شريعة القطة .. قصة الخلق من منظور دنيوي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. سعيد الوكيل

شريعة القطة للقاص والروائي طارق إمام نص ملبس، بدءا من العنوان، ولا سبيل إلي تحقق قدر معقول من الفهم والتواصل معه إلا عند الوصول إلي نقطة النهاية. وهو كذلك نص جريء (بالجيم وليس بالباء) علي مستوي الرؤية والتقنية والتشكيل اللغوي والتخييلي. نشرت دار 'ميريت' هذا النص بعد أن نشر الكاتب مجموعتيه القصصيتين 'طيورجديدة لم يفسدها الهواء' (1995م)، و'شارع آخر لكائن' (1997م). وبنشر هذا النص يتأكد لنا روح المغامرة والجدة الإخلاص للإبداع لدي الكاتب والناشر علي السواء.

من الصعب أن ندرج هذا النص بيسر ضمن نوع الرواية، إلا بقدر من التأويل والتسامح النقدي والرؤية البعيدة التي تحاول مجاوزة ماهو راسخ أويشبه الراسخ، تطلعا إلي ما هو جديد يسعي إلي توكيد جمالياته الخاصة لنقل إذن إن هذه الرواية تخاطب متلقيا خاصا، لديه استعداد لأن يؤسس مع المبدع نفسه تأصيلا مختلفا لمفهوم الجنس الأدبي.يفاجئنا النص ابتداء باعتراف من المؤلف الحقيقي أو المجرد: ‘لا أستحق عقابا.. إنني أقص الحكايات وحسب’ ( ص7)، في الصفحة التمهيدية التالية للإهداء الذي ذكر فيه اسم طارق، ولكن يختفي اسمه في التمهيد ليبدأ السارد في الظهور إنه لايروي رواية، بل يحكي ‘حكايات’ تدعي صدقها وواقعيتها، واقتصار دور الراوي علي قولها بدون تزيد، ومن ثم يتحقق لها الصدق وحيادية السارد، وهو مايعني براءته وعدم استحقاقه لأي نوع من العقاب،

وهذا التهميد وحده يلفت النظر إلي أننا بصدد الدخول إلي مساحة سردية شائكة صادمة وهي حقيقة لا تخطئها عن القاريء المتأمل.ويبدو بناء الرواية قاصدا إلي خلخلة الأبدية التقليدية، منشغلا ببنائه الخاص الذي يتسق مع الرؤية المقدمة، حيث تنقسم الرواية إلي نصفين تقريبا: النصف الأول فصل مكتمل بعنوان ‘في ستة أيام’ يسرد فيه تخلق روح تلك القطة وما تمخضت عنه، ثم يأتي النصف الثاني ليسرد لنا التجليات المختلفة لتلك القطة، عبر فصول يحمل الأول والثاني اسمي مؤسستين من مؤسسات تشكيل الإنسان اجتماعيا ودينيا وسياسيا هما ‘الدير: والمصنع’، وبعدهما فصول تحمل عناوين ‘الحب’، و ‘الحرب’، و’الضريح’ ويحتوي كل فصل علي مجموعة من الحكايات التي قد تبدو متباعدة للوهلة الأولي.الرواية هاهنا تكاد ¬ حقا ¬ تكون مجموعة من الحكايات المتجاورة لشخوص مختلفين، يسردها سارد واحد عليم بكل صغيرة وكبيرة، وبكل خافية ومعلنة، لكن السارد ليس عنصر الربط الوحيد، بل تتجلي رمزية القطة في كل أنحاء الرواية القطة لا تبدو كائنا حيا متجسدا، بل تبدو معني غامضا، أو روحا خفية تعبر عن ‘الوعي الجمعي الانساني’ أو ‘الوعي الجمعي الشعبي’ أن صح التعبير. الرواية تعبر عن التقلبات التي تمر بها تلك القطة، أو لنقل تلك الروح الكامنة التي تعبر عن نفسها في صور مختلفة وتجليات شتي.من السهل أن تختزل تلك الروح، فنفهمها تعبيرا عن الروح المصرية التي تشكلت عبر العصور، ومرت بأزمات حضارية متعددة ومحاولات دءوب من قوي مختلفة لخنقها ووأدها، لكنها بسبع أرواح، لاتكاد تفقد روحا حتي تبعث من جديد إنها روح تبحث عن تحقق لها في صور مختلفة من ‘الحب’ و’الحرب’ (وهما عنوانا فصلين)، لكنها تنتهي إلي أن تواري في ‘الضريح’ (وهو عنوان الفصل الأخير)، حيث ‘نامت دون كوابيس تذكر’. إنها الأم الحاضنة المحبة مانحة الزاد لكنها ¬ في أوقات أخري ¬ الأم التي تأكل أبناءها لا خوفا عليهم، بل شراسة وقسوة.هذا تأويل يجد الكثير مما يرجحه، لكنه لن يكون التأويل الأول والأخير قد يمكن النظر إلي القطة بوصفها رمزا للطاقة الروحية السارية في الكون، مازحة بين روح الهدم والبناء! بين الألم واللذة، بين الموت والحياة وقد تكون تعبيرا عن روح الإنسان نفسه في تجلياته المختلفة وتناقضاته الكثيرة وكأن هذه الرواية نوع جديد من كتابة التاريخ الخاص بالكائن الإنساني، وقد يساعد علي هذا الفهم أن الرواية بدأت بفصل تحت عنوان’في ستة أيام’.كأن الرواية تروي من جديد قصة بدء الخلق، ولكن من وجهة نظر أخري أرضية دنيوية، لا تحفل كثيرا بالميتافيزيقا المتاحة، لكنها تحاول أن تؤسس ميتافيزيقا أخري موازية.يقدم النص رؤيته من خلال تقديم معادلات موضوعية لعناصر التشخيص داخل الرواية. الأشياء لا تكاد تسمي بأسمائها، بل هناك دوما تعبير يتقنع بمختلف الأقنعة قد يكون هذا موقفا جماليا، لكنه كذلك تعبير إيديولوجي عن الخوف من التعبير المباشر عما هو محرم البوح به أو مساءلته.تمتليء الرواية بالتعبير الساخر، ولاتكاد تحفل باللغة المنمقة التي تدعي قداسة ما، بل إنها تحارب ذلك النوع من اللغة، وقد تخضعه لسخرية لاذعة، كما في المقطع المعنون ‘حكاية القطة والشاعر العمودي’، حيث تصاب القطة بتسمم إثر التهام قصيدتين عموديتين. ويحرص النص علي أن يظهر بطريقة ساخرة بعض العناصر المرتبطة بالقصيدة العربية العمودية القديمة كالناقة والرمال والرماد، إضافة إلي شبح ذي عقال يخرج من بطن القطة يحمل سيفا ويختفي في ردهات المستشفي.يسخر النص كذلك من التحولات المصاحبة للإنسان في العقود الأخيرة، خصوصا تحوله إلي كائن استهلاكي، بل تحوله إلي عنصر منهزم كسر في آلة الرأسمالية الضخمة.ولعل ‘حكاية زيت الذرة’ أكثر الحكايات تعبيرا عن هذا المعني، ويتم التعبير عن ذلك بلغة وتصوير ساخرين لايخلوان من تخييل مدهش.الملمح الأساسي في التخييل داخل الرواية هو الاعتماد علي الصور الحلمية والكابوسية، ومن ثم تخرج الصور من منطق المعقول إلي اللا معقول ولا يحفل النص كثيرا بأن يتمكن المتلقي من استقطاب كل أبعاد الرواية بل يبدو قانعا بأن تسرب إلي وعي المتلقي مايريد التعبير عنه من خلال صوره المتنوعة وحكاياته المتعددة.الرواية التي تسرد التحولات التي طرأت علي ذلك الكائن الرمزي (القطة) تحرص علي أن تظهر التناقضات داخل ماسنته من شريعة تم نسخها عبر العصور، لكنها لم تفقد هويتها إلا في آخر مراحل حياتها، حيث تعرضت لحالة أكثر قسوة،لا من النسخ فحسب بل تعرضت كذلك لحالة بشعة من المسخ

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم