شوقى عبد الحميد يحيي
لم يعد جديدا القول بأن نجيب محفوظ، هو المؤرخ الروائى للتحولات المجتمعية، منذ ثورة 1919، إلى ما بعد حرب أكتوبر 1973. وهو ما اثبتناه فى دراسات عديدة سابقة. حيث يمكن تلمس ذلك فى كل أعماله الروائية البالغة نحو ستة وثلاثين رواية، حرص فى كل منها على إختيار بؤرة متوهجة، تكون هى محور الرواية، وهو ما ينطبق على “أفراح القبة”[1]، التى حول فيها الواقع المعيش، إلى خشبة مسرح، ليقف عليه الشخصيات الفاعلة، ليعرضوا دورهم فى الحياة، وليظل الجمهور، مجرد جمهور، يتفرج، ويصفق. وليعيش القارئ غير مُدرك، هل ما يقرأه، هو الحقيقة، أم أنه خيال مؤلف. حيث يصبح الواقع أكثر خيالا من تصور المؤلف. مستعينا فيها
بتقنية “رواية الأصوات” والتى تترك لكل شخصية أن تتحدث عن نفس الواقعة أو الموقف، من وجهة نظره. وهو الأمر الذى يُثبت الزمن بما ينتهى عند بداية عرض المسرحية {ليلة الافتتاح 10 أكتوبر}. كما أن لجوء “كرم” إلى الأفيون –كنوع من التغييب عن الواقع، يعيد للذاكرة “ثرثرة فوق النيل” (1966) حيث كانت المخدرات هى وسيلة الهروب من الواقع، استخدمها محفوظ للتعبير عن فترة ما قبل يونيو 67. وكذلك “ميرامار” (1967) والتى يمكن أن نري فيها”منصور” هو نفسه “عباس” فى أفراح القبة، حيث كلاهما يحمل البغض ل”سران” فى الأولى، و”طارق” فى الثانية، باعتبارهما النموذج المرفوض، وكلهما توهم أنه قتل بالأمانى، وليس بالفعل. ليظل نفس الإحساس. وذات رؤية الكاتب (التى برزت بعد ذلك فى “أمام العرش” 1983 أيضا}، حاضرة، ولنظل نعيش فترة ما حول 67، انتهاء بالعاشر من أكتوبر، التى يمكن قراءتها على أنها 10 أكتوبر 1973، أى بعد النصر ، او أنها 10 أكتوبر 1980، أى بعد اغتيال السادات فى 6 أكتوبر من نفس العام. وإن كان الرأى –لدينا- أن التاريخ الثانى، هو المقصود، حيث تشير الرواية إلى نشأة كل من طارق رمضان – الممثل الضائع، أو الذى يمكن تسميته باللامنتمى ، وسرحان الهلالى مدير المسرح، الشغوف بالنساء، وكأنه نوع من التعويض أو الانتقام، حيث يروى طارق رمضان- كما سنرى فيما بعد- الأمر الذى يشير إلى أن الفترة الناصرية كانت سببا أصيلا فيما وصلا إليه من تدهور وإنحدار. فضلا عن قول “سرحان الهلالى” فى موضع القمار والخمر ببيت “كرم” قبيل اللعب، قولة عبد الناصر، والتى تحولت إلى شعار الفترة {لا صوت يعلو على صوت المعركة}.
يضاف إلى ذلك إشارة “طارق رمضان” إلى موت حبيبته “”تحية” والتى أثر موتها فى نفسه تأثيرا بعيدا{ ارجع الموت ذكريات الحب والهزيمة}. إلى جانب –أيضا- قولة “درية” بطلة العرض المسرحى :{كان يجب أن يقودنا النصر إلى حياة أيسر. فقال بسخرية –طارق رمضان- لا يحيا حياة يسيرة إلا المنحرفون ، لقد بات البلد ماخورا كبيرا، لِما كبست الشرطة على بيت كرم يونس وهو يمارس الحياة كما تمارسها الدولة؟!. قالت درية: نحن فى زمن القومية الجنسية}.
فما كان الحديث عن الجنس والانحراف والمخدر، إلا ليعود بنا إلى ما قبل 1967، بما قدمه محفوظ فى “ثرثرة فوق النيل” (1966) قبيل النكسة، وما قدمه فى “ميرامار” بعدها، إلى رؤية كلية نستطيع تلمسها فى رؤية الكاتب.
الشخصيات
يمكن تقسيم شخصيات العمل إلى ثلاث مجموعات، تكشف عن الصراع القائم بين طيات المجتمع، وتخلق المقابلة بين الأفكار والرؤى، التى سادت تلك الفترة:
المجموعة المغدورة، أو اللامنتمية ، وهى تلك التى تلقت ضربة أو ضربات من الخارج، اطاحت باستقرارها النفسى، وجعلت منها لامنتمية، شخصية غير سوية، ويمثلها: طارق رمضان، سرحان الهلالى، كرم يونس
المجموعة المخطوفة، وهى التى أُنتُزعت من طبيعتها النقية، رغم ظروف النشأة، ونجحت المجموعة الأولى فى تلويثها، ويمثلها: تحية وحليمة.
المجموعة الحالمة، وهى التى عاش أفرادها بالمثالية المُفتقدة، وتسعها لتحويلها من الخيال إلى الواقع، بمحاربة المجموعة الأولى، ويمثلها :عباس كرم يونس و.. أم هانى.
فالمجموعة المغدورة، او المطعونة، هى تلك التى ، أصبحت أسيرة الماضى أو ضحيته. فإذا ما قرأنا “أفراح القبة” على المستوى المباشر، فسوف نلاحظ أن رسم كل تلك الشخصيات، كان منطقيا، ومبررا. حيث جاءت تصرفاتها، وإن كانت مرفوضه –إجتماعيا- إلا أنها تصرفات جاءت كرد فعل لما جناه الماضى عليها. فقد كان كل من “طارق رمضان” و “سرحان الهلالى” ضحية فترة الثورة، وفترة الستينيات، حيث تعرضا لقوانينها، من البطش بالقيادات السابقة، خاصة العسكرية منها، والتأميم، والاستيلاء على الأملاك، حيث يقول “طارق”:{ولدت بمنشية البكرى.. فلتان متجاورتين.. آل رمضان وآل الهلالى… رمضان أبى كان لواء بالسوارى من بشوات الجيش القديم.. الهلالى من ملاك الأرض… أنا البكرى، وسرحان الوحيد.. لى أخ قُنصل وأخ مستشار وأخ مهندس.. باختصار طُردنا – أنا وسرحان- من المدرسة الثانوية بلا ثمرة، ولكن بخبرة واسعة ببيوت الدعارة والحانات والمخدرات}ص33. أى ما يمكن تصور أنهما تعرضا للتشرد والضياع، وأصبح “طارق رمضان” الذى كان –بحكم النشأة- مرشح لأن يكون من صفوة القوم، إلا ان الأمر به سار ليصبح ممثلا درجة ثانية، أو ثالثة، يعيش على التنطع على النساء (أم هانى وتحية). و”سرحان الهلالى” الذى كان مرشحا ليكون أحد كبار الملاك، سار به الحال أن يُنشئ المسرح، لا من أجل المسرح والثقافة والإبداع، ولكن من أجل حب الإدارة، ولاستغلال النساء فيه. ويعبر “عباس” عن رؤية صائبة ل”طارق” فى قوله {ها أنت تعود إلى الماضى، وهو بالنسبة إلىَّ تجربة حب أما بالنسبة لك فما هو إلا محنة حقد}.
وأيضا، كان “كرم ضحية الماضى، حيث اكتشف خيانة أمه، وتلوث سمعتها، وهو طفل، فشعر الإبن بأنه المخدوع فى أمه، التى يقول عنها: { يشير إل الحجرة الملاصقة للمنظرة ويقول: – فى هذه الحجرة كانت أمى تخلو إلى الباش جاويش! . أذهل من هول المكاشفة. عباس نائم فى لفافة المهد. أقول غير مصدقة أذنى: – سكرت يا كرم.. يهز رأسه قائلا: كانت تحذرنى من مغادرة حجرتى}ص93. وبدلا من أن يصبح ابنا سويا كباقى أقرانه، أصبح يرعى الدعارة ويتعاطى الأفيون، ويفقد الإيمان بكل مقدس، فتقول “حليمة” عنه { إنه زوج لا بأس به لكنه يسخر من كل شئ. من إيمانى يسخر.. من مقدساتى وتقاليدى.. ماذا يحترم ذلك الرجل؟ ها هو يهتك أمه دون مبالاة}. وتنبثق بؤرة التحول فى حديث حليمة عنه:{ ويحدثنى عن عشق أمه الجنونى للشرطى، عن إهمالها له، كيف نشأ حرا بفضل ذلك الإهمال الداعر. ويقول بنبرة مخمورة: إنى مدين لها بكل شئ… إنه يطوقنى كشئ مرعب . إنى أعاشر قوة غير منتمية لأى قاعدة. على أى اساس أتعامل معه؟ الخيبة أقدم من الأفيون. الأفيون لم يجد روحا ليقضى عليها..}ص94. ثم ليقول هو أيضا عن نفسه، كاشفا عن شخصيته {لم أخطئ. أليس هو زمن المخدرات؟ انا رجل بلا قيود. لا أخلص إلا للغريزة، مثلى تماما أولئك الرجال ولكنه الحظ وحده} فى إشارة إلى مجموعة المسرح، والتى منها طارق وسرحان، حيث يرى “طارق” نفس الرؤية، وارتباط شخصيته ب”كرم” حيث يقول: {لا أنتمى للحياة.. أنا وكرم يونس توأمان روحيان.. يقال إنه مدين فى نشأته إلى أم عاهرة… حسن، أنا أيضا نشأت فى أسرة فكيف تفسر تماثلنا؟.. هذا يعنى أن الموهبة لا تتأثر بالبيئة! كلانا يحتقر الحياة المحترمة.. الحق أن ما يفرق بيننا وبين الآخرين هو أننا صادقون أما الآخرون فمنافقون}.
أما المجموعة الثانية أو (المخطوفة) فقد نجحت المجموعة الأولى فى اختطافها، وتلويثها، تحت وطأة الظروف الأسرية – على النحو الإنسانى، ولتلعب دورها الرمزى، على المستوى الجمعى.
“حليمة” حيث إغتصبها “سرحان الهلالى” رغما عنها، ليصنع منها تلك المدنسة، على الأقل فى نظر زوجها “كرم يونس” وابنها “عباس” بقدر ما عبرت هى عن نفسها، كاشفة عن وحشية الذئب، والضعف الإنسانى للفريسة: {متى بدأ مداعباته اللمسية؟ كان شعاع الشمس النافذ من الزجاج يغمر وجهى وثمة مزمار بلدى فى الطريق يعزف راقصا. وأدفع يده المترامية لاهثة. لا يا سعادة البيك أنا بنت شريفة. تجلجل ضحكته فى أذنى. يتلاشى احتجاجى فى صمت الحجرة المغلقة الواسعة. عاصفة من الأنفاس الحارة والتسلل الماكر تشوش إرادتى الصادقة. إنه الكابوس الذى ينقشع عن دموع لا تستدر عطفا. خارج الحجرة أحياء يذهبون ويجيئون، وتموت أمى قبل أن تعلم..}ص92.
كما أجبرها زوجها “كرم” على قبول الدنس فى بيتها(قبول تأجير حجرة من البيت ل”طارق رمضان” وتحية” وما يمكن أن يدور بينهما فى تلك الحجرة. ثم أرغمها على العمل فى خدمة سهرات القمار والشراب فى بيتها أيضا. إلا أنها ظلت رافضة لكل ذلك، ورفضت مراودة سرحان لها فى إحدى تلك السهرات. فضلا عن رفضها الداخلى لكل مظاهر الفساد سواء فى البيت أو المسرح، فتقول: {وكم أشعر بالتعاسة وأنا أنظف البيت القديم الكريه أو وأنا أعد الطعام. كيف قضى علىَّ بهذه الحياة؟ كنت جميلة ومثالا فى التقوى والأدب، الحظ .. الحظ .. منذا يدلنى على معنى الحظ؟ ولكن الله مع الصابرين}. ولذا يقول الأبن “عباس عنها { إذا جاء الطوفان فلن يستحق السفينة إلا أمى وأنا}ص144. غير أن صورة الأم المتكشفة من خلال المسرحية، أو(المكاشفة)، التى عكست رؤية “عباس للمجتمع من حوله، والتى ظلمت الأم فراحت تناجيه، وهو الغائب { ما من أحد منهم إلا راودنى عن نفسى فرفضته. عاهرة؟! لقد أُغتصبت مرة ، عاشرت أباك زمنا قصيرا ثم ترهبنت، إنى راهبة لا عاهرة يا بنى. هل زور أبوك لك تلك الصورة الكاذبة؟ إنى امرأة محرومة تعيسة الحظ. ليس لى أمل سواك فكيف تتصورنى فى تلك الصورة؟!}. فأن تأتى الشهادة ممن وصف بالملائكية، فهى شهادة لها، رغم سوء ما فسر به بعض التصرفات التى رأى ظاهرها بنفسه. الأمر الذى أدى بابنها “عباس” للعطف عليها بعد خروجها وزوجها من السجن، وفتح لها وزوجها مقلى يتعيشان منها. فهى النظيفة فى البيئة الملوثة.
وكذلك “تحية”، والتى رغم كونها بؤرة الحدث بالرواية، إلا ان محفوظ لم يترك لها مساحة صوتية تبوح من خلالها، حيث منح الأصوات فقط لأربع شخصيات (طارق رمضان، كرم يونس، حليمة الكبش، وعباس كرم يونس) أى تلك الأسماء الفاعلة فى بيت كرم، ورغم تواجد “تحية ” فيه كثيرا، إلا أنها ظلت للنهاية (مفعولا بها)، أى التى وقع عليها فعل الفواعل الأربعة. فهى وإن كانت قد استسلمت لطارق رمضان، وشعرت أنها تحبه، كتعويض عن نشأتها الأسرية الملوثة، إلا أنها حين رفض “طارق” الزواج منها. فى الوقت الذى كانت تحلم فيه بالإنجاب. فما أن مد “عباس” يده لها، استسلمت له، ورفضت كل إغراءات “طارق”، توقا لحياة سوية، على المستوى الخاص، وتوقا لمستقبل أنظف مما تعيشه، على المستوى الجمعى. فتزوجت من عباس، مبتعدة عن “طارق” والمسرح حتى قال عنها “عباس {تحية ملاك حقا. وآى ذلك تصميمها الناجح على محق عاداتها السيئة التى شابتها فى عهد الأحزان. وهى تحبنى بصدق، وقد تجلى ذلك فى حرصها على الإنجاب}. حتى أنجبت “طاهر”، الإسم والمعنى، غير أنها لم تعش طويلا، فماتت ، ليضيع دمها بين المجموعة المدنثة، والمجموعة النظيفة، وليموت ابنها “طاهر” أيضا بعد قليل من موتها. فهى أيضا النظيفة فى البيئة الملوثة.
أما المجموعة الثالثة “الحالمة” فتأتى “أم هانى” التى وقعت فى حب “”طارق” غير أنها رافضة لتصرفات، واستسلمت لحبه “تحية” على أمل أن يؤب إليها، فهى تعيش على الأمل. ذلك الأمل الذى تمثله “تحية” على الجانب الرمزى، فهى التى عاشت أمل أن ينتشلها “طارق” من البيئة التى ترفضها فى أسرتها التى تقول عنها { مات أبى فتزوجت أمى من مُحضَر، لقيت منها الإهمال ومنه سوء المعاملة حتى اضطررت إلى الهرب…}ص163. وما أن تأكدت من رفض “طارق” الارتباط بها، حتى استجابت لحب “عباس” لتنجب منه “طاهر” ذلك الذى يمثل الأمل الأكبر، والذى يمكن فهمه –على المستوى الرمزى- بأنه أكتوبر 73، والذى لم يستمر الفرح به كثيرا، فمر كطيف..ثم انتهى. لتتجسد فيه رؤية الرواية ككل، والتى تعبر عن انشقاق المجتمع الذى احتفل بالهزيمة، ولم يفرح للنصر.
أما “عباس كرم يونس” والذى يلعب دور الراصد، أو المؤرخ لأوضاع المجتمع، والرافض لكل سوءاته، حيث يعتبر العدو الأول ل”طارق رمضان” بما يمثله مجتمعيا، وهو الكاره لأبيه الكاره للجميع جراء تجربته مع أمه من جانب، واكتشافه لاغتصاب زوجته ليلة الزفاف من “سرحان الهلالى”، من جانب آخر. وهو الغائب أغلب الوقت عن ذلك المجتمع الذى يرفضه، بواقعيته الملوثة، ليعيش مع أحلامه بمجتمع ليس فيه “طارق رمضان، و “كرم يونس”. وقد لخص الأب “كرم” بؤرة شخصية “عباس” بمنولوجه: {لم يكن يوافق على حياتنا.. كان مثاليا كأنه ابن حرام} و {منذ زواجه انفصلنا. لم يكن بيننا خير. كان يرفض حياتنا ويحتقرها فنبذته واحتقرته، وبانتقاله إلى بيت تحية تحررت من نظراته الممتعضة}.
وبتأمل اختيار الكاتب للشخوص الأربعة (طارق، كرم، حليمة، وعباس)، وتركزهم فى بيت “كرم”- وكأنه بانسيون ميرمار، أو عوامة النيل فى الثرثرة- ، ما يعنى أن بيت كرم أصبح هو المسرح الذى تدور عليه الأحداث. خاصة أن “كرم” هو المصاب بالتلوث، من الماضى فى صورة أمه، التى عشقت “الباش جاويش، بما يمثله الباش جاويش من رمزية، تحيل إلى الفترة الزمنية للأحداث من جانب، وفى حاضره المعيش- من جانب آخر-، ممثلا فى زوجته “حليمة” الملوثة أيضا باغتصاب “سرحان” لها. وكأنى بمحفوظ، قد ركز روايته فى بيت فاسد، فى الماضى المستمر، للحاضر. ومن نفس البيت، ينشأ “عباس” ْ، المتواجد فيه جسدا، والمنفصل عنه نفسيا، والهارب منه أغلب الأوقات، حتى استقل خارجه. وكأنه يمارس الهروب الاحتجاجى. وإن كان الهروب بهذا الشكل هروب ذاتى، إلا أنه دائما ما يبتعد بالذاتى إلى الخارج، حيث يمكن رؤية هذا الغياب، غياب الفعل لا غياب الشخص، بمعنى غياب الإصلاح، أو غياب الفاعلية. وهو ما يمكن قراءته بأن الإصلاح لا يأتى من الخارج، وإنما ينبع من داخله، بتغيير وظيفة الجمهور، ف{الجمهور غارق فى الصمت أو منفجر فى التصفيق}. وبذلك لا يتوقف دور الإبداع –المحفوظى- عند الرصد، وإنما الدعوة للإيجابية والفعل.
كما يبرز دور “سرحان الهلالى”- كمدير للمسرح، أو مدير لذلك العالم الملوث- بل ودور الرواية فى مجملها، فى منولوج “عباس” بعد أن سمع نِتَفاً من حياة “تحية” {لم أتردد ولم أسأل عن مزيد. تخيلت على رغمى ما حدث حتى عَمِلتْ ممثلة ثانوية عند سرحان الهلالى. على رغمى أيضا تذكرت أمى وعملها فى المسرح نفسه وتحت رحمة سرحان الهلالى. أضمرت حربا لا هوادة فيها على كافة ألوان العبودية التى يتعرض لها الناس. لكن هل يكفى المسرح ميدانا لهذه الحرب؟ وهل تغنى فكرة البيت القديم الذى تدهور فصار ماخورا؟}ص163. وليخرج “عباس” عن النطاق الضيق، إلى أفق المجتمع ككل، ودور المثقف فيها. الدعوة إلى الإيجابية، ورفض السلبية.
وقد استطاع “كرم” تكثيف أهم شخصيات الرواية فى رؤية جامعة، بعد أن قرر فتح بيته للقمار، مرحبا بمجموعة المسرح، وبعد إعتراض “حلمية” فيأتى منولوجه { حليمة ترغب فى تمثيل دور السيدة المحترمة وتتناسى ماضيها الداعر. لن أسمح للنفاق بالمعيشة فى بيتى. وقلت لهلالى: إنكم تتعبون أحيانا للعثور على بيت مناسب، إليكم بيتى. حدجنى باهتمام فقلت: فى أعماق باب الشعرية، الجن نفسه لن يرتاب فيه. لم أخطئ. البيت القديم يتجدد على مبادئ جديدة. ينفض عنه الغبار، تتأهب أوسع حجرة فيه لاستقبال القادمين من الجحيم. أحترم هؤلاء العظام الذين يمارسون الحرية بلا نفاق. الهلالى والعجرودى وشلبى وإسماعيل وطارق وتحية. ولكن لِمَ ينظر الولد إلينا بامتعاض؟ ابن من أنت؟ من أبوك؟ من أمك؟ من جدتك؟ ابن حرام أنت، ابن الكتاب والمسرح، وتصدق النفاق يا غبى. ألاتسمع عما يجرى فى البلد؟ الا تفهم؟ من أنت؟}ص50،51.
الزمن
نستطيع بسهولة فى “أفراح القبة” أن نميز ونحدد طبيعة الزمن، ودوره فى الرواية، حيث يلعب دورا رئيسا فى تشكيل رؤية العمل الكلية، فإذا كانت المسرحية فى حد ذاتها، تقع فى الزمن الحاضر، أى المضارع، لكنه المضارع المستمر، حيث القضية لم يتم قفلها. فما زال الصراع والجدل قائم على هل قُتلت تحية، أم أن موتها جاء عاديا؟حيث ينقسم الرأى بين “طارق” الذى يُصر على أن “عباس” بما كتبه فى المسرحية، يعتبر إعترافا بقتلها، ولذا يجب أن يُقدم للمحاكمة. بينما آخرون وعلى رأسهم أم عباس “حليمة” يرى ألا إعتراف بالمسرحية، وأن “تحية” ماتت موتة طبيعية. بينما لم يعط “سرحان” أهمية لأن تكون قد ماتت مقتولة، أم أن موتها كان طبيعيا. فكل ما يهمه أن موتها أساسى لتشكيل الشكل الدرامى للمسرحية، وأن الواقعة هى ما جعل المسرحية مسرحية. وحيث ارتبطت المسرحية بالواقع المعيش، أى أنها تصور حال المسرح، وبيت “كرم” باعتباره المكمل للمسرح، أو المسرح الحقيقى للرواية، أى أنها تتحدث عما كان، فهى تتحدث عن الماضى. أى أننا نتبين أن واقعة مأساوية قد وقعت، ونحن بصدد البحث عن الفاعل، وهل هو الماضى، بما يمثله من أفراد، أم الحاضر/ المضارع، بما يمثله أيضا من أفراد. حتى أن أحد أطراف المسرحية/ الحياة ، “حليمة” و “كرم” كانا فى الصف الأول لمشاهدة المسرحية، ليصبح القارئ أمام قضية، يعيشها، وعليه ضرورة البحث ، وإعمال الفكر، للحكم على أيهما الجانى، وأيهما المجنى عليه، الماضى أم الحاضر. وكأحد القراء، يمكن تأمل قولة “طارق رمضان” عن موت “تحية” {ارجع الموت ذكريات الحب والهزيمة}. والتى تضع –بالفعل- قضية موت “تحية” هى الجوهر، أو هى بؤرة المسرحية، وبؤرة الحياة المعيشة. وحين يرتبط موتها بالهزيمة، والحب الذى كان. فإنه بذلك يضع الهزيمة، أيضا، فى البؤرة. ليصبح الحب، هو الماضى المستمر، حيث لم ينس “طارق” حبه ل”تحية” رغم زواجها من “عباس” بل كان أكثر من بكى عليها عند موتها. وكذلك تصبح الهزيمة، هى الماضى المستمر، أو الفاعل فى الحاضر. والتى لم يستطع نصرأكتوبر أن يمحو أثره. فإذا ما أضفنا إلى ذلك مقولة “عباس” { حداثة سنى ليست بالعذر المقبول . إنه العجز. لذلك مر النصر كخبر}ص145، والتى تؤكد استمرار التأثير للهزيمة، وتواجدها وسيطرتها على الحاضر، للحد الذى جعل (النصر) يمر وكأنه خبر.
فإذا ما استعدنا رؤية الكاتب فى عمله الرائع “أمام العرش” والذى حدد فيه رؤيته لكل من هزيمة يونيو ونصر أكتوبر، فسنجد أن جمال عبد الناصر، قال أمام عرش المحاكمة التاريخية، وحول الهزيمة { تعذر علىَّ النصر على جيش متفوق فى التسليح ومؤيد بأقوى دولة على سطح الأرض! . فقال أمحتب وزير الملك زوسر: كان واجبك أن تتجنب الحرب وأن تكف عن استفزاز الدول الكبرى.. فقال جمال عبد الناصر: كان ذلك يتناقض مع أهدافى وقد خُدعت أكثر من مرة فقال الحكيم بتاح حتب: إنه عذر أقبح من ذنب}[i]ص195، 196.
بينما جاء حوار السادات –أمام العرش- حيث وضح موقفه: اتجهت على مهل نحو الأمان سيادة القانون والديمقراطية، وفى 6 أكتوبر 1973 فاجأت العدو المحتل، بل فاجأت العالم بهجوم لم يتوقعه أحد، وحققت انتصارا أنقذ الروح العربية من القنوط كما انتشل الشرف من الهوان. ثم تسنمت بمغامرة أخرى باقتحامى بلد الأعداء داعيا إلى تصفية الموقف بالكلمة لا بالسلاح. وانتهى سعيى الطويل إلى معاهدة كامب ديفيد. وتكلم الملك إخناتون فقال: أحييك كداعية من دعاة السلام، ولا أدهش باتهام خصومك لك بالخيانة، فقد تلقيت منهم نفس الاتهام لذات السبب .
فقال تحتمس الثالث: يذكرنى انتصارك بانتصار رمسيس الثانى الذى كلل بمعاهدة سلام والزواج من ابنة ملك الحوثيين! فقال رمسيس الثانى: الحاكم مسئول أولا عن حياة شعبه. ومن هذا المنطلق يقوم إلى الحرب أو يجنح إلى السلام. فقال أنور السادات: وقد آمنت بصدق بعقم الاستمرار فى الحرب}ص201، 202.
وإن كانت هذه الشهادات، قد جاءت فيما بعد، فى “أفراح القبة (1081) فإنها تؤكد وتعضد رؤية الكاتب فى مسرحية الحياة،-“أفراح القبة”-، ويتطابق مع رؤية “عباس” الشاب الثورى المتحمس :{ ومهما يكن من اختلاف، فقد حلمنا بعالم مثالى جعلنا أنفسنا على رأس مواطنيه المثاليين. وحتى الهزيمة لم تزعزع أركاننا، وما دام الأناشيد لم تتغير، ولا الزعيم تغير، فماذا تعنى الهزيمة؟ }ص131. تلك المقولة التى تقودنا إلى تأمل شخصية عباس (الرمزية)، والتى تفتح الرؤية على المجتمع المصرى، فيما بعد 73. والتى ظلت متمسكة – فى نسبة لا يستهان بها – بمصر ما قبل 67.
كما أنه يمكن تتبع الزمن من خلال الترتيب –الذى لم يكن عشوائيا- الذى اتبعه محفوظ للأصوات المُختَارة، إذا تحولت الشخوص إلى زمن. ويمكن رؤية هذا إذا ما نظرنا إلى “طارق” و”كرم” على أنهما يمثلان الماضى، لأن تصرفاتهما الآنية، مبعثها ومحركها هو فعل الماضى- ما حدث لطارق من بعد 1952، وما حدث لكرم من يمعة أمه التى توفت. أما حليمة فهى تعيش واقعها بفعل ما تم معها فى الزمن الحاضر، حيث الفاعل حى –سرحان الهلالى-، وموجود وفاعل فى حياة “حليمة” والمسرح. أما “عباس” حيث الحلم، فهو المستقبل، المنفتح للأمام، وهو ما يؤكده بنفسه-فى منولوجه- عند النهاية، حيث بعد وفاة “تحية” وبعدما لحق بها “طاهر” –إبنها/ حلمها- بإسبوع.. فكر عباس فى كتابة مسرحية بعنوان “البيت القديم – الماخور” {عند ذاك انبثقت فكرة جديدة. ليكن البيت القديم هو المكان، ليكن الماخور هو المصير، ليكن الناس هم الناس، ولكن الجوهر سيكون الحلم لا الواقع. أيهما أقوى؟ هو الحلم بلا شك، الواقع أن الشرطة كبست البيت، والمرض قتل تحية وابنها، ولكن ثمة قاتل آخر هو الحلم. الحلم الذى أبلغ الشرطة، هو الذى قتل تحية، هو الذى قتل الطفل. البطل الحقيقى للمسرحية هو الحلم. هو الذى توفرت له الشروط الدرامية. بذلك أعترف وبذلك أكفر، بذلك أكتب مسرحية حقيقيةلأول مرة، أتحدى سرحان الهلالى أن يرفضها. سيعتقد هو وغيره أننى أعترف بالواقع السطحى لا الحلم الجوهرى ولكن كل شئ يهون فى سبيل الفن، فى سبيل التطهير، فى سبيل الصراع الواجب على شخص وُلد ونشأ فى الأثم وصمم بقوة على الثورة}ص173 ، 174.
هكذا استطاع عميد الرواية العربية أن يؤرخ لمرحلة شديدة الاختلاط والتباين، تباينت فيها الرؤى، ما بين الواقع والحلم، ما بين مسرحة الحياة، والحياة التى كالمسرحن ليضيف تقنية أخرى تتداخل مع تقنية الأصوات، وهى المسرح داخل الرواية، بعد أن كثرت نماذج الرواية داخل الرواية، إلا انه استخدم وسيلة مواجهة الجمهور، وكأنه يوجه روايته إلى جمهور الناس، وكأنه يضعهم أمام أنفسهم، ليتأملوا واقعهم المتولد من ماضيهم، والمتحكم فى مستقبلهم، إن لم يتمسكوا بالحلم، وبالأمل.
الشعرية
تعتبر تقنية “الأصوات” من التقنيات التى تُظهر شعرية السرد، بإستخدامها ضمير المتكلم، الذى عُرف بأنه وسيلة الشعر، حيث تبدو الذاتية فى رؤية كل صوت من الأصوات الأربعة المختارة من الكاتب، عارضا رؤيته –هو- للواقعة الرئيسة للرواية- الحياة من حوله- . غير أن العديد من مظاهر شعرية الرواية تجلت فى أكثر من عنصر من عناصرها الأخرى . حيث نستطيع التعرف عليها فى إنزياح المعنى فى الغياب شبه الدائم ل”عباس” والذى لم يقصده الكاتب– وفق رؤيتنا- لذاته، أى لغياب الشخص “عباس” وإنما يرمى بذلك إلى غياب الفعل الذى يمثله عباس، والسابق التعرف عليه.
وكذلك يمكن تلمس الشعرية فى تركيب شخصية “حليمة” تلك التى أُغتصبت، بمعرفة سرحان الهلالى” لكنها لم تستسلم للكثيرين الذين حاولوا معها بعد ذلك، ومنهم سرحان نفسه. ليتساءل القارئ، هل هى مذنبة أم غير مذنبة؟ ليرى الفريق الأول، بأن حليمة فتاة فقيرة، استأجرت ملابس لتذهب بها إلى المسرح ومقابلة المدير، كما أنها تقيم مع خالتها، أى أن مبررات الاستسلام موجودة، ألا يعنى ذلك أنها كانت تحلم بالإيقاع بالمدير، لذا استسلمت لعملية الاغتصاب؟. بينما يرى الرأى الآخر بأنها كانت أمام رجل شديد البنيان، ولم تقو على مقاومته، بدليل أنها لم تكرر العملية مرة أخرى. فوضع الشخصية هنا يضع القارئ أمام المفارقة بين الظاهر والباطن. حيث تعتبر المفارقة أحد عناصر شعرية السرد.
تلك المفارقة الواضحة فى شخصية “حليمة” –تلك الشخصية الثرية، حيث يمكن الاستدلال علىها فى الموقف الملتبس، حال خروج سرحان من بين مجوعة القمار، لينفرد بحليمة، مدعيا المرض، فيدخل عليها الحجرة، ويغلق الباب، بينما كان عباس يراقب الموقف. ولا يعلم أنها رفضت الانصياع لرغبته، وأرغمته على المغادرة. بينما انصرف عباس بعد إنغلاق الباب، لرفضه الموقف برمته. وليظل كل على موقفه. الأم تعلم أنها لم تستسلم، ورفضت الموقف، والإبن يعلم أن أمه خاطئة. ليثور فى نفس القارئ الرغبة فى كشف الحقيقة أمام الإبن. الأمر الذى يحرك وجدان القارئ، ويُشعره بالعجز.
وموقف آخر يتكرر ويستمر فى مواضع كثيرة من الرواية، تكرار “كرم” بأنه الصادق بأحاسيسه وأفكاره- هو ومجموعة المسرح- بينما يُصر على أن حليمة منافقة، فى الوقت الذى رفضت فيه عرض “سرحان” إصلاح ما تم إفساده فى عملية الاغتصاب، وتصميمها على أن تبوح ل”كرم” –حين تقدم للزواج منها- بل تُصر على البوح له باسم الفاعل، رغم توقع القارئ الذى يرى أن الظروف العائلية، والبيئة يرجحان معالجة الأمر، والخوف من البوح. فضلا عن إثارة التساؤل فى أيهما الأصح، أن يعيش الإنسان وفق رؤيته لنفسه، أم وفق رؤية الآخرين له، فى الوقت الذى اختارت “حليمة” الموقف الأول، ورغم ما سببه ذلك لها من إنفصال و كراهية بينها وزوجها “كرم”.
كما يمكن تلمس الشاعريىة –أيضا- فى حياة “كرم” التى عبرت عنها شخصيته، والنابعة بالأساس من إستيلاء الباش جاويش على أمه، التى لولا موتها المبكر، لاستولى الباش جاويش على البيت. حيث نبحث عن تأويل “الباش جاويش، والذى بالتأكيد لم يأت به الكاتب بمحض الصدفة، وهو ما يجرنا إلى بداية المرحلة التى تتناولها الرواية، والتى تبدأ من العام 1952، ولترجح لنا أحد التأويلات التى يمكن أن تخضع لها الرواية، منبثقة من مجموع رؤى محفوظ فى أكثر من رواية، كما أوضحنا.
ولا تخلو الشاعرية فى شخصية “عباس” ، وفعلها. حيث تقودنا النهاية إلى رؤية “عباس”
الفعل، لا عباس الشخص، خاصة أن “طارق” أصر بأن “عباس” إعترف فى المسرحية، بأنه هو قاتل “تحية” غير أن منولوج “عباس” يوضح الحقيقة، بعد أن واجهه “طارق” بانه يستحق الشنق {هل أستحق الشنق حقا؟ كلا.. حتى لو حُوسِبت على النوايا الخفية. ما كانت أحلامى إلا رمزا للتخلص من متاعب راهنة لا من الحب أو المحبوب. وهى تُثار بانفعال اللحظة العابرة لا بالعاطفة المستقرة. وعلى أى حال لم يعد لى بقاء فى مجال الشياطين}. فإن كان “عباس” قد تمنى لحظيا، التخلص من “تحية” فهى أمنية التخلص من بقايا عصر، قد يأس من أصلاحه، بينما الحب للإنسانة، فقد ظل، لما به من الوفاء والصدق. ليكشف عن المقابلة – الشاعرية- فى المواجهة بين الشر والخير. فبينما يريد الشر أن يتلبس الخير قضية الموت، والخير يتمسك بالحب، منقذا، وحصنا.
وبعد موت “تحية” وابنها، ضاعت الأفكار، وحل اليأس مكان الحلم والأمل فى نفس “عباس”، حيث نابته إغماءة، صحا بعدها، ليكشف عن البؤرة التى تسعى الرواية إليها {لم تكن ساعة فقط على وجه اليقين، لقد نمت عصرا كاملا واستيقظت فى عصر جديد}. ثم يكمل وقد استرد الأمل، وجاءته الأفكار{وفى الحال مضيت نحو المحطة، وهى هدف غير قريب، ومع تتابع الخطوات تدفقت الحيوية خلابة واعدة}. الأمر الذى تتكشف معه رؤية المستقبل، حين يولد عصر جديد. خال من طارق وسرحان و كرم. المهم.. هو السعي والسير نحو المحطة المنتظرة، والتى لم يحدد محفوظ، مكانها، الجغرافى أو التاريخى، وكأنه الأمل فى الغد.. حين نسير نحوه. فقد تخفت الرؤية التى يريدها الكاتب، وراء الدال الذى منحها ما خفى، دون أن يصرح به. وهى أيضا أحد عناصر الشعرية الواضحة.
فإذا ما عدنا إلى العنوان” أفراح القبة” ذلك الذى لم يبح به كاتب المسرحية نفسه”عباس”، بينما ألمح إليه، الخبير المسرحى –سرحان- حين سأله عن سبب التسمية قائلا {الأفراح التى تبارك الصراع الأخلاقى رغم انتشار الحشرات، او لعله من أسماء الأضواء كما نسمى الجارية السوداء صباح أو نور}. وكأنه يُضئ كشاف النور ليسطع إشعاع العنوان، الذى يكتنز المعنى، والمتمثلة فى المفارقة بين المأساة التى تحملها سطور المسرحية/ الرواية، وانبثاق الفرح المتخفى وراء الأمل، ولتتكشف شعرية السرد منذ قراءة العنوان.
كما تتجلى شعرية الرواية –أيضا- من خلال كسر تواتر الزمن، فإذا كانت الأصوات الأربعة، تتحدث بصيغة الماضى، حيث تنصب الأصوات على (ذكريات). فإنه ومن خلال تلك الذكريات/الماضى، نجد أنفسنا نعيش أمام خشبة المسرح/ الحاضر، ثم نعود للماضى، وهكذا نتأرجح بين الماضى والحاضر، لنصل فى النهاية – مع منولوج عباس- إلى المستقبل. على أن تلك التنقلات ليست حادة، بل متداخلة، للحد الذى قد لا نشعر به، وكأنه قد تمت إذابته، وتسييله. وحيث تكسير خط الزمن التصاعدى، من أهم عناصر شعرية الشعر والنثر معا.
ومن هنا يمكن القول بأن “افراح القبة، ليست إلا حلقة فى سلسلة قراءة محفوظ للتاريخ المصرى الحديث، والتى تجعله –روائيا- شاعد على التاريخ، ومتطور بالرواية، ليسبق، بتقنياته المتنوعة، كل ما جاء بعده من تقنيات مستحدثة.
…………………………………
[1] – نجيب محفوظ – أفراح القبة – مكتبة مصر –دار مصر للطباعة- 1981.
[i] – نجيب محفوظ – أمام العرش – مكتبة مصر – دار مصر للطباعة- 1983.