شعرية البوح وبلاغة التكثيف في “تراتيل على وقع المطر” لمصطفى بلوافي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ما قسمات شعرية البوح في ديوان "تراتيل على وقع المطر" لمصطفى بلوافي؟ وكيف تسهم بلاغة التكثيف في هذه الشعرية؟ وهل تتلاءم هذه البلاغة مع رغبة البوح التي تقتضي الامتداد والإسهاب؟

في ضوء هذه الأسئلة الثلاثة سنقارب المجموعة الثانية للشاعر المغربي مصطفى بلوافي، بعد مجموعته الأولى الموسومة ب"ضمديني أيتها المقامات". وهذه المجموعة الجديدة إضافة نوعية إلى شعرية مصطفى، والشعرية المغربية، بما تمتاز به من إمكانات فنية وعوالم متخيلة يجترحها الشاعر عن فنية عالية واقتدار بيِّن.

ننطلق من النص الأول الذي حمل الديوان اسمه، وكان علامته المميزة، نص “تراتيل على وقع المطر”، وهو نص يتشكل من أربع لوحات شعرية قوامها البوح، وبلاغتها كثافة الصورة، ودقة الإشارات والعبارات. يقول الشاعر في لوحة حملت عنوان “لحظة”:

“بِلاَ مُقدِّماتٍ

بِلاَ تعَازٍ

-لِشاعِرٍ أعرِفُ أنَّهُ ميِّتٌ فيكِ-

أَحتَرمُ لحْظتَكِ الهَاربةِ منْ أَنايَ

أُأجِّلُ كلَّ مَواعِيدِي

-ولاَ موْعدَ فِي الحقِيقَةِ لِي-

أستَدعِيكِ إلَى غيْمتِي

لاَ تجِيئِينَ

إلَى حمَاقَتي.. لاَ تُبالِينَ

إلَى خرَائطِي.. لاَ تَنظُرينَ

وعِندَمَا أدْعُوكِ لقَتْلي

تُشهِرينَ سيْفَكِ..

ولاَ تتَأَنَّينَ

تحْفرِينَ قَبرِي عَلَى خاصِرةِ الطَّريقِ

ولا تتَعرَّينَ..” (ص.7-8)

هكذا يقتنص النص لحظته الزمانية ويتخذ منها محورا للبوح بما يعتمل غور الذات. إنها لحظة للوقوف مع الذات وهي هاربة من ذاتها، سادرة في غيها تأبى ورود ماء الشعر، على الرغم من الشاعر يستدعيها إلى النهل من غيمته، ويبسط له خرائط وجوده، لكنها تشهر السيف لتجهز عليه، وتحفر قبره على خاصرة الطريق، وهي ما زالت مصرة في غيها تأبى التعري والبوح بما يعتمل طي نفسها. بهذه المعاني التي استشففناها من هذه اللوحة، نلاحظ أن مدار القصيدة كان حول تصوير معاناة الذات الشاعرة، وهي تراود القصيدة، وأن الذات تُخاطب كما تخاطب المرأة. وأن هذا الخطاب الشعري يستند إلى كثافة الصور، ووجازة العبارات، بما يقدم الدلالة في لغة انزياحية راقية.

وفي نص “على درب الممنوعات” الذي يتشكل، بدوره، من أربع لوحات فنية، يقول الشاعر في لوحة اسمها “عري”:

“أَختَارُ فِيما أَخْتارُ

أَخْتارُ تَسلُّق الجِدارِ

تَخطِّي الرقَابِ

أخْتارُ البُيوتَ الواطِئة

الحَمَّاماتِ المكشُوفَة العَورَة

لأتَعرَّى

فِي شَارعٍ ممْتدٍّ حَد الغِوايَةِ

فِي سُوقٍ سَاقطٍ منْ فَجرهِ

إلَى عُلياه

تُكوِّننِي نَجمةُ الرَّغبةِ

تَختَارُني لأَكونَ زنْد الشُّموعِ

ولاَ خِيارَ لِلحِكمةِ

إنْ وقَفَ الثُّعبانُ عَلى رجْليهِ

لاَ اسْتئْنافَ لِعرسِ الذِّئبِ

لاَ أطْلالَ تُقاسمُني عُروشَكِ

ولاَ انْكسَارَ.” (ص.33-34)

          يبوح هذا النص الشعري السريع الإيقاع المكثف الدلالة بما تواريه الذات، ولكنها تُلمح إليه وتُشير. إنه بوح بوقر الرغبة في النفس، وإعلان عن تطلع إلى تجاوز الممنوعات كلما تحركت لواعج الأشواق، فكانت الذات زند الشموع، بحيث تغيب كل حكمة كلما وقف الثعبان على رجليه، وبحيث ينتهي عرس الذئب، ويكون الوصال وهجا وألقا، ولحظة للفرح لا للبكاء على الأطلال، ولا للإحساس بالانكسار. هكذا كان تعري البوح كشفا للمستور، وتعبيرا عن الاحتفاء بلحظة الحب الممنوع. وبهذه الشاكلة ألمح النص بإشاراته التصويرية المكثفة، وبرمزيته العالية إلى ظلال معان متعددة، يمكن للمتلقي أن يحدسها، وأن يتلقاها بقلب سليم.

أما نص “حينما أسلِّم نفسي” الذي يتكون من ثماني لوحات مرقمة، فإنه نص بوح بامتياز، على الرغم من أن لوحاته مكثفة، سريعة الإيقاع، مختزلة المعاني، مركزة التركيب، ومن بين لوحاته نختار لوحتيه الأولى والثانية. وهما اللوحتان الأشد تكثيفا، يقول مصطفى بلوافي في اللوحة الأولى:

“حِينمَا أُسلِّم نَفسِي للرِّيحِ

أخْرجُ مِن ظِلي

يَتبَعثَر فيَّ الغُبارُ

وَأضْحكُ بصِدقِ اللَّذةِ

ولاَ أقوَى علَى الاحتِمالِ.” (ص57)

دائما المدار حول اللذة والمتعة، والبوح بعدم القوة على دفع سطوة الرغبة، إذ تخرج الذات من ظلها، من سديميتها لتسلم نفسها للريح، وليتبعثر غبار الحياة، وتشف النفس لتصير نورا وشعاعا مضيئا. هكذا يبوح النص بمعان كثر في جمل قصيرة وعبْر بلاغة التكثيف. وبهذه الشاكلة يصنع مصطفى بلوافي عوالمه الشعرية بجمالية مخصوصة عمودها البوح الذاتي الشفيف، وإهابها بلاغة التكثيف.

ويقول الشاعر في اللوحة الثانية من قصيدة “حينما أُسلِّم نفسي”:

“حِينمَا أُسلمُ نَفسِي للبَحرِ

تتَقَاذَفنِي الأَموَاجُ

رَغِيفاً مُرشَّحاً

لأَكثَر مِن مَعنَى

ويكُونُ الغَرقُ مَلاَذاً

للُغةِ المحَارِ.”(ص.57-58)

ها هو الشاعر يسلم نفسه للبحر، بعدما كان قد سلمها للريح، كما يبوح في النص السابق. وركوب الريح مثل ركوب البحر كلاهما مغامرة وسفر في المجهول، وكلاهما ينتهي بمن يواجههما إلى الاستسلام وعدم القدرة على الاحتمال، فيكون الغرق، ويكون التبعثر. هكذا يبوح النص بالغرق في لذة الهوى، والرغبة في إيجاد الملاذ بين المحار. وبهذه الشاكلة لا يكون الغرق نهاية، بل بداية نحو الحياة، كما كانت الريح سببا لتبعثر الغبار والمضي نحو النور. وبهذه الكيفية يتصادى النص الأول مع النص الثاني ليشكلا امتدادا دلاليا بينا، كما تتصادى النصوص الأخرى فيما بينها على الرغم من أن كل نص يصنع أبعاده المتخيلة عبر صور خاصة به، ومن خلال بلاغة التكثيف التي تجعله مكتفيا بذاته ومعانيه.

  انطلاقا من كل ما سبق، ومن خلال قراءة باقي نصوص ديوان “ تراتيل على وقع المطر”  نتبين أن جل قصائده كانت بوحا شعريا شفيفا سواء إن كانت قد استندت إلى بلاغة التكثيف، أو اتخذت النفس الممتد أساسا لتشكيل مبناها ومعناها. وبذلك كان البوح بما يعتمل في الذات سمة مكونة لنصوص الكتاب.  

…………………………………………………….

*مصطفى بلوافي، تراتيل على وقع المطر، منشورا سليكي أخوين، طنجة، 2017.  

 

 

 

مقالات من نفس القسم