شريط عبد الحليم: مشوار الأغاني الممكنة..  

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسام المقدم

  جميلة جدا تلك القصة، وجمالها نعرفه ونلتقي به.. أو نتمنى. "فاتت جنبنا"، تلك الكلمات العامرة بالقلق البِكر لحسين السيد، ولحن عبدالوهاب القارئ والهامس في روح المشهد كله. إنه مشوار الأسمراني الذي يشبهنا، وهو يمشي مع صاحبه في شارع ما، وفجأة تضحك الدنيا كلها مرة واحدة، حين تفوت بالصدفة بنت من ذلك النوع الذي يخطف في لمحة: "وضحكتْ لنا.. أنا وهُوا". من هذا الموقف العادي، وبقلب أخضر يقف للبسمة والضحكة واللفتة؛ يمشي شاعرنا قصّاص الأثر مع بطليه، أو مع بطله المُتكلِّم الذي توحدنا معه، حين القلبُ يَحمَرُّ خجلا كما الوجه، ويتجاوز قضبان ضلوعه مُراوغا حيّا بنبض حقيقي. القلب الذي يفتك به الشك الكبير في الضحكة التي قلبت الحال، بل وأخذت معها الشمس نفسها: "أعرف منين إنها قصداني أنا.. مُش هوا.. وليه أنا ليه.. مش هُوا؟".

  يحدث كثيرا أن تُعاود الصدفة تكرار نفسها في مدى زمني قصير، وحينها لا نكون قد أخذنا احتياطنا الكافي لمواجهة نفس الموقف مرة أخرى. لقد أوشكنا أن ننسى ما حدث، أو أننا نسيناه فعلا. لكنّ قانون محاسن الصُّدَف، لو اعتبرناه قانونا، يكون له ترتيب آخر معنا، أو مع صاحبنا الذي رأى مرة ثانية، وبشكل يفوق أول مرة في رَجَّة القلب، التي نسمعها، ونكاد والله نراها(!) في صوت عبدالحليم الجامع لكل شجن الدنيا: "التَفَتّ لقيتها هِيا. حاجة مُش معقولة.. هِيا هيا". يمضي الجو الغائم بين "كلام الهمس"، والمونولوج المشتعل مع النفس لأن الحقيقة أصبحت ساطعة: "حبيتها؟ أيوا أنا حبيتها.. مُش قادر أنسى ضحكتها". في المقابل هناك الظن السيِّئ بالصاحب، في وجود حريق الغِيرة: "إن لقيت صاحبي بيضحك أقول.. دي لازم قابلتُه..". وكان لابد من فعل يناسب تلك الروح الحامية، المتشوقة لإنهاء كل ذلك بأي ثمن. لقد بحث ودار حتى وصل: "وعرفتْ طريقها عرفته.. وشقيت على بال ما عرفته". النهاية جاءت مع تصفيقنا للأسمراني الذي فاز وانتصر على صديقه المجهول، بكلمات قليلة من البنت العارفة الواثقة: "وقالت لي أنا من الأول.. بضحك لك يا اسمراني". فرحنا له من صميم قلوبنا، وفي نفس الوقت دخلنا الكادر مكانه.. ورأينا نفس الضحكة الندّاهة، الساحبة إلى مشاوير ليست كلها آمنة..

  كنت، أنا المسحوب المندوه، وفي صيف جحيمي يتوسط انتهاء الثانوية وتباشير الجامعة، أمشي كل يومين أو ثلاثة إلى بيت زميل دراسة في آخر البلدة. لم يكن صاحبا بالمعنى الحقيقي.. بالعكس، كان من النوع "الرخم"، الذي لا أرتاح له ولا لنظراته المتعالية غير الحميمة، ولا يمكن أبدا أن أحتمل الجلوس معه دقائق. لكنه كان يملك الجوهرة الخضراء التي تشفع له! نفس الجوهرة التي سحرتني من قبل.. منذ عامين تحديدا، في محل بقالة يقف فيه رجل "سمِّيع". لم أعرف اسمه ولا انشغلت بذلك، إنما تعمدتُ أن أفوت من شارعه باستمرار، وأدخل المحل مُدَّعيا شراء أي غرض. أقف متأملا التسجيل الناشيونال القديم الراقد على الرَّف، مستمعا لكلمات وموسيقى بها شيء يخصني. أتفحص الشرائط المرصوصة فوق بعضها. كلها خضراء مكتوب عليها بالأسود اسم الأغنية واسم الشركة: "صوت الفن". تعجبت لأن حظي ظل مرتين أو ثلاث يأتي مع نفس الأغنية، ونفس الكلمات التي تخرج من أحلى صوت خلقه الله: "فاتت جنبنا".. بقيت الكلمتان، بنفس اللحن، تدوران بداخلي وعلى لساني كثيرا، وبقيت أتكلم عن الأغنية لمدة طويلة لعلّ أحدا يعرفها، كما واظبتُ كعادتي على الراديو انتظارا لإذاعتها بلا أي نتيجة.. والمفاجأة أن الصاحب الرخم هو الذي ردّ ذات مرة بشكل عادي وبلا أي اندهاش: أيوا عارفها، الشريط بتاعها عندنا!

  لم أُصدقه، لكنه أكدَّ وحلف بالله. حينها، تحايلتُ وتوددت إليه بالزيارة، بعد أن جاهدتُ وعصرتْ على نفسي كيلو ليمون بحاله! رفضَ في البدء فكرة إعارتي الشريط؛ لأن أباه شدَّد عليه في عدم إعطاء أي حاجة لأحد! تحمّلتُ وجهه غير المُرحِّب بي، والكاره لنفسه وللدنيا كلها، في سبيل أن يضع الشريط في التسجيل الفيلبس الكبير. وحين يفعل ذلك وتتهادى موسيقى المُقدمة؛ يغيب عني وجهه وأنسى وجوده كله، بل أنسى أنني في بيته! أُغمض عينيّ، في طقوس تشملني ساعة السماع والغياب. كيف كان ينظر لي ساعتها ذلك المخلوق؟ لم يكن يُكلّف نفسه أي مشقة في إكرامي، من خلال شاي أو عصير أو أي شيء. يجلس على قلق، ويُكثر من الدخول والخروج. أضطرُ إلى فتح مواضيع أعرف أنه يُفضلها أكثر من أغاني عبدالحليم أو أي أغانٍ بشكل عام. أفعل ذلك لأَجُرّه إلى الكلام، في حين أبقى أنا متظاهرا بالإصغاء وهَزّ الرأس. يندمج وتنفرج أسنانه ويُضيء وجهه قليلا. لا يسكت كأنه ماسورة وانفتحتْ. أُفكر: هل هو أخرس طوال اليوم ولا يتكلم مع أحد؟ تنتهي الساعة وقد شبعت من شريط عبدالحليم على الوجهين، ولم أسمع كلمة مما قالها ذلك الصاحب. أُغادر دون رد على دعوات تكرار الزيارة مرة ثانية، رغم علمي أنني سأُكررها. أعرف وجهتي جيدا بعد ذلك: المشي على الرصيف القديم، والتمتع بوحدة ليست كاملة، في صحبة الكلمات والموسيقى التي لا تزال تشغي في دماغي وصدري.. غناء غناء غناء.

  غناء حتى تمتلئ الروح وتفيض على الطريق الساكت والغيطان النائمة، مع تَمثُّل عبدالحليم على المسرح، في النظرات واللفتات وحركات اليدين مع الإيقاع. غناء عاشَ، في ذلك الزمن الصعب، ولم يَمتْ إكلينيكيًا رغم كل شيء.

  والآن.. لنا أن نسأل: هل لمشوار الأسمراني من نهاية؟ وإلى أي حد ما زالت الأغاني مُمكنة؟

 

  لا، لا ينبغي أن نسأل تلك الأسئلة، لأننا ما زلنا نُغني ونُغمض أعيننا، ولأن الأغاني الحقيقية هي قلبنا، هويتنا، انتماؤنا، اتجاهنا، فكرنا، لحمنا ودمنا في بعض الأحيان. بهذا المعنى نحن نوجد بوجود أغانينا، وننعدم بانعدامها. هنا لابد أن يفيق الذي ليس له أغنية، ويدرك أنه في الخارج، ولن يدخل أبدا دائرة الفصيلة التي شربتْ أغانيها في المهد، وبعد ذلك كتبتْها على السبورة في المدارس، وزرعتْها مع التقاوي في الغيطان. لن يعرف سر الانحناء على النار الضعيفة للأغنيات، وإحاطتها بالكفين لصد هبوب الرياح من كل مكان. نعم، نفعل كل ذلك بدأب وسباحة دائمة ضد التيار؛ لتكون لنا أغانينا، ولتكبر فينا كل يوم قوة الجاذبية الحياتية، التي تفوق كثيرا الجاذبية الأرضية. وأما لماذا نفعل ونقاوم في مشوار بلا نهاية؛ فذلك لأننا نرتعب من نهاية عبثية لحياة لم نرغب فيها، حيث تكون كأنها خيط دخان، تنبأ به عبدالحليم في "قارئة الفنجان".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتب مصري                 

 

مقالات من نفس القسم