شريف رزق شاعرٌ يُرمِّمُ تاريخَهُ المنسِيَّ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 32
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رُبَّمَا يُتيحُ ديوان الشَّاعرِ المِصريِّ شريف رزق " حيوات مفقودة "(1) ، لقارئِهِ أنْ يَحيَا بدورِهِ حيواتٍ أخْرَى، ليْسَتْ مُستمدَّةً مِنْ النَّصِّ فَحَسْب ؛ ولكنْ منْ حضورِهِ داخله، بصفتِهِ – وباخْتِصَارٍ – شريكًا  فاعِلاً في إنتاجِ الدَّلالةِ الكُلَّيَّةِ للنَّصِّ الأدبيِّ . يُصَدِّرُ الشَّاعرُ وَالنَّاقدُ شريف رزق نَصَّهُ بمقطَعٍ دالٍّ مِنْ مُؤلَّفٍ تُراثيٍّ شهيرٍ؛ هو : "جامع كرامَاتِ الأولياءِ" ، للنَّبهانيِّ ، كأنَّهُ يُحيلُنَا إلى عَالَمٍ غيرِ مرئيٍّ ، أوْ محسوسٍ ، وَبِمَا يفتحُ طاقاتٍ التخييل أمام المتلقي، ويشي -  بالأساس - بأنَّ ثمَّةَ حيواتٍ أخْرَى كامِنةً خَلْفَ الواقع المتعين، عمادُهَا حالة التَّخطِّي، والمُجَاوزَة له ، وَيَتَواشَجُ مَعَ هذا أيضًا إشارتُهُ إلى مُؤلَّفِ " المِنن الكُبرى" ، للشَّعرانيِّ ؛ بخاصَّةٍ في ما يتعلَّقُ بالميثولوجيِّ الدِّينيِّ ، وتناصُّهُ مَعَهُ ، وتحديدًا  شخصيَّة الشَّيخ شعبان المجذوب(2) 

 يتوزَّعُ الدِّيوانُ على ثلاثةِ أقسامٍ تحمل العنوان ذاته: ” حيوات مفقودة “، ويأخذُ كلُّ قسمٍ مِنهَا علامَةً تعريفيَّةً تُشيرُ إلى ترتيبِهِ وِفقًا للرَّمزِ اللاتينيِّ ؛ وَبذَا يُصبِحُ الجَمْعُ بينَ التُّراثِ العَربيِّ في التَّصديرِ، وَالآخرِ الغَربيِّ في التَّقسيمِ ، بمثابَةِ المجاوَزَةِ للمَعْنَى المَألوفِ للتُّراثِ ، وَإضَافَة لَهُ. لسْنَا هُنَا أمَامَ أجْزَاءٍ مُنْفَصِلَةٍ ؛ بَلْ نحنُ أمَامَ تنويعاتٍ لحيوَاتٍ مُتعدِّدةٍ ، يتنوَّعُ ” الفقد ” فيهَا مَا بينَ الميثولوجيِّ الدِّينيِّ:(كَرَامَاتِ الأوليَاءِ) في القِسمِ الأوَّلِ، وَانْشِطَارِ الذَّاتِ في القِسمِ الثَّاني، وَمُسَاءَلةِ الآخَر في القِسْمِ الثَّالثِ . يستعيرُ الشَّاعرُ كثيرًا مِنْ آليَّاتِ السَّردِ في نَصِّهِ ، مُضَفِّرًا إيَّاهَا في بنيتِهِ ، غَيْرَ أنَّ حضورَ السَّردِ هُنَا يبدو مُرْتَهَنًا بالشِّعريَّةِ بالأسَاسِ ، وَبدرَجَةِ تحقُّقهَا ؛ وَلذَا فهو يخلقُ لنَا حَكْيًا شِعريًّا  رَهيفًا، وَمُتَمَاسِكًا في آنٍ ، بدءًا مِنْ الاسْتِهلالِ النَّصيِّ ، وَحَتَّى المُخْتَتَمِ :

وَلَمْ يكدْ شريف يخرجُ مِنْ أمِّهِ حَتَّى مَشَى ،

 وَتَوَقَّفَ ،

 وَصَاحَ :

 هَذَا أنَا

وَهَذِهِ وِلادَتِي الأخيرَةُ

فَاسْتَغْفِري أيَّتُهَا الطَّواغِيتُ

 وَاصَّدعي يَا جِبَالُ

هذا أنا

سأضع حداً للنازعات

وللفناء .”(3) 

ثمَّةَ رُوحٌ تُحاولُ أنْ تُرَمِّمَ تَاريخَهَا المَنْسِيَّ ؛ ذِكريَاتِهَا الَّتي تُحَاولُ أنْ تَعْرفَهَا، حَتَّى إنَّهَا تعتقدُ نفسَهَا دِينَاصُورًا كانَتْهُ مُنذُ خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ مليون عَامٍ ، أوْ شَجَرَةً ، أوْ صَوْتًا ، أوْ نُقْطَةَ مَاءٍ ، وَيَتَجَلَّى هَذَا كُلُّهُ عَبْرَ توظِيفٍ دَالٍّ لِفَضَاءِ الصَّفحَةِ الوَرَقيَّةِ ، وَلَعِبٍ فنِّيٍّ على مُسْتَوَيَاتِ التَّشكِيلِ البَصَريِّ ، وَالأصْوَاتِ المُتَعَدِّدةِ المُتَجَاورَةِ زَمَنيًّا ، وَالمُنْبِئَةِ عَنْ تَدَاخُلٍ وَاعٍ بينَ مِسَاحَاتِ الغِيَابِ، وَالحُضُورِ ؛ لذَا، فَمِنْ المُمْكِنِ أنْ تَجِدَ في الصَّفحَةِ الوَاحِدَةِ ثَلاثَ بِنْيَاتٍ شِعريَّةٍ كلّ مِنْهَا قائِمَةٌ ، وَمُسْتَقِلَّةٌ بذَاتِهَا ؛ حَيْثُ نَرَى مَثَلاً بِنْيَةً تَتَمَحْورُ حَوْلَ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ :             ” أنَا حَاليًا  شَريفٌ أيُّهَا البَحْرُ

وَالَّتي يُوَازيْهَا ، على فَضَاءِ الصَّفحَةِ :

على رَبْوَةٍ مَهْجُورَةٍ

 سَأبْتَنِي لِي قَبْرًا

 قبرًا على قدِّ  قُرْفُصَائِي ،

 وَأثقُبُ في صَدْري كُوَّةً

 لأُطلَّ مِنْهَا

 وَتَتَسَرَّبُ رُوحِي إلى المَدَاخِلِ .”(4)

أمَّا البِنيَةُ الثَّانيَةُ فَهِيَ بنيَةٌ حِكْمِيَّةٌ الطَّابعِ ، وَمِنْ دَلائِلِهَا :

 ” لِكُلِّ صَبْوَةٍ وَاشْتِهَاءْ

 طَلْقَةٌ في مَنَازلِ الأحْشَاءْ

  وَيُوَازيهَا في فَضَاءِ الصَّفحَةِ المُقَابلَةِ :

أنتِ عَاصِفَةٌ تُجَمِّرُنِي هُنَا

 وَأنَا انْفِجَارُكِ تَحْتَ جِسْمِي في المَدَى .”(5)

أمَّا البنيَةُ الثَّالثَةُ فهِيَ ذَاتَ نَزْعَةٍ مَلْحَميَّةٍ ، مِثْلَمَا نَرَى في المَقْطَعِ التَّالِي :

 ” وَأعْجَبُ الأحْوَالِ حَالِي ؛ فَرَغْمَ أنَّنِي لمْ أذُقْ طَعَامًا مُنذُ لمْ أعُدْ أدْرِي ، تَحُطُّ على رَأسْي الطُّيورُ، وَتأكلُ مَا تَشْتَهِي ، وَأنَا كَحَرْبَةٍ مَزْرُوعَةٍ في كَبِدِ الأرْضِ العَرَاءِ أُرَتِّلُ…”(6)

إنَّ ” حَيَوَات مَفْقُودَة ” نَصٌّ مُنْفَتِحٌ على إمْكَانَاتٍ تأويليَّةٍ عِدَّةٍ ، تَحْضُرُ فيْهِ إحَالاتٌ ، وَتَرْمِيزَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ إلى التُّرَاثِ الإنْسَانيِّ بِشقَّيْهِ ؛ الشَّرقيِّ وَالغَرْبيِّ ، مِنْ جِهَةٍ ، كَمَا أنَّ بِهِ تَرَاكُمًا مَعْرفيًّا ، وَجَمَاليًّا كثِيفًا مِنْ جِهَةٍ ثانيَةٍ :                                                    

 ” الرَّحْمَةَ يَا رَامبو

 يَا سَان جُون بيرس

 يَا هِنري مِيشو

 يَا فرناندو بِيسوَّا

 يَا كَافكَا

 يَا جُوته

 يَاأحْشَائِي.”(7)  

يأخذُ القِسمُ الثَّانِي إمَّا تواريخَ ميلاديَّةً ، أوْ اسْمًا لأحَدِ أيَّامِ الأسبوعِ : (الأرْبَعَاء ، الخَمِيس ، الجُمْعة…)، غيرَ أنَّ ثمَّةَ نصًّا مركزيًّا في هَذَا القِسْمِ ، ألاَ وَهُوَ الأرْبَعَاء”، يحْوي إشَارَةً نصِّيَّةً إلى تلكَ الحَيَواتِ المَفْقُودَةِ، الَّتي عَاشَتْهَا الذَّاتُ الشَّاعرَةُ ، أوْ تَمَنَّتهَا منْ قبلُ ؛ فتبدو فيْهِ جَدَليَّةُ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ ، الوجُودِ وَالعَدَم:

 ” لا شَكَّ أنَّ كثيرينَ مِنْ قَبْلِي، عَاشُوا في هَذَا الجَسَدِ، وَأنَّني بِالتَّأكيدِ، عِشتُ قبلَ هَذَا الجَسَدِ في كَائناتٍ أخْرَى، مِنْ قبلُ ، صَحيحٌ أنَّني لا أسْتَطيعُ أنْ أتذكَّرَ مِنْ حَيَوَاتِي المَفقودَةِ ، على وَجْهِ الدِّقةِ أشْيَاءَ ، وَلكنَّنِي على يقينٍ بأنَّ عديدينَ مِنِّي ذَهَبُوا على التَّوالِي ، وَبقيتُ وَحْدِي، وَأنَّهم يَتَوَافدونَ عليَّ وَلا أرَاهُمْ، وَمَعَ هَذَا فلمْ أزَلْ قادرًاعلى الحَيَاةِ. “(8)      

 وَفي كلٍّ  تحيا الذَّاتُ أزمَةً مُحتدِمَةً ؛ فَتَتَوَهَّم قرينًا مُتَخيَّلاً تارةً ، وَظِلاًّ وَاهِيًا  تارَةً أخْرَى، وُصُولاً إلى انْشِطَارِ الوَعْي ، وَيَصِيرُ السُّؤالُ أداةً ناجِعَةً لتلمُّسِ العَالمِ:            

أنَا حَتَّى الآنَ لا أسْتَطيعُ أنْ أجْزِمَ تمامًا إذَا مَا كُنتُ في الأصْلِ، حَيًّا ، وَيَنْتَابُني مَوْتٌ مُؤكَّدٌ، أمْ أنَّنِي في الأصْلِ ، مَيِّتٌ ، وَأصْحُو على فَتَرَاتٍ، قَليْلاً . “(9)  

 ثمَّةَ حُضورٌ للعَامِ ، وَالتَّماسُ مَعَ السِّياقِ السِّياسِيِّ/ الثَّقافيِّ في القِسْمِ الثَّالثِ مِنْ الدِّيوانِ ، وَيبدو الحَادي عَشَرَ مِنْ أيلول (سِبْتمبِرَ) بمثابَةِ الزَّمنِ المَرْجِعِ في هَذَا القِسْمِ ، وَيَتَّجهُ الشَّاعرُ هُنَا إلى مُسَاءَلَةِ الآخَرِ، وَإقامَةِ تفاعُلٍ نِدِّيٍّ ثقافيٍّ مَعَهُ :

كُنَّا على هَذينِ المِقْعَدَينِ مَعًا

 أنَا وَشَريفٌ

 مُحَاصَرينِ بإرْهَابِ مُحَارَبَةِ الإرْهَابِ

 شَارِديْنِ كَجَمْرَتينِ

 وَلا أعْلَمُ الآنَ أيُّنَا غَادَرَ الآخَرَ بغتَةً

 وَلمْ يَعُدْ. “(10)

يبدو شريف رزق مَسْكُونًا بقصيدَةِ النَّثرِ إبْدَاعًا ، وَتنظِيرًا ، وَهُوَ هُنَا يخلقُ مَسَارَهُ الشِّعريَّ الخَاصَّ ، لا بِصِفتِهِ أحَدَ أهَمِّ شُعَرَاءِ جيلِ الثَّمانينيَّاتِ في القَصِيدَةِ المِصْريَّةِ فَحَسْب ، وَلكنْ بِاعْتِبَارِهِ حَامِلاً رُؤيَةً نافذةً للعَالمِ، وَوَعيًا  حَادًّا بِهِ ، يُعَدُّ نتاجًا لِخبْرَةٍ مَعْرفيَّةٍ ، وَجَمَاليَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَمُغَايرَةٍ في آنٍ   

……………………………….

 الهوامش

 (1) حيوات مفقودة – شريف رزق – مكتبة الأسرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب – ( طبعة ثانية ) – 2011

(2) حيوات مفقودة – سابق – ص :17

(3) حيوات مفقودة – سابق – ص :  11

(4)  حيوات مفقودة – سابق – ص : 16   

 (5) حيوات مفقودة – سابق – ص : 17     

(6) حيوات مفقودة – سابق – ص : 17

(7) حيوات مفقودة – سابق – ص : 21

(8)  حيوات مفقودة – سابق – ص : 39  

(9) حيوات مفقودة – سابق – ص :  

(10) حيوات مفقودة – سابق – ص : 55

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم