعرها فإذا به يمسك براية ضخمة يحركها يمنى و يسرى داعيًا الحمام إلى الهبوط .. هذا سلوك ولىّ أو نبى و هو الذى يُحكى عنه أنه أوقف حياته على تربية الحمام كأنما لا صلة بينه و بين عالم الماديات و البيع و الشراء و لأنه يجيد التعامل مع رمز السلام لا بد له من الموت العنيف فى عالم فانتازياه مهزومة بواقعه، لا بد أن يسقط من أعلى سطح العمارة متهشمًا و قد اخترقت صدره رصاصة يصفها السارد بالطائشة ( أثناء عرس ) بعدما منحنا كل الأسباب عبر خيال لغته فى القصة لنوقن أنها ليست كذلك . بهذا ضمن أحمد سمير سعد توريطنا فى الجريمة فخنْق الوداعة و الاختلاف فى اليومى المعيش أو تضامننا مع الشائع الفظ لمجرد أنه شائع و فظ  وعالى الصوت يكفي لضمان تورطنا ، و عموما فعل القراءة بذاته تورط بدرجة ما طالما نثق بوجود نظير أو مقابل لمعنى ما نقرأ عنه بصياغات مختلفة لكنه موجود خارج عالم القصة أو الفيلم أو القصيدة. الضئيل رمز لأسطورة خسرناها ، لثنائية جدلية بداخلنا لم نحسمها فكان لا بد أن تضيع فقط لأنها واجهت عجزنا و شرورنا ومكبوتات حتى أكثرنا خيرًا .

فى تلك القصة عن البطل الضئيل الذى بلا صوت ولا أفعال سوى الإيماء بأسطوريته الطيبة ، المُجهّل من الاسم و الحيثية الاجتماعية ، لا يمتلك هذا البطل سوى ما يخبرنا به القص عن نظره الحاد الذى يمكنه من رؤية خاتم سقط من أيدى لصوص اقتحموا العمارة بينما يرى الخاتم فى الشارع و هو واقف على السطح .. نحن أمام خير مطلق بقدرات استثنائية لكنها لا تحميه ( كالأنبياء بمعجزاتهم .. المسيح كمثال ) وهذا الخير لا بد له أن يموت كى نستمر نحن فى الحياة بدون أى سبب سوى كونه خيرًا لهذا يستجيب الحمام ويتجمع فوق رأسه فى الليل حين يدعوه كى يلمه فى دوائر نازلة على رأسه .. فهذه أمارات الأنبياء الصامتة التى جعلت بعضهم – مع الحكماء و الفلاسفة – يتقبلون الموت و يشربونه لو كان سما ، يحتضنونه لو كان صَلْبا . نعم لغة السرد هنا خلقت بداخلنا رعبا و صدمة متوازيين ما ذكرنى بأستاذ الإرعاب الغربى القاص إدجار آلان ﭙـو مع أن الرعب فى القصة ذاتها بل و كل المجموعة لا يمكن مقارنته برعب ﭙـو . رعب أحمد سمير سعد تغلب عليه أشياء أخرى تجعله نديا طريا ( و بالحتم أقل سوداوية فى بقية القصص ) مضفورا مع أساليب أخرى لكتاب آخرين فمثلا يمكن العثور على لمحات من فولكنر ( فى القصة الأولى بالمجموعة ) و لكن باعتماد القاص المصرى هنا لبوليفونية منزوعة الأسماء فى أكثر النصوص . فقط هنا لم نقرأ – أو لم أقرأ أنا شخصيا على الأقل – فى حركة الضئيل الأخيرة نذيرًا نبهنى بما يكفى لنهايته المأساوية المحتملة أو الوشيكة .

يفرض هذا على القارئ عبئًا نفسيًا مضافًا لأجواء تتجاوز الغرائبية المخلّقة من أوصاف و سياق ” أحداث ” سابقة بادية الهشاشة و العادية ، هو عبء المسافة النفسية المشحونة بتوتر الوصف و تصاعد المسار السردى الممتلئ أصلا بحالة Distanciation أى التغريب بمعنى خلق المسافة بيننا و بين عناصر المشهد المتفتح أمام أعيننا. و قد كان فرويد يرى أن الغرابة المقلِقة تولد حينما تزول أو تنمحى الحدود ما بين الاستيهام و الواقع .

القصة التالية فى المجموعة بعنوان ” للصمت لون ضوء أبيض ” عن علاقة بين شيخ أعمى و شاب أصم و أبكم تعاكس تماما حالة و أجواء القصة الأولى فلا استهداف هنا لتحفيز قلقنا و مخاوفنا و ثمة اسم لشخص ما . أحمد سمير سعد يريد ملاعبتنا و ينجح فى مواضع شتى بالمجموعة .

” بين يدى الخِضر ” تقدم طرحًا جديدا للعلاقة المركبة بين الشيخ القُطب و المُريد و التابع عبر تحليل نفسى لشخصية ” جابر ” التواق إلى ان يصبح هو الشيخ و تداخل الحلم مع الواقع ليرتكب جابر جريمة قتل الأول . مرة أخرى الإيحاء بقداسة شخصية رئيسة يتم تقديمها كــ ” ولىّ ” يؤمن الناس بقدراتها الخارقة فى التواصل مع الأنبياء لا بد و أن ينتهى إلى قتل فنرى السرد يسوق نذيرًا مسبَقا بمصير الشيخ يُنبئه هو نفسه بما قد يحدث لكنه مثلنا مثقل ببشرية تعيق عملية التفسير و تتعامى عن مدلولات الرسائل و شفرات الأحلام لو مست عصبا حيويا فى لا وعينا : موتنا نحن . الطريف أن النهاية تفتح تأويلات قد يكون من بينها ( هل أبالغ و أشطح هنا ؟ لا أعرف ) تشابه استحقاق القاتل و القتيل ( هل يجعل هذا القطب مشعوذا أم ماذا ؟ ) فى عالم آخر لما قدمه السرد وصفيا لملامح ما يراه كل منهما لدى عمية الانتقال من العالم المادى إلى آخرة ينتظر فيها النبى الخِضر . قد أكون أسرفت فى مد تأويلات النهاية لكن حتى مع التوقف دون ذلك التأويل يظل وصف النهاية موحيا بما قلته ، مُحيِّرا بتشابه مكان التقاء الشيخ العارف ( القتيل ) مع المكان الموصوف الذى انتقل إليه ( نحدس بعد هجوم الأتباع و رؤيتهم للقاتل ) المُريد القاتل .

” النخلة .. محترِقة ” قصة بسيطة تعتمد طريقة التكرار فى البداية و النهاية مما يسمها عندى بكثير من الشعرية رغم فكرتها القائمة أيضا على تداخل الحقيقى  والخرافى أو غير الحقيقى وهو التداخل الهادف إلى التشكيك فى علاقتنا بالأشياء ، هدم عالم العلامات و من ثم دفعنا إلى ما يريد السارد زعزعته بداخلنا و فيما تتناوب القصص بين ضمير الغائب و ضمير المتكلم تأتى قصة ” الحلم الذى لم يفسره يوسف ” كتماهٍ للأنا المتكلِمة مع شخصية النبى المسمى باسمه فى العنوان و هو تماهٍ تكرر بين تلك الأنا و نفس النبى فى القصة الأخيرة المعنونة ” من حكاوى المزيّن ” بينما الأحلام التى ترد بكثرة فى القص الفانتازى تظهر بصور مختلفة فى القصص فأحيانا كانت ضد مصلحة النص و خياله .

 فى ” رحلة ” تكثيف أو حتى ذروة حدّية لعالم الواقع و عالم الغيبيات والما وراء  ، تتماس فيها العلاقة بين الإنس و الجن لتمخر عباب عالمين .. ما نحياه  و الميتافيزيقا المستندة على الكثير من التراث المعرفى القرآنى و لدينا فى المجموعة ككل وفرة فى موتيفات مرتبطة بالفانتازى و الغرائبى و العجيب أو العجائبى .. لدينا موتيفة القرين و الجنى و موتيفة الحلم و موتيفة النداهة و الحورية و موتيفة اللعنة و السحر و هكذا .

أما ” حَسَنة كبيرة أعلى الفخذ ” فحكاية خرافية أشبه بما يوصف بـ fairytale أو حكاية خيالية على غرار حكايات الأطفال المرعبة المنتمية إلى ذاكرة طفولتنا والتى تحوى معنى أخلاقيا ضمن غطاء التخويف . هنا الفكرة هى مقاومة الظلم لكنها تغادر قصص طفولتنا حين تصل لنهايتها – بعد الحياة الكارتونية الملامح التى خلّقها الكاتب – و ذلك حين سمح لها السرد بهزيمة الخير و قد رأيتها تحيل برمزيتها السياسية إلى واقع كابوسى مثيل لا يُنتظَر تغيير ملامحه إلا بتغير شروط عدة ربما تراها الأنا الساردة مستحيلة التحقق لعصور. و فى نفس الوقت يجب تسجيل أن القصة بدت لى خليطًا من صور أفلام هوليودية مثل قصة ” الجميلة و الوَحْش ” ، لكنه قدم فكرة هزيمة الإرادة برمزية شديدة المباشرة فى تقديرى ولعل إشكاليتها ناتجة عن حيرة الكاتب هنا بين نزوعه للترميز السياسى و ميله إلى التجريب الفانتازى.

ومن عناصر السرد الفانتازى عند أحمد سمير سعد امتساخات الإنسان بمعنى تحول و تغير حجم الإنسان أو شخصية بعينها لتصبح ذات طاقة و قدرات مُدمِرة كما نجد فى قصة ” حَسَنة كبيرة أعلى الفخذ ” كما قد يكون ذلك الامتساخ معادلا لحالة ” تَكشُّف ” الشكل الأصلى لحورية ما حين ينظر البطل فى قصة ما على ما نبهته الحورية إلى عدم الاستدارة لرؤيته فيرى امرأة شديدة القبح ثم تعود إلى الهيئة الفاتنة مرة أخرى أمام البطل لتوقع به عقوبة استثنائية القسوة و الغرابة طالما خَرَق الناموس و نظر إلى المنهىّ عنه .. بهكذا نهْل من التراث الشعبى تسوق قصة ” الندّاهة ” حيلها لتمرير الحالة المهدِدة الزاجرة المعاقِبة التى يتوقف نجاح إرعابها على تهديمها لعالم المنطق العادل حيث تغدو السببية الوحيدة الفاعلة هى سببية رد الفعل الباطش المؤذى من كائنات سفلية مقتدرِة ما وراء الطبيعة .

 و بما أن الزمن يمثل أكثر ثيمات السرد الفانتازى إثارة و لعبًا نجد السارد يستخدمه لكن بدرجات متفاوتة الإيماء و النجاح حتى و هو بطل ( أى الزمن ) شبه مطلق فى غير قصة مثل قصة ” بين يدىّ الخِضر ” و ” رحلة ” . فقط ملحوظتى بعد قراءة متكررة للمجموعة هى أن التركيب العام لمخيالها بدا مثقلا بالإرث الدينى و ما بدت عديد من الشخصيات و حتى الأنا الساردة أوقاتا تعتنقه كأنما يمثل شهادة ضمان على الدين الرسمى فى مواجهة الدين الشعبى بتمظهراته الشائعة فى الوعى الجمعى رغم أن القاص يجيد توظيف ما نسميه بالدين الشعبى و يتقن مثلا استخدام العامية المصرية بسلاسة نصية لتحقيق ” واقعية ” بل و فظاظة المشاهد التى يسوقها من الواقع بحوارات شخوصه وقد برز هذا هنا فى المجموعة القصصية كما لاحظته فى روايته الصادرة مؤخرا ” سِفْر الأراجوز” والتى يمكن أن أقول إنى أحببت مجموعته القصصية أكثر منها . 

كيف يكون تركيب الخيال القصصى فى أغلب القصص مُثقَلا بالإرث الدينى أو بالأحرى متى أستشعر أن النصوص تقترب من أن تنوء تحت هذا الحِمل ؟ .

يحدث حين أخرج من القراءة لمجمل العمل بشعور عام أن سقف هذا الخيال يحتاج أن يرتفع كثيرا حتى ” يوحى ” لى على الأقل بالاختفاء . و يحدث حين يتم الاستدلال بشخص الأب كمرجعية لـ ” المعلومة الدينية ” ( بشأن القرين و القرينة فى العالم السفلى مثلا ) منذ حكايا الطفولة فى إحدى القصص لأن السياق والطريقة التى يتم بها إيراد مفردات الجان و القرين وغيرها كان يجعلها تبدو ليس كحقائق داخل بنية فانتازية و عالم ميتافيزيقى عقدنا اتفاقا مع الكاتب على تصديقه إبداعيا بل تبدو أحيانا كما لو أنها تمثل – لدى الكاتب – حقيقة ما خارج النص.  

 فى تكرار حضور الجن فى القصص كنت أولا أنتظر كقارئة شيئا مفعمًا و أكثر غرائبية . النقطة الثانية عدا كون بعض معالجاته – أحيانا – كانت لا تروى ظمأى لجرعة إدهاش أكبر رغم وجود بذرة خيال جيدة هى مُخالَفة و مناوءة مرجعيات بعض القراء و معتقداتهم المختلفة عن معتقدات صوت السارد والأنا المتكلِمة بما قد يجعل عملية القراءة مُصابة بمعنى أنى قد أتحفز لمواجهة النص متى أحسست أنه يحيد عن الاتفاق المعقود بينى و بين كاتبه ، و هى الحيدة التى تشعرنى بأن ثمة ما يراوغ كحسٍ دينى لم ينجح الكاتب تماما فى قمعه لصالح الاتفاق الذى عقدناه و ارتضاه كلانا ، ذلك الاتفاق الذى يضمن له الهيمنة النفسية و العقلية الكاملة على القارئ بموجب صوره و لغته و خيال قصه فحسب . والمعروف أن طموح كل كاتب هو بلوغ تلك النقطة حيث يصبح قراؤه كالمريدين الخُلّص ، يصدقونه .. أى يصدقون العالم الذى أجهد نفسه فى بنائه.

كما قلنا ذلك العالم فى بعض القصص كان يتم تقديمه بصورة تسحب أوقاتا من بناء الرعب الذى يحاول الكاتب تشييده فنحن نعلم أن الأب و الأم هما مصدر منظومة المُطلَقَات للأبناء التى تتآكل بفعل الزمن مع تقدم العمر و الخبرة اللاحقة لكنها فى سنين التكوين الأولى لا يعادلها أو يزاحمها أى أحد بأية منظومة قيمية أخرى . تظل تحتكر منفردة تقريبا وجداننا الطفولى المستقبِل لها بلا مناقشة لسنوات فكل من الأب و الأم مصدر أمان و صدقية كاملة من أطفالهما. بالتالى كان يمكن لهذا أن يكون مقبولا لو تم تقديمه فى سياق جعل شخصية البطل فى بعض القصص – التى تذكر فكرة يتم تقديمها كمعلومة دينية محقَقة – شخصية طفل أما غير ذلك فأرى أن النص كان ينتهك نفسه كما يبدو ممارِسا لوصاية عدا الوصاية النفسية والجمالية التى سلمنا له بها داخل أقنوم الفانتازيا.. وصاية بها شبهة انحياز دينى تسوق تفسيرا محددا لشىء قد أراه أو يراه غيرى غير حقيقى على أفضل الفروض و أكثرها تسامحًا بينما النص يعتمدها كمعلومة لا يشعر أن من حقه الاجتراء عليها و التحرش بها ، مساءلتها إبداعيا ولو بمداعبة طفيفة السخرية أو غامضة التمرد، إنما يوظفها باحتراز مغالى فيه و ربما ببعض الورع. الحدود ” القيمية ” بدت لى أحيانا واضحة حتى داخل عالم يُفتَرَض أنه خرافى .. ميتافيزيقى و ليس شعريا مثلا. لفت نظرى هذا خاصة و أنه حين يقدم معلومة مثل ” القرين ” الذى حكى الوالد عنه للأنا الساردة فى الطفولة بتفاصيل و حيثيات ربما يكون الكاتب رفدها بقراءات لاحقة .. لا تُذكَر كمعلومة قديمة تجاوزها وعى السارد أو الأنا المتكلمة  بل- كما أسلفنا –  كمعلومة ذات جذر و مصدر قديم من الأب ، لذا تبدو منطوية على وصاية مضاعفة .. الأولى من الأب على لا وعى الأنا المتكلمِة  فى زمان قديم و الثانية من الأنا المتكلمة على القارئ الذى هو أنا أثناء فعل القراءة.

 ولا أريد هنا التطرق إلى قضايا من نوع القتل الرمزى للأب الذى قد يتحراه البعض فى كل نص متاح للقراءة فأنا لا أبحث عن حالة مفتعلة مجانية لكن أتأمل بدهشة قدرات مختلفة إبداعيا فى التعاطى مع رمز السلطة الأولى – الأب – بين كتاب مختلفين كما توجد لدينا نماذج قطعت أشواطًا لا أقول فى التعاطى مع صورة الأم و مكانها العلوى المقدس بل اجترأت على أنسنتها و تقديم ارتكابات سردية بشأنها كرمز. لدينا كمثال لا الحصر طارق إمام و أحمد عبد اللطيف من بين أسماء شتى عرفت كيف تكتب عن الأم مع خلخلة الهالة حديدية القدسية أو التأليه التى تحيطها. أيضا نجح كل من إمام و عبد اللطيف فى التعبير عن حب الأب عبر عملية قتل ذكية و حتمية له من أجل الذات فى ثنايا السرد ، حيث ذلك الإدراك الرهيف لقيمة التمرد التى لا تنفصل عن قيمة الحب ، حيث البحث عن الهوية و الكينونة جزء من البحث المحموم عن الأصل.. و حيث يتم تكشف أن الحنان الموجود فى مكان السلطة – سلطة الأب – هو كنز لا بد من مواجهته و تحديه لمواجهة مقولات و اتهامات العقوق و الكفر و نقص الخبرة أو أى شىء .. من أجل الاختيار بحسب منظومة بديلة من الأفكار والقيم والإرادات نحب أن نصدق أنها تخصنا بلا مؤثرات مسبقة ، فقط لا بد من عبور قنطرة ذلك الحنان و تجاهله حد القسوة عليه لمعرفة الذات. ربما وعى التمرد ذاته يستلزم نقطة هامة : أنك لا يمكن أن تحب حقا من تخشاه وللخلاص من الشعور بالذنب حيال تلك المفارقة لا بد من مخرج . يأتى المخرج فى صورة وحيدة لا مناص منها .. الإدراك أنك لكى تستمر فى الحب أو لتستطيع مبادلته من موقع الابن أو الابنة لا بد من مواجهته ، لا بُد من فعل التصدى أولا لحجم ذلك الحنان .. ولو كان مفقودا أى حتى لو كنا نبحث عنه فى إرثنا الماضى و فى علاقتنا بالأب لأن الكتابة الحرة هى التى لا ترضى بسجون المشاعر فما بالنا بسجون الأفكار ؟. ثم أننا لا ندرك أن ذلك الحنان لا يغادرنا.. يعود إلينا بصورة محتومة بعد موت الأب فعليا أى فيزيقيا .. يعود ليبقى .. لكن بعد أن نكون دفعنا ثمن التمرد عليه كطقس عبور للروح .

    

لنعد إلى مجموعة  أحمد سمير. ثمة منطقة أخرى فى قصة ” رحلة ” كذلك تمتاح من المنظومة الفكرية الإسلامية و يجدر الإشارة إلى القصة المذكورة بوصفها تقوم على الفكرة المركزية فى إحدى آيات القرآن التى تصف النجوم كرجوم للشياطين و الجن حين يحاول هؤلاء الصعود إلى السماء الأولى أو الاقتراب منها لاستراق السمع على ما يحدث من مشيئة إلهية أو معرفة معلومات تخص الحياة و الآخرة . إذن ارتياح السارد فى غير قصة مع التفاسير القرآنية ( وهذا كثير أو غالب على أكثر القصص ) لم يقدم لى جديدا كقارئة بينما قد يمثل الأمر نقطة تُحسَب للخيال عند القارئ الذى ينتمى إلى ثقافة مسيحية مثلا لكنها بدت لى كنقطة استرخاء خيالى حبست احتمالات تطور فانتازيا نصه ذاك ( قصة ” رحلة ” و قصة ” الحلم الذى لم يفسره يوسف ” على سبيل المثال ) لأنى حين أدخل عالمًا فانتازيًا يشيده كاتب ما فآخر ما أريده هو وضوح درجة معتقداته الخاصة أو استشعارى لمحاذرته من أن يناقش جديتها بخياله ، أو معاينة لحظة تشكك فيها بانجذاب تجريبى و شغف متهوس بالمجازفة. حين يعيدنى أو ينزل بى فجأة من عالم غير واقعى إلى الواقع فأنا بالحتم أنتظر أن يكون ذلك عبر خيال سرده و طاقته التعبيرية وحدها ولعل هذا ما جعل قصة البداية هنا و أقصد ” الضئيل صاحب غيّة الحمام ” تبرز أكثر بوصفها أنموذجا ناجحًا على رهافة الإيماء و نضج السرد بما تملكه من نَفَس فانتازى ساحر . فهل سبب ذلك أنها من الاستثناءات شبه النادرة التى لم يُنهكها الكاتب بأية دوال أو معطيات دينية ؟ .

طبعا لا تبلغ أية قصة فى المجموعة بمحكياتها منطقة الخطر حيث يغيب أثر الانسجام الداخلى تماما للفانتازيا المُشَيَّدة بمعنى أنى لم أجد قصة تصل إلى درجة جعلت التفسير لما هو فوق طبيعى فى سياق الدينى قد أحال الصورة و السرد معها إلى نوع من الحيل اللغوية فقط .. لم يحدث هذا و هو أمر جيد ينبغى أن يكون مرضيا للكاتب لكنى أدعوه إلى عدم الاستنامة إلى هذا و الاطمئنان إلى ابتعاد لغته عن المنطقة التى قد تهدد خيال مسروداته. بالعكس أنا أريد منه الانتباه إلى أدواته و عدم شحن قصصه بما قد يهددها داخليا من أجل أية قيمة عدا القيمة الجمالية ، و النقطة الأهم التى أدعوه للالتفات إليها بل عدم نسيانها هى أن جهد التفسير الداخلى فى أى نص و خاصة فى النصوص و القصص الفانتازية ليست بالمطلب الجمالى الذى ينتظره القارئ من الكاتب و لا السارد داخل القص و تأثير مثل هذا الجهد عادة ما يكون مُشوِشًا على الخطاب الفانتازى و مجمل العالم الذى يُجهِد نفسه فى تشييده عدا أن الطريقة التى تناول بها تفاصيل الدينى فى بعض القصص كانت تبدو كنوع من ” مَنطَقَة ” الخارق كاحتمالية للحل لكن الحل أولا ليس مرغوبا دائما فى البناء الدرامى و أثق أنه كقاص يعلم هذا بمحض موهبته كما أن الحل المقدم كـ ” حقيقة ” صامتة بتلوينات من المُعتقَد – ها نحن نكررها – لا يخدم القص الموشى بالتجريب .

طبعا لا ينكر أحد القيمة الخيالية الكبرى لحكايات القصص الدينى حين يتم توظيفها فى الأدب . عندنا فى مصر نماذج باذخة لمزاوجة الثقافة الدينية بالخوارق الواقعة أو المندرجة ضمن الواقعية السحرية و ما بعدها من فانتازيا شبه خالصة كما فى بعض روايات الروائى المصرى الشاب طارق إمام و أقصد إمام هنا بصورة خاصة لأن الفانتازيا فى بعض أعمال غيره – مثل الروائية منصورة عز الدين تحديدا فى روايتها الأخيرة  ” جبل الزمرد ” – لا تمتاح من المعين الدينى فيما إمام يعرف ماذا يفعل بالضبط مع حمولة الثقافة الشعبية و التراث الدينى فى عملية السرد و أضرب مثالا واحدا برواية ” ضريح أبى ” .

 ” الخير يقرر – أخيرا – أن يربح ” قصة فى مجموعة  أحمد سمير تأتى برمزية عالية تحاكى الأمثولة فى تصورها الخيالى للعلاقة بين الخير و الشر ومقدمة تعليلا لسيادة و تفشى الشر فى العالم عبر انتهازية الخير الذى لم يُرِد سوى تعميم نفسه فتخلى عن كونه خيرا. بها جذر دينى الخيال يسوقه لنا الكاتب عبر فكرة القربان المقبول و الآخر المرفوض بحسب قلب صاحب القربان أو ” التقدِمة ” على غرار الموصوف عن القربان فى حكاية هابيل و قابيل الواردة فى القرآن و العهد القديم . بالقصة ليونة سردية كما رأيتها توظيفا ذكيا يوضح العلاقة الجدلية بين الخير و الشر و بها محاكمة غير منطوقة يستحقها الخير لحظة تخليه عن نفسه و محاولته منافسة الشر بطرائق الأخير .

هناك نقطة أخرى فى سرد أحمد سمير سعد و هى عنصر التقطيع و التناوب كتقنية سردية نلحظها فى أعمال كثيرين أيضا و هو قد لا يكون مطالبا بها بصرامة فى القصص القصيرة مثلما باتت أقرب إلى القانون فى أعمال عديد من الروائيين و الروائيات فى السرد الحديث.

قيمة التقطيع و التناوب تعظم أكثر فى نوع السرد الذى تقوم عليه أغلب قصص هذه المجموعة فقطع الحكى و الوصف للاتجاه فجأة إلى سرد شىء آخر أو تضمين السرد لعناصر انتظار و صدمة و الانحراف بالسرد إلى مناطق داعمة لإيحاءاته و الاعتماد على تصوير مشهد مختلف يبزغ فجأة أو بالاستذكار ( أى الإتكاء على معطيات كرونولوجية ) أو تغيير و تناوب أكثر من سارد على سرد نفس الشىء كلها تسهم فى خدمة القص و إحداث التشويق والغرابة ، كما رأينا التقطيع فى أكثر من قصة مثل قصة ” الضئيل صاحب غيّة الحمام ” و ” بين يدىّ الخِضر ” و ” لعبة الحياة ” لكنه فى الأولى و الثانية أنضج قليلا منه فى القصة الثالثة ( التى تأتى قرب نهاية المجموعة ) رغم أنه يحتاج بعض الوقت كى ” يختمر ” كتقنية لدى أحمد سمير.

هناك من أنجزوا جل روائعهم الروائية بالاعتماد على التقطيع و التناوب طبعا : إيطالو كالـﭬينو، جارثيا ماركيز، إليف شافاق، دوريس ليسينج ، أورهان ﭙـاموق ، جون بيرﭼر وغيرهم طابور طويل من المبدعين ) و لدينا فى مصر من برع فى هذا. على سبيل المثال لا الحصر : طارق إمام و منصورة عز الدين و غادة الحلوانى .

بالنسبة للحلوانى أرى الأمر يستحق انحرافا و تعليقا هنا.

 يتميز قصها بالكثير من الغرائبى و الخرافى المقُطَّر بالقسوة ضمن أجواء قوطية لا يخطئها القارئ الواعى و الذى تشركه الحلوانى فى عملية استجلاب / اكتشاف المعنى و تشجعه – بديمقراطية – على طرح معنى بديل وهذه دلالة طموح عاتٍ .. هى تريد خلق قارئ ” جديد ” ليس كرقم مضاف بل بطريقة قراءته و تعاطيه للنص رافضة بحزم توصيف نفسها بـ ” روائية ” تلك الصفة التى يتعجلها و يستسهلها كثيرون و كثيرات. و فى أعمالها تقدم تحديا لنفسها فى علاقتها بالقارئ إذ يغامر تجريبها ليس فقط بحجم المقروئية التى تستحقها بل بمسألة أعمق لعلها تتصل بأمنية كشف القارئ لنفسه أو تغامر حتى بالقارئ التجريبى الذى قد تحلم عبر طريقة سردها بتحويله إلى قارئ نموذجى .. و يبقى السؤال : ” ما هو القارئ النموذجى “؟ .. هل يمكن أن يوجد خارج الافتراض ؟ .. خارج الحلم الذى يُحفز الكتابة على انفجارات ممتعِة متجددة غير مكترثة ؟ . ثم .. ألا ينطوى مصطلح القارئ النموذجى بدوره على افتراض وجود ما لكاتب نموذجى ؟ .. لكن لماذا تبدو الكلمة الثانية منى ..” الكاتب النموذجى ” هنا أقرب لمنشور حزبى أو إلى لغة رقابية أو دوجماتية مرعِبة ؟!.

نعود إلى الأسماء التى ذكرتها.. إمام و عز الدين و الحلوانى وهم ليسوا استثناءا فى النقطة التى سأشير إليها لكنهم من أبرز الأمثلة . تكشف عوالمهم السردية عن حِرَفيْة التنقل بين الأزمنة بل و القدرة على تخليق زمان أو تقويم فانتازى داخل السرد يعمل بقصدية على إرباك كل الأزمنة عبر سرعة تنقل بين الماضى و الحاضر والمستقبل و حشد داخليتهم بالخوارق على نحو مُحكم إن كان على مستوى بنية النص أو خياله . هذا ” التحكم ” أو الإحكام أتاح حرية استخدام لغة قد تجترئ على الاقتراب من منطقة الشعر لدى بعضهم فى أحايين نادرة لكنها شفيفة وهامة مع الوعى المستمر والصارم بعدم الوقع فى أسره كما نلمس عند إمام تحديدا فى غير عمل منذ بداياته خاصة مع إدراكه أن الشعرى يمكن أن يشكل خطورة على السردى أو الحكى و لكونه يشاطر تزﭬـيتان تودوروﭪ قناعته عن الفانتازى كتخليق لتردد تتعذر أية قراءة شعرية أو مجازية له كما يورد الناقد شعيب حليفى .

والحال أن كثير من قصص مجموعة ” الضئيل صاحب غيّة الحمام ” كان السارد أو حتى الأنا المتكلِمة فيه يدفعان إلى القارئ بتفسيرات حُلمية (من الأحلام) بوعي قبل اكتمال القصة و هو ما كان يهز موحيات الفانتازيا أثناء تشكلها . و من ناحية أخرى كان يمكن لتوظيف كرونوتوب الكابوس أن يتكشف عن فاعلية أكبر فى بعض القصص ( قصة  ” بين يدى الخِضْر ” مثلا ) لا أن يأتى بصورة عابرة أو يتم تقليل النزوع إلى التفسير بواسطة الحلم ضمانا لمُتَخيَل فانتازى أكثر تأثيرًا و تماسكًا يتجاوز حتى الخرافة الشعبية بدلا من الإتكاء شبه الكلى عليها و على التراث الدينى دونما معارضة عميقة له أو انفساح فضاءات أكبر، فيما يتجلى نجاح القاص بصورة خاصة فى القصص التى قدم فيها ” تفسيرا ” غير واضح المعالم و ثمة قصص عدة تنتهى إلى تفسيرات مفتوحة باحتمالات متعددة بفضل لغتها و خيالها مكتفية بالإيماء إلى ختام أو قدرية ما وإن كابوسية ، ثم هناك تلك القصص عنده حيث القارئ يظل يتعامل مع معنى مُعلّق أصلا بدون إيماءة تدعم إتجاه المعنى ، أى يتركه فى صحراء شبه خالية من المعنى بسبب بلاغة اللغة و الصورة و طريقة السرد و قد رأيت هذا أفضل من اقتياد خيالى من يده إلى أية عتبة. أحيانا كانت لغته سردية واصفة مستفيضة و أحيانا كانت أقرب للشعرى لاهثة تلغرافية السمت.

 أنا مع الخيال الإرعابى سأخاف .. لكن مع الخيال الشعرى والصور المجازية سأستمتع . هذا لا يقترب من ثنائية التوتر- الانفراج / الإنبساط التى يقوم عليها المحكى الفانتازى بل يُخرِج القارئ إلى فضاء الإيهام الشعرى الذى يحقق جمالياته بإطراد المبالغة ، و نفخ الواقع ضمن صيغ أخرى. و لقد استطاع القاص أن يحتشد بجماليات تتوفر على الفانتازيا المشبعة بجذور دينية الإيحاء و الملامح مع أن السرد لو تحرر من التعامل معها كدوال و ثوابت مقدسة سيمكن لها أن تساعد نصوصه على مزيد من الإنطلاق و التنفس.

بقى أن نشكر أحمد سمير سعد على ” الضئيل صاحب غيّة الحمام ” فهى عمل يقول بأن تطوير أدوات الكتابة عملية لا تقل خطورة عن امتلاكها أصلا و القاص أحمد سمير يمتلك هذه الأدوات و هذا أمر يدعو للتفاؤل .

_____________________________________________ 

مقالات من نفس القسم