“شجرة العابد” … حديث الإنس والجن والبحث عن شفرة ابن عربي

شجرة العابد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فتحي أبو رفيعة

آه يا حفصة. استدار الزمن، وتسربت السنون من بين أصابعي. أنت مستريحة الآن في الملكوت الأعلى، وأنا معذب بالانتظار. ما يزيد على مائة عام وهيئتي على حالها، كأنني لا أزال أدب وراء القناوي في شوارع المحروسة منتظرا لحظة الانقضاض على السلطان الجائر. تعاقب السلاطين وغارت نفسي في كل حالات التمرد. واحدة بقيت مشتعلة طيلة الوقت، إنها الانتصار على نفسي’.
السطور المقتبسة أعلاه هي جزء من فقرة طويلة تبدأ وتنتهي بها رواية ‘شجرة العابد’ للروائي (والباحث والمفكر والناشط السياسي) عمار علي حسن، والتي صدرت طبعتها الثانية مؤخرا عن دار الشروق المصرية. وما بين الفقرتين يصحب المؤلف القارئ في رحلة بحث طويلة أشبه برحلة البحث عن شفرة دا فنشي (في رواية دان براون الشهيرة، في ضوء ما يمكن أن يلمسه القارئ من أوجه تقارب واختلاف كثيرة بين العملين: من قبيل الطرح المنبثق من أفكار دينية، أو التركيز على عملية بحث مضنية سواء وراء أسرار أو وثائق أو كنز أو عن حقائق دينية واقعية أو غيبية، أضف إلى ذلك الاستغراق في الرموز والإشارات والتحليلات). غير أن فارقا جوهريا يميز ‘شجرة العابد’ عن ‘شفرة دا فنشي’ هو أنه في حين اتخذت هذه الأخيرة طابع الإثارة والطابع البوليسي كان محط تركيز الأولى هو الفكرة الصوفية التي يطرح المؤلف كنهها عبر مواقف أبطاله وأقوالهم (وأقوال أئمة الصوفية أنفسهم)، وفي ظل خلفية اجتماعية وسياسية تمثل نموذجا لواقع ما قبل الثورات بما يمور به من سخط الشعوب ونضالهم ضد حكام فاسدين ومستبدين، ولذلك، فإن عمار، وهو عالم الاجتماعي السياسي المرموق، يهدي عمله إلى ‘صناع الثورة المصرية الحقيقيين، الذين فتحوا أمام أقدامنا، التي تورمت من الجلد والسحل والقهر، طريقا وسيعا نحو الحرية، وجعلونا نشعر أن كل ما خطته أناملنا من حروف لم يكن حرثا في بحر’.
تتحدث الشجرة عن نفسها في مطلع الرواية بما قد يتصوره القارئ أنها شجرة المعرفة أو الوجود: ‘لا تجعلوا الأسئلة تثقل رؤوسكم بالهموم، لأنكم لن تعرفوا إلا ما أبوح به، وإن بحت فستدركون القليل مما انطويت عليه من أسرار تكويني. هنا تحت قدمي العملاقة يقف الناس مشدوهين تملؤهم أسئلة لا نهاية لها عن منشأي ومسيرتي، يقولون ما وسعهم من أحاديث، ويخمنون بقدر ما تسعفهم أذهانهم المكدودة من التفكير في حالتي وهيئتي. لكنني لم أفصح أبدا عن أسراري إلا لرجل واحد، كان العابد الذي جاءني يفيض عشقا، فأخذته بين أحضاني المتشابكة الوسيعة، وألقيت في قلبه طمأنينة مما ألقاها الله في جوفي العميق’.
ويتحدث العابد إلى الشجرة فيحكي لها (ولنا) قصته حيث نعلم أنه كان طالب علم في مصر المملوكية انخرط في صفوف المجاهدين ضد السلطان، لكنه انجذب إلى حياة التصوف عبر رحلة طويلة آثر المؤلف أن يخطها في قالب أشبه بقوالب حكايات ألف ليلة وليلة. يقول الفتى (واسمه عاكف): ‘خطفتني السياسة من العلم، حين فتح لي صديقي محمد القشيري بابا وسيعا بينهما. كان يقول دائما إن العلم من دون عمل لا قيمة له، وأكبر عمل يقوم به العالم هو مقاومة الباطل والظلم ونصرة الحق والعدل. وكان يقضي ليالي طويلة يتحدث عن خير مصر الذي ينهبه السلطان والأمراء والحاشية الكبيرة، ويستعيد ما يعرفه عنهم. ôفي ليلة لا أنساها، وضعت يدي في يده مبايعا على المقاومة، ثم اكتشفت من بعد أن الطريق إلى مناهضة السلطة يمر بالسلطة نفسها’.
يتذكر الفتى في مطلع الرواية وقوعه في حب فتاة، فإذا هي من بنات الجان. وعلى مدى النصف الأول من الرواية الطويلة (أكثر من 400 صفحة)، تصحبنا هذه الجنية بين الأرض والسماء بحثا عن ورقة تكشف سر الشجرة الذي يسعى إليه الكثيرون لما يتصورون من أن تحتها كنزا ثمينا. وخلال الفترة التي صاحبته فيها الجنية (واسمها نمار) بدت عليه ‘كرامات’ تصور الناس أنها تصدر عن ولي من أولياء الله. وخلال هذه الفترة أيضا، يختفي عنصر الزمن. تقول له: ‘الزمن في الفضاء البعيد يمر بسرعة، بينما يسير على الأرض في تمهل شديد’. حينما تعود به إلى الأرض بعد رحلة سماوية، يكتشف أن عمرا طويلا قد مضى:
أتقصدين أن سنوات كثيرة قد مرت؟
ثلاثون عاما على الأقل.
حسبتها ثلاثين يوما على الأكثر.
على الأرض، وبجواره الجنية نمار، تكثر ‘كرامات’ الشيخ عاكف ويعم صيته البلاد فيستدعيه السلطان لعلاج ابنته من مرض حار فيه الأطباء. وعلى الأرض أيضا، يتذكر عاكف أحبابا ومريدين قدامي من رفاق الكفاح ضد السلطان، ومنهم صفوان المقاتل الجسور الذي يعتقله السلطان ويأمر بقتله، لكنه يرضخ لمشورة عاكف بأن هذا الخيار سيكون وبالا على البلاد، فيأمر السلطان بإرساله ضمن المقاتلين ذودا عن الوطن، تاركا وراءه زوجته حفصة التي يمكن اعتبارها بطلة أساسية في الرواية جنبا إلى جنب عاكف ونمار. فهي العابدة الصوفية التي تقود عاكف إلى طريق اليقين، ومن خلالها تتجسد الرؤية الصوفية التي تمنح المرأة هذه المكانة ولا تفرق بينها وبين الرجل في هذا الشأن. وتعتبر وجهة النظر تلك من أركان رؤية ابن عربي للمرأة ودورها في المجتمع، وهي رؤية تطلعية وسباقة حول مفهوم الأنثوية وقضايا تحرر المرأة.
لقاء عاكف بحفصة كان، في حد ذاته، نوعا من المعجزة بالنسبة إلى كليهما، فهي ابنة الحاج حسين الذي التقاه عاكف بعد عودته من رحلته السماوية مع نمار، ومعه كانت بداية السير على الطريق الصوفي الذي تساعده حفصة على السير فيه حتى يصل إلى غايته. تصف حفصة أباها قائلة: ‘كان صواما قواما، صافي النفس، لم يضمر لإنسان شرا أبدا، ينام كجدول صاف، ويستيقظ كشلال هادر، عاطفة حارة، وذهن متوقد، ونفس تواقة إلى الاكتمال’.
هذا اللقاء بحفصة كان نقطة تحول في سير الرواية، إذ بعدها يدرك عاكف تحول عواطفه من نمار إلى حفصة، وتدرك نمار نفسها هذا التحول، وتقرر، ربما أيضا انطلاقا من مفهوم النزعة الأنثوية الذي تسبغه الرواية على نساء ابن عربي، تقرر التخلي عنه: ‘لا أستطيع أن أبقى معك وأنت تفكر في غيري، أنا غيورة، وناري لا تبرد أبدا. ولا أريد لقوة الغل التي تصطلي بها نفسي أن تؤذيك’.
وتتتابع أحداث الرواية بعد خروج نمار من حياة عاكف ليواصل رحلته الصوفية على يد حفصة، التي تقوم وهي على فراش الموت بتسليمه العهد الذي أخذته من أبيها قبل وفاته. يقول: ويدي في يدها، طلبت مني أن أردد وراءها:
‘أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، تبت إلى الله ورجعت إلى الله، وندمت على ما فعلت، وعزمت على أنني لا أعود إلى ذنب أبدا. اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وحملة عرشك وأنبيائك ورسلك وكافة خلقك وأنت خير الشاهدين على أنني قد اتخذت ورضيت وقبلت أختي هذه في الله تعالى ومرشدا إليه على طريقة شيخي الحاج حسين، وشيوخه معروف الكرخي وذي النون والجنيد. وإني عاهدت الله وأعاهد الله وأعهد إلى الله وأشهده على نفسي، بأنني قد التزمت السمع والطاعة لشيوخي، فلا أخالفهم بقلبي ولا بجوارحي ولا بلساني، وقد جعلت هذا نذرا علىَّ لله تعالى وعهدا شرعيا صحيحا صريحا جازما ناجزا باتا ظاهرا وباطنا ما دمت حيا’.
قبيل نهاية الرواية، تصدر عن عاكف أقوال تضيف المزيد من الغموض عن سر الشجرة: يقول لأحدهم ‘شجرة الكنز في خيالك أنت، أما في حقيقتها فهي شجرة مباركة، لا شجر مثلها إلا ثلاث، واحدة في الفضاء عند ملك الجان، والثانية في قعر البحر المظلم، والثالثة هنا على الأرض، لكن ليس مأذونا لنا أن نراها’. وفي موضع آخر يقول عاكف إن حفصة ماتت ومعها سر الشجرة.
وفي مكان آخر من الرواية، يورد المؤلف، على لسان أحد أبطاله، قوله:
– سمعت عن هذه الشجرة من أبي، الذي سمع عنها من جده، وجد جدي بحث عنها، وترك لورثته ورقة مرسوم فيها صور القرآن على هيئة شجرة ومكتوب تحتها (‘أَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ).
وإمعانا في الرمز والالتباس، يورد المؤلف هذا الرسم وهو أشبه بشجرة من أشجار أرز لبنان (من حيث استواء فروعها الأفقية)، ويعبر كل فرع من هذه الفروع عن سورة من سور المصحف الشريف، وطوله على قدر آيات السورة.
في ختام الرواية، تكتمل عناصر البحث (أو اللغز) الصوفي، إذ يصل عاكف إلى (جبل الجلالة)، كما تسميه الرواية، حيث يمضي العابد سنين لا عدد لها إلى أن يحل عليه ذات يوم كائن خرافي يقال له ‘البادوق’، الذي يصحب العابد في رحلة سماوية توحي بأجواء ملحمة ‘استرداد الفردوس’ في قصيدة جون ميلتون الشهيرة التي كتبها بعد عمله الأشهر ‘الفردوس المفقود’.
هنا ستكون نهايتك السعيدة. أرضك نادتك، فخل الدنيا وراء ظهرك.
وكأن آدم يعود إلى الجنة من جديد متطهرا من كل ذنوبه، وحينما يتذوق إحدى الثمرات، ويشعر فجأة أن بدنه عار فيسارع إلى تغطية سوءته، يبادره هاتف بالقول:
لا عليك، لا أحد يراك. ترى نفسك فقط. ارفع كفيك إلى السماء، واترك نفسك للأيام. ستتوالى عليك سنون لا تتعب في عدها. لا تشغل نفسك إلا بما لا يشغل الناس، وطب مقاما أيها العبد الصالح.
يصدِّر عمار على حسن روايته التحفة بقول مأثور من أقوال محي الدين بن عربي، وهو: ‘كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه’. ومعلوم أن للشيخ الأكبر رسالة تحمل عنوان ‘ما لا يعول عليه’، ومنها هذا الاقتباس، وربما اقتباسات أخرى، وإن وضعها المؤلف على لسان أبطاله، وربما بصيغ مختلفة. ففي ثنايا الرواية يلفت نظر القارئ هذا الكم الكبير من المأثورات والأقوال الصوفية والآيات القرآنية والأوراد (جمع وِرد، بمعنى النصيب من القرآن أو الذكر) مما يجده المرء كثيرا في كتابات الصوفيين: مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ من لا يحزن يمت قلبه؛ كثرة الضحك تميت القلب؛ وكثرة الحزن تقتل النفس؛ يا ليتني حفظتها قولا وأخلصت لها فعلا؛ لا يثبت اليقين على حال وإلا صرنا آلهة؛ وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره.
لعله من المناسب أن أشير هنا إلى دراسة بعنوان ‘حكايات العشق الصوفي: ابن عربي والمرأة والجنس’ (Sufi Narratives of Intimacy: IbnArabi, Gender and Sex, 2012)، نشرتها مؤخرا جامعة نورث كارولاينا الأمريكية للباحثة سعدية الشيخ الأستاذة بجامعة كيب تاون، والتي تتناول بعمق آراء ومواقف ابن عربي تجاه المرأة والتي تؤكد هذه الرؤية التطلعية والسباقة عن مكانة المرأة وعلاقتها الوجودية بالكمال الإنساني. ولعل المؤلفة قد وضعت يدها في هذا المؤلَّف على ما يمكن أن أسميه شفرة ابن عربي بأبعادها الروحانية والإنسانية والصوفية، وبما توليه من إعلاء لمكانة المرأة باعتبارها تشكل، مع الرجل، محور الوجود الإنساني، وبما تتضمنه من تأصيل فريد للعلاقة بين الرجل والمرأة. وهذا أيضا هو ما حققته رواية ‘شجرة العابد’ من خلال رؤية فريدة، وإن كانت ملتبسة ومراوغة شأنها شأن الموضوع المتعمق الذي تناولته.
على إحدى صفحات الرواية، يتذكر بطلُها شيخَه القناوي، ويقول إنه ‘كان ينصحني بعيدا عن بقية التلاميذ بقراءة كل ما تقع عليه عيناي، لكن بعقل ابن رشد، ونفس ابن حزم، وقلب ابن حنبل، وفهم ابن خلدون’. وأظن أن هذه هي الرؤية التي اعتمد عليها ـ والنصيحة التي عمل بها – عمار علي حسن في كتابة روايته، انطلاقا من مفهوم عبَّر عنه في لقاء صحفي أجري معه مؤخرا (الحياة اللندنية، 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2012)، بأنه يؤمن بأن العلم الإنساني واحد وإن تعددت فروعه، وبأن الكتابات على تنوعها تستند إلى إطار واحد متماسك أو منظومة متجانسة من القيم.
‘ ‘ ‘
مقتطف من ‘شجرة العابد’:
‘شعرت بغصة في حلقي، لأن الفرصة لم تسنح لي أبدا للعيش إلى جانب الحاج حسين، لأنهل من الحقيقة، كما نهلت من الشريعة ذات يوم بين يدي القناوي، وعرفت منه أن الدين ثورة عظيمة، أخمد البشر جذوتها المباركة حين حولوها إلى طقوس يؤديها أغلبهم بلا تدبر، ولم يعرفوا أن نفاق السلاطين الجائرين من أكبر الكبائر، وأن الاستسلام لأحكامهم الظالمة وكأنها قدر محتوم شكك خفي بالله. علمني القناوي كيف أجاهد من أجل الحرية، لكنه لم يعلمني كيف أحرر نفسي أولا. كنت أصرخ في صحن الأزهر والشوارع الخلفية في آذان الناس كي ينفضوا الخوف من قلوبهم ويتبعوا القناوي إلى القلعة في يوم الخلاص الكبير، وكان يصرخ داخلي جوع جارف إلى الطيران. طالما صعدت إلى سطح البيت المتداعي الذي كانت حوائطه تسترني وراقبت الطير الذي يمرق محلقا في الفضاء الرحب، وأغمضت عيني ورفرفت، وخلعت روحي من جسدي الضامر، وأطلقتها تحوم حول شواشي النخيل، ثم تصعد إلى عمق السماء البعيد”.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم