شمس العزلة المخيفة
أنا مهتمٌ باللغةِ لأنها إما تجرحني، أو تغويني.
رولان بارت.
في "تسكب جمالها دون طائل" تبدو غادة خليفة منشغلة بثنائيات ومقابلات أو ما يشبه التركيبات متنافرة الحدود المستفيدة بالسريالية وخيالاتها الفائرة، فبينما "ترصد الدفء المتسلل من الذاكرة حين يصطدم بالضياع"، كما تقول في افتتاحية الديوان فإن هناك نزوع دائم شرّعته الذات المتفرقة إلى صور، نحو الاتجاه العكسي، ناحية الألم. وكأنما عن إرادة تبدو مكتملة. ويبدو الديوان كأنه محاولة للوصول إلى تلك اللحظة عبر امتحان ما، نحو عزلة أسمى تصيب فيها غادة و تخطئ متدرجة في الصعود عبر اختبارات عديدة لكي تصل إلى :
" شمس العزلة المخيفة
أريد أن أواجه عزلتي"
وقد تدور الروح بإبرة بوصلة ناحية الأقطاب المؤلمة للعالم وهو الحتمي في علاقة الشاعرة بالعالم.
"أفرغ قدمي من الطريق
وأقص أصابعي
أسقط من الطابق العاشر."
وهناك اعتراف دائم بالألم كجزء طبيعي من الجسد كعضو أو كحاسة من حواس الشاعرة
" أقف ساعة كاملة أمام المرآة
لأتأكد من اختفاء الألم."
في "تسكب جمالها دون طائل" ثمة اعتناء خاص باللغة الأنثوية الأنيقة، التي تكاد حين تقرأها مطبوعة أن ترى خط يد غادة خليفة، وهي لغة مصكوكة باسمها تتجلى على عملاتها اللامعة صورة نصفية لوجه غادة مع عدة غربان.
ولا نغفل الاعتناء بالمحو الذي أعرف جيدا أن غادة تتقنه، لكنك تستطيع أن ترى الاختلاجات الأثيرة للمحي تملأ المقاطع المحذوفة بدقة مقص خياطة.
"جسدي
ذلك الغريب عني
يعرفك
جسدي يقرأ تفاصيلك
........
ويصرخ."
لا بد أن العالم مكان موحش ويبدو أن غادة خليفة تقوم باستحضار الأشياء بالصلوات لتجب أرواحهم لتآنس عزلتها، وما يحضر في الحقيقة هو أشباحهم لتحيط بها من كل صوب عبر الديوان، أشباح الجمال، والروح، والحبيب، والهواء المحترق، وبستان الضياع اليانع، والعفاريت، وحجرة فئران الذاكرة.
وفي ذلك العالم الموحش نحن تائهون تماما، ولا نعرف ما يمكن أن يعني أي شيء ومن بين مفاصله فإن هذا العالم يلوّح لنا بأنفسنا المبتغاة من وراء غلالة غائمة من الأنماط والأنساق المحيطة بنا والخيال آفة العاشق والعالم ليس إلا طبقات متعددة من ذلك الخيال والكون يتآمر ضدنا بأريحية.
" أزن العالم بمشاعري
وهو يحول مشاعره إلى مجموعة معادلات."
في قصيدة خذلان يبدو هذا الانخداع البريء بالعلامات، ودائما ما تفتت الفرص وتتركنا لنواجه ضياعا مشتتا النفس إلى كل شيء وهو ضياع من الثقل لدرجة أنه قد يمتد ليمحو ذاكرة وجودنا كله وهو ما يشي بسوء تفاهم مستمر بيننا وبين العالم، تبدو خطواتنا فيه منجرفة عن إرادة أو أن الإرادة نفسها متواطئة في طريق خاطئة.
"قال: أنا أقرأ أفكارك.
قالت: ستضيعني في كل الأحوال"
وكل ما نتزود به لتلك الرحلة يبدو بلا فائدة تماما
"أيها الوضوح الشافي
لا تتركني طويلا بجوار بحر مزيف."
وهنا تحديدا تبدأ ثمة الامتحان
"أمشي على زجاج حياتي المسكر
بقدمين ضيقتين."
"زوجوني إلى فرس النهر
لا تتركوا صراصير الوساوس تنبش ذاكرتي
قيدوا مخالبي التي تنغرس بلحمي."
هنا تبدو آفاق الامتحان الصعب الذي قد يودي بالعقل في مواجهة صارمة مع الذاكرة.
وأحيانا ما يبدو الألم الرصين المتناثر في الديوان أقدم من مسبباته التي ليست إلا مرايا عاكسة للذات الألم : أنا هي ألم.
"قط أزرق يلعق الألم"
وعبر تلك المرآة المؤلمة يتم الارتحال قدما عبر فصول الامتحان في مرايا الذات و الذاكرة و الأشياء.
"لا أريد ذكريات أكثر"
وهو ما يشبه إعلانها الأولي بتفريغ الدفء من الذاكرة وتفريغ القدمين من الطريق، وعبر تلك الفصول تحدث الإخفاقات وهناك استراتيجيات عديدة للدوران حول تلك الإخفاقات أو تفاديها، وإحدى تلك الاستراتيجيات هي تفادي الأحلام التي تتحول فيها عملية التفادي نفسها إلى حلم.
" أريد أن أفكك خيوط السقف
كي أتلصص على الجيران
سأصنع سقفا آخر يسمح بصعود الأحلام"
وببطء تبدأ في الظهور والتراكم امرأة جديدة من ويلات الامتحان الصعب؟
"أنظر إليك فأرى انعكاسا لأجمل امرأة في العالم."
لكن الألم المتماهي مع الذات أقوى "الوهم يتوحش داخلي"
والامتحان يأخذ بكل الروح بينما تلوح النهاية.
"النفق مظلم جدا، في نهايته يوجد جدار"
ورغم حتمية الإخفاق فنحن سنقوم بتلك الرحلة وذلك الخوض.
"المتاهة متكررة
لا مخرج لي
لا أحد ينتظرني في هذا العالم
لذلك أكتب"