محمد عبد الدايم
شعر الاحتجاج هو الشعر الذي يناضل لوضع قيم ويسعى لتحقيق أهداف محددة، خاصة تلك التي ترتبط بالسلطة أو المؤسسات الرسمية، وغالبا ما يسعى شعر الاحتجاج للصدام مع الحدث السياسي، عن طريق انتقاد المعتقدات الرسمية، وتجنب المصطلحات الشعرية المألوفة، وهو شعر يتجاوز الحدود بين الخاص والعام، بين الفرد والمجتمع، بين الذات والآخر، عن طريق كسر حاجز الصمت، وتخطي جدار الخوف.
وهوـــــ في الحالة الإسرائيلية ـــــ شعر يرفض الممارسات الإسرائيلية، ويحاول أصحابه أن يتخذوا موقفاً شاملاً تجاه قيم الوجود وواقع الدولة، وتداعيات هذا الواقع في السياسة والفكر والدين والقومية، موقفا مناهضا لسياسات الدولة الدموية وأُطرِها القهرية.
ظهر شعر الاحتجاج في إسرائيل ليقضي على روح الجمود التي تملكت القصيدة العبرية، ويؤكد المضمون الإنساني للأدب، فقد تبنى بعض أدباء اليسار الإسرائيلي موقفاً إنسانياً لا علاقة له بما هو جارى العمل به في الواقع، بعد أن آمنوا – أو اقتنعوا- بأن الشعر يجب أن يتحلى بصفة الكفاح ضد العنف والطبقية والامتهان، وبعد أن رفضوا روايات المؤسسات الرسمية الحاكمة في إسرائيل.
قضايا شعر الاحتجاج في إسرائيل:
حملت قصيدة الاحتجاج في إسرائيل إبّان ظهورها أكثر من صبغة، نتيجة لاختلاف أجيال شعرائها، من ناحية الأصل، أو من ناحية الخلفية السياسية، فقد كان قطاع من الشعراء في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مهاجرين تأثروا بالثقافات الأوربية، وجزء آخر وُلد على أرض فلسطين، وتأثر بشعراء الهجرات اليهودية السابقة عليه، وتناول شعر الاحتجاج كثيرا من القضايا، منها:
نقد المشروع الصهيوني:
عبَر “ناتان زاخ” في شعره عن شكل من أشكال الاحتجاج المستتر ضد المشروع الصهيوني الاستيطاني، الذي يتوارى خلف مزاعم دينية، فقد كتب قصيدة بعنوان: “إلى شاطئ بحار”، تعبر عن نقد للصهيونية، حيث صور مشروعها الاستيطاني كمغامرة استعمارية، ويتحدث في القصيدة بضمير المتكلمين، الذي يعبر عن مجموعة مهاجرين صهاينة، وصلوا إلى فلسطين في سفن، فوجدوا أنفسهم على شاطئ مقفر، مطلوب منهم أن يخلقوا عليه حياة، ويؤسسوا عليه وطنا:
“عما قليل سيحل الليل الطويل، ليل الصحراء.
أوقات النور تقل في تلك البقاع
وسنبقى مع الأشياء التي ظنناها جميلة
وتستحق أن نحارب من أجلها دون معرفة”
وتحمل بعض القصائد المبكرة لـ”زاخ” نبرة احتجاج لاذعة، ونقدًا واستنكارًا للمسعى الصهيوني في مجمله، بسبب ما شابه من تضليل، وما نتج عنه من تداعيات، فاعتبر أن الصهيونية حركة استعمارية بدون مستقبل، ليكون أحد المفكرين الإسرائيليين الأوائل الذين تطرقوا لمسألة ما بعد الصهيونية قبل الكثير من المؤرخين الإسرائيليين الجدد بعقود طويلة.
رفض الحروب:
كانت وتيرة الحروب والمعارك المتواصلة مؤثرة في نفوس كثير من الشعراء في إسرائيل، وخلّفت تجارب شعرية أثمرت شعر احتجاج هادئًا أحيانا، وصاخبًا أحيانا، مستترًا تارة، وظاهرًا تارة أخرى، ومن أكثر الشعراء الذين تناولوا الحرب في شعرهم الاحتجاجي “يهودا عميحاي”، الذي نظم شعرا يحمل أفكارا تتخطى حاجز الحظيرة الأيديولوجية، فساهم هذا النتاج الشعري في التمرد على الشعر المُعضِد للصهيونية.
تنضح كثير من أشعار “يهودا عميحاي” (أحد أهم الشعراء الإسرائيليين) كراهية عميقة للحروب، واحتجاجًا شديدًا عليها، ووصف بشاعتها في قصيدة “قصيدتان عن المعارك الأولى”:
“المعارك الأولى أثمرت
زهور حب فظيعة
مع قُبلات تكاد تميت كالقذائف.
في حافلات مدينتنا الجميلة
ينقلون الصبية الجنود:
كل الخطوط 12، 8، 5
تسافر إلى الجبهة”
وفيما يتعلق برفض الحرب أيضا كتبت الشاعرة “عادا أهروني” (من أصل مصري) قصيدة بعنوان “هذه الحرب الملعونة” تتحدث فيها على لسان جندي إسرائيلي على جبهة الجولان أثناء حرب أكتوبر 1973م، يصف فيها جانبا من مشاهد القتل والدمار:
“في سيارة جيب بالجولان
أقف منعزلا
أنظر إلى بقايا
دبابات
مشطورة بقذائف
وموكب قبور سوداء
من جثث طازجة
حرب ملعونة ملعونة
…
ينجو البعض
ولا ينجو البعض
ليس دائماً، ليس الجميع
لكن الجميع يلعنون
الحرب الملعونة الملعونة”
وظهرت الموجة الكبيرة لشعر الاحتجاج في إسرائيل بشكل جلي إبّان اجتياح لبنان عام 1982م، والذي تسبب في مقتل وتشريد الآلاف، بسبب الوحشية العسكرية الإسرائيلية.
وكان موقف شعراء الاحتجاج إبّان اجتياح لبنان مختلفاً عن مواقفهم السابقة، كما أن وقع الشعر في نفوس المتلقين قد اختلف هو الآخر، فربما لم يحظ قبل 1982م بقبول شديد في أوساط المجتمع الإسرائيلي، والسبب في ذلك أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين قد صار حدثاً قائماً ومستمراً بالفعل لما يقرب من أربعة عقود قبل غزو لبنان، بحيث صار الحديث عن الممارسات العسكرية والقتل والتدمير أمراً عادياً لا غرابة فيه، ومن هنا لم يكن لشعر الاحتجاج هذا التأثير القوى الذي حظي به في أعقاب غزو لبنان 1982م الذي كان مفاجئا وصادما لكثير من المواطنين في إسرائيل، ومنهم الشعراء بالطبع، وهذا ما أفسح لشعر الاحتجاج مجالا للظهور بقوة على الساحة الأدبية في إسرائيل.
ربما كانت قصيدة “حيفا: عشية اجتياح لبنان” لـ “ناتان زاخ” هي أول محاولة احتجاج شعري ظهرت في تلك الفترة، حيث نشرها في يوم الحرب نفسه. وكتب “زاخ” كذلك قصيدة مؤلمة، وشديدة التأثير في النفس، بعنوان “عن الرغبة في التدقيق”، صوّر فيها اشمئزازه من مشاهد الحرب التي لا تنتهي إلا بسقوط قتلى، ووقوع جرحى، وارتكاب جرائم حرب بشكل مستتر أو معلن، دون أن يشعر الجناة بأي ذنب، بل يبدو هدفهم التسابق في إزهاق أكبر عدد من الأرواح، والاستمتاع بإحصائها ومشاهدتها:
حينئذ كانت مبالغة كبيرة في عدد الجثث:
هناك من أحصوا نحو مائة وهناك من أحصوا مئات
وهذا قال: أحصيتُ 36 جثّة امرأة محروقة
وقال رفيقه: لستَ صادقا، فهي إحدى عشرة فقط
والخطأ كان متعمّدا و(لهدف) سياسي، ليس مصادفة
وإذا بدأت فعليّ أن أقول أيضا
أنّه تم ذبح ثماني نساء فقط، فقد قتلت اثنتين بالرصاص
وواحدة مشكوك في أمرها وليس واضحًا
إذا كانت قد ذُبحت أو اغتُصبت أو شُقَت من البطن فقط
وفي أمر الأطفال أيضا لم تُقال الكلمة الأخيرة بعد
يعترف الجميع أنّ ستة صُلبوا وواحدًا عُذِب
قبل أن تُحطّم رأسه ولكن من يضمن لنا
بأنّ من اختفوا وانقطعت آثارهم
تمّ إلقاؤهم حقّا في البحر جميعهم أو بعضهم
إذ كيف نُفسّر بُقع الدم؟
ففي أمور كهذه ممنوع أن نبالغ
ولابد أن نتبين ونحذر: فالأمر يتعلق بحقوق أرواح
ويمكن لا سمح الله أن تقع أخطاء في التقارير
وقد وقعت دائما، يا صديقي المثقّف، أمور كهذه.
وستندلع خلافات شديدة طيلة ذلك اليوم
ولولا الرائحة الكريهة التي فاحت بالمكان
لكانوا حققوا دقّة تامّة – أو ضربات
إذ أن الرغبة في الدقّة إنسانية لا تقل
عن الرغبة في القتل والاغتصاب والسحق والمحو من العالم
لعدوّك، خصمك، جارك المقابل، والغريب المشبوه، أو أيّ
رجل، أو امرأة وطفل في العالم”
من أمثلة قصائد الاحتجاج على أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى ما كتبه الشاعر الإسرائيلي “دان ألماجور” في قصيدة بعنوان “نحن نطلق النار حتى على الأطفال”، والتي ألقاها خلال مظاهرة في ميدان “رابين” بعد عام من اندلاع انتفاضة الحجارة، ولاقى بسببها هجوما شديدا من بعض المتطرفين في إسرائيل.
ومع اندلاع أحداث انتفاضة الأقصى عام 2000م؛ احتج كثير من الشعراء الإسرائيليين على الممارسات الوحشية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية.
وبعد اثنتي عشرة ساعة فقط من عملية “الرصاص المنصهر” التي قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة أصدرت مجموعة من الدوريات الأدبية اليسارية متحدةً مجموعة شعرية تحتوى على قصائد احتجاج، ورسوم تصويرية لفنانين يساريين، تم جمعها معا تحت عنوان: “اخرجوا”.
وفي إطار هذه المجموعة كتب الشاعر الإسرائيلي “عيران سلجوف” قصيدة بعنوان: “أنشودة للأيام الرهيبة” يستعرض فيها وقائع الحروب التي دارت على الأرض العربية منذ 1948م حتى عملية “الرصاص المنصهر”، ويعدد فيها باستفهام استنكاري الضحايا الذين سقطوا جراء الممارسات الإسرائيلية، كما يتساءل محتجا عمن يأتي دوره ليكون الضحية الجديدة:
“من في الماء
من في النار
من بيدي
من تحت إشرافي
من في ثمانية وأربعين
من في ستة وخمسين
من في عمليات انتقامية
من في سبعة وستين، في ثمانية وستين، في تسعة وستين
في سبعين، في واحد وسبعين، في اثنين وسبعين
في ثلاثة وسبعين
من في سنة مولدي
من في خمسة وسبعين، في ستة وسبعين، في سبعة وسبعين، في ثمانية
وسبعين، في تسعة وسبعين،في ثمانين،
في واحد وثمانين
من في صبرا وشاتيلا
من في ثلاثة وثمانين، في أربعة وثمانين، في خمسة وثمانين،
في ستة وثمانين
من في الانتفاضة الأولى بأيدي وأرجل مكسورة،
من في ثمانية وثمانين، في تسعة وثمانين،
من على يد عامي بوبر
من في واحد وتسعين،
من باسمي
من في ثلاثة وتسعين، في أربعة وتسعين، في خمسة وتسعين
من في قرية قانا
من في سبعة وتسعين، في ثمانية وتسعين، في تسعة وتسعين
من في انتفاضة الأقصى
من بالاستهداف المحدَد
من في ألفين وواحد
من بقنبلة طن ونصف
من في ألفين وثلاثة، في ألفين وأربعة، في ألفين وخمسة
من هذه المرة في قرية قانا
من بالقنبلة العنقودية
من في ألفين وسبعة
من في حانوكاه الرصاص المُنصهر
من عليه الدور”
لكن شعر الاحتجاج رغم انتقاده اللاذع للصهيونية والسياسات الإسرائيلية، وفضحه لجرائم الاحتلال؛ لا يخرج عن مجموعة من الثوابت، فمهما زادت شدة الاحتجاج لدى شعراء اليسار؛ فإننا لم نر أحداً منهم قد تناول في قصائده قضايا جوهرية تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي مثل قضية القدس أو عودة اللاجئين الفلسطينيين أو الانسحاب إلى حدود 1967، وهذا ما يوضح وجود تناقض فكري لدى هؤلاء الشعراء ، ويطرح تساؤلاً حول الهدف من الاحتجاج الشعري.