كان هناك سنترال وحيد وكئيب، بعيد، يقع على تلّة على أطراف المدينة الصغيرة التي تقول الأسطورة الدينية أن النبي محمد حارب فيها يهود خيبر، وفي “الحصن” الذي يجاور السنترال على بُعد أمتار وُئدت أحلام استيطانهم بالمنجنيق، كان “الحصن” بثقوبه المحفورة لغرض الاختباء والاصطياد هو المكان الأثري الوحيد في المدينة، كان الحصن أهرامات الكادحين، نُزهة العطلات الصيفية مع أطفال ونساء الجيران. تليفونات السنترال تعمل بالعُملة، وكانت تقتضي طقوس التأقلم التي مارسها بابا على وجه التحديد بجديّة ودأب يُحسبان له، أن نعقد سباق مع عدّاد العُملة والزمن، نُمرّر عبارات التحيّة والاشتياق والسؤال عن الأحوال وتلخيص أخبارنا ومستجداتنا في الغُربة، كل هذا دَفقة واحدة، في جملةٍ واحدةٍ طويلة وغير مفهومةٍ غالبا؛ دقيقة أو دقيقتين، ونحتاج إلى دَفع عُملة جديدة، على قدر عُمْلاتنا هذا اليوم من الشهر؛ تَطول أو تَقصر مكالمات الأهل والأحباب. لم أر هذا السنترال في حياتي في النهار أبدا، كنا نضّطر إلى الذهاب مرّة أو مرتين في الشهر إلى السنترال في الليل بعد انتهاء دوام والديّ في المدرسة، وعادة يكون اليوم الذي يصطحبونني وأخوتي معهما فيه هو نهاية الأسبوع، حيث لا نضّطر للاستيقاظ مبكرا للحاق يومنا الدراسيّ، وكانت خلف السنترال غابة لم أرها أيضا إلا في الليل. أساطير الغُربة يمكنني أن أحكيها يوما: الغابة أو هكذا كنت أظّنها، الليل، والنبات الشوكيّ الذي كان يَكسو مدخل الغابة ويَمتليء بها، ثم تلك الأشجار الصغيرة التي ما إن نضغط على أغصانها وأوراقها تنزّ منها مادّة لونها لون الحليب. قيل لنا مرّة ولم أنس بعدها أن اسمها نبتة الشيطان!





