يُصدّر “وحيد الطويلة” روايته “أحمر خفيف” بجملة لابن خلدون: “الصفاء التام لا يكون إلا بالتوحش التام”، التوحش الذى يبدو واضحًا أنه أحد طموحات هذه الكتابة، طموح لغتها، وشخصياتها التى تسّاقط منها الحياة فى كل ما تفعل، لكن وللوهلة الأولى، هل يبدو أن هناك تناقضًا بين الصفاء والتوحش؟ لن يكون إذا كان الامتلاء بالحياة هو المقصود بالتوحش، فحتى السماء لا تصفو تمامًا إلا بعد أن تمتلىء وتتوحش بالرعد والبرق والمطر، هذا التوحش الذى يحضر فى الروايتين، باللغة الحيّة، الفائرة، الحنون المبطنة بالقسوة أو أنها القاسية المبطنة بالحنو، والتى فى ذاتها، تفاصيلها، تراكيبها، ومجالها الحيوى، تشبه شخصيات وعالم كلاً من الروايتين، لغة مندفعة، لا تكترث، وغير مهتمة بتهذيب أغصانها أو أطرافها الحادة، فالحياة لا تهتم بأن تفعل ذلك، ثم هذا الزحام من البشر، الملائكة، الشياطين، الجن، العفاريت، الحيوانات، القتلة، المقتولين، الحياة، الموت، اللصوص، المطاريد، العشاق، الجوع، الشبع، الجنون، الغرام، اللذة، والجموح، وغيرهم أشياء وكائنات أخرى تمتلىء بهم كل من الروايتين، لتبتدع عالمها الذى يقف بمنتصف دائرة من الأسطورى والواقعى والخيالى ليصنع منهم مزيجًا يخصه، ولتصنع كلٌ من الروايتين قريتها، التى عندما تصدق أنها واقعية وموجودة فى مكان ما، ستسرع بنفى ذلك، وتصدق أنها لا بد خيالية، أو أنك تبدأ برؤيتها خيالية ثم تراها واقعية، دون أن تحسم رؤيتك فى أىّ وقت، إلا أن هذا فى النهاية ليس بالشىء المهم، ما يهم أن تلك القرية موجودة فى الرواية، أنها قابلة للتصديق، وتحمل مبرراتها الفنية.
هل قلت قريتان؟ فى رأيى أن للروايتين قرية واحدة، فتلك الموجودة فى “ألعاب الهوى” هى نفسها قرية “أحمر خفيف”، لكن بعد أن أُطلق فيها المزيد من البشر، الملائكة، الشياطين، وصخب الحياة الرائع، وغمرتها موجة أسطورية أعلى، ومسّها لون أحمر خفيف، ارتفعا بها أكثر، ومنحاها المزيد من جموح الأسطورة، فالكثير من الشخصيات التى نصادفها فى “أحمر خفيف” سنشعر بظل لها فى “ألعاب الهوى”، والظل هنا ليس تكرارًا، لكنها الشخصيات التى تواصل أسطورتها فى مكان آخر، أو أنها تحلّ فى شخصيات جديدة لتكمل حياتها أو موتها.
“الشيخ حامد” فى “ألعاب الهوى”، و”محروس” فى “أحمر خفيف” كلٌ منهما يبدو ظلاً للآخر، أو أنه يلقى بظله على صاحبه، وكلٌ منهما فى روايته يحاور الموت على طريقته، ويصنع أسطورته التى يمكن دمجها بسهولة فى أسطورة صاحبه، تمامًا مثلما يمكن أن نفعل مع كل أساطير العالم والحياة، تلك التى تحلّ فى بعضها البعض، ويكمل بعضها بعضًا، “الشيخ حامد” نراه فى الصفحات الأولى من “ألعاب الهوى”، وهو يدخل فى حوار قصير لا يخلو من المزاح مع ملك الموت، ينتهى بأن يقول له الملك: “أنا ماشى ومش هاغيب يا شيخ حامد”، ويتركه هذه المرة بلا موت، وفى “أحمر خفيف” تصادفنا أول جملة فى الرواية: “النعش على باب المستشفى، والملائكة أيضًا”، ونرى “محروس” فى سرير المستشفى بين الموت والحياة، وطوال حياة الراوية إلا قليلاً سينتظره النعش، وتنتظره الملائكة، بينما يدخل هو فى حوار لا ينتهى مع الموت، غير أن الحوار هنا يكون جادًا بلا أىّ مزاح.
هل تكون “الفنجرية” فى “ألعاب الهوى” وجهًا آخر “لعزيزة” فى “أحمر خفيف”؟ وكلٌ منهما غريبة عن القرية، لا أحد يعرف أصلها ولا أسرارها، بينما تعرف الكثير من أسرار الآخرين، كل منهما أنثى مغوية، وإن كانت “عزيزة” ليست جميلة بمقاييس الجمال التقليدية، لكنها تملك جسدًا أكثر من جميل، وملامح مغوية تعد باللذة، لها رائحة حلوة، وروحًا خفيفة، هل كان “العنانى” فى “أحمر خفيف” صدى “للحاج قرد” فى “ألعاب الهوى”، وكلٌ منهما ينتظر الفرصة لينقض بطريقته على قريته وإرث عائلته بعد أن يمرض الكبار أو يموتوا، ويتلّهى البقية من الرجال كلٌ فى شروده و”موّاله” الشخصى؟
“ألعاب الهوى”، و”أحمر خفيف” كلٌ منهما تُلقى بظلالها على الأخرى، مثلما تفعل أساطير العالم مع بعضها بعضًا مهما كانت المسافة الزمانية والمكانية.
كل من الروايتين تبدأ بلعبة الموت ثم تدخل سريعًا فى لعبة الحياة، تمزجهما معًا، وتمارسهما بشبق كبير، شبق للموت_ شبق للحياة، غير أن الموت فى “أحمر خفيف” يبدو أكثر جديّة منه فى “ألعاب الهوى”، فنراه يلقى “بمحروس” فى سريره بالمستشفى دون مساحة من المزاح، ويبدو دومًا مستعدًا للانقضاض وإنهاء مهمته، بينما “إنصاف” ابنة “محروس” تجلس على الأرض بجوار فراشه تحاول أن توقظه وتمنع عنه هذا الموت الجاد، هذه الجديّة التى لن تسمح “لمحروس” بأكثر من أن ينادى من وقت لآخر على أحبابه أو أهله ” يا عزت.. يا فناجيلى، يا…..”، لكنه يظل فى احتضاره دون أن يغادر عالم ما بين الموت والحياة، فى “ألعاب الهوى” يحضر الموت بصورتين، إحداهما بها الكثير من المزاح واللعب يمارسهما “الشيخ حامد”، وهو يتحدث مع ملك الموت ويناديه باسمه أحيانًا، وباسم التحبّب أحيانًا أخرى، كأنه أحد أصحابه أو أنه “معرفة قديمة”، المزاح واللعب سيسمحان “للشيخ حامد” بأن يتنقل بين عالم الأحياء والأموات، بين عالمين مختلفين لكل منهما طريقته، سيسمحان له أن يبحث عن “حسنة” يطلبها ممن يعرفهم، ويمارس خلال بحثه الكثير من اللعب والسخرية والمزاح، إلا أن تلك الحالة من المزاح تتغير عندما يأتى ذكر الموت بمفردة “الموت” أو إحدى مشتقاتها، حيث يحضر الموت كفكرة، بكل تراثه مع البشر، لا فى صورة ملك يحادثه “الشيخ حامد”، فيكون وقع “الفكرة” على الروح والقلب أقوى من وقع “صورة لها”، لأن تجسيد “الفكرة” لا يمكن أن يحيط بها كاملة، لذا، عندما تظهر مفردة “الموت” يصير الحديث جادًا وثقيلاً، حتى إن الجملة التى تظهر فيها تلك “المفردة” بأىّ مكان من الرواية، ستكون دومًا قصيرة وحاسمة.
فى “ألعاب الهوى” يبدو التعامل مع ملك الموت وكأنه أحد زوّار القرية المعروفين، الذى قد يأتى ولا يصحب أحدًا معه، فقط يتمشى ويتحدث إلى البعض، أو يقول لشخص ما ببساطة ودون تهديد إنه سيرجع إليه قريبًا، لكنه فى “أحمر خفيف” سيكون جادًا ومستعدًا طوال الوقت، هل هو موت آخر؟ أم أنها أسطورة أخرى؟ أم أن الظلال والأساطير تتشابه، وفى النهاية يبقى لكل أسطورة طريقتها وأسلوبها؟
الموت يتمشى طوال الوقت فى الروايتين، لكن بأساليب وشخصيات مختلفة، هل يعود ذلك لشخصية من يتعامل معه؟ سيحاور “الشيخ حامد” (ألعاب الهوى) معظم الوقت ويكون متساهلاً معه، بينما يحوم بجديّة حول “الشيخ قرد” (ألعاب الهوى) لسنوات، وخلالها ينتظر الجميع نهايته، لكن ما يحدث أن الموت يغادره ويتركه للحياة، سيكون الموت أكثر جديّة مع “محروس” (أحمر خفيف)، عنيفًا وحادًا، يُحدّق فيه طوال الوقت، ثم لا يعرف أحد فى النهاية ماذا حدث بينهما، أو أنهما يريدان أن يبدو الأمر هكذا، أو أن الجميع يريدون أن يروا الأمر على هذه الطريقة التى لا تخلو من غموض، حتى وإن بدا أن “محروس” قد نهض من احتضاره، سيظهر الموت “للفناجيلى” (أحمر خفيف) منذ ولادته، ويُبقيه عالقًا بين الموت والحياة لثلاثة أشهر قبل أن يتركه للحياة، لكنه يظل ملازمًا لروحه طوال الوقت، وغير ذلك سيأخذ الموت الكثير من أطفال الروايتين بعد قليل من ولادتهم ( لم يصرّح الكاتب بشكل مباشر أن الموت قد فعل هذا فى “ألعاب الهوى”، لكن الجميع يعرفون أنه قد فعل)، يأخذهم قبل أن يكمل أيًا منهم سطرًا واحدًا فى روايته، الأهم من ذلك أن ظلّ الموت سيروح ويجىء طوال الوقت فى كل من الروايتين متقاطعًا مع ظل الحياة فيهما.
“اقتل موتك..اقتله بالحب”.
هكذا يقول “عزت العايق/ريفو/أبو سنة دهب لولى” (أحمر خفيف) المُحب للحياة، الشبق بها، “للفناجيلى” ابن عمه وصديق عمره، ليساعده على مواجهة الموت، ليدفعه للحياة، ليتجاوب مع “جنات” امرأته التى تحبه، وتحاول معه بكل ما فيها، لكن الموت الملازم لروحه يمنعه من التجاوب معها.
الحياة ستملأ الروايتين صخبًا، رغم كل هذا الموت، العشق والتوحش فى الحياة، الامتلاء بها، والرغبة والجموح فيها لن ينتهيا، ينطلق “عزت” فى الحياة مُحبًا لنساءها ومتعتها، غير عابىء بأى شىء، لا يُفوّت مؤخرة، حتى حمارته تعرفه و”ترفع مؤخرتها وتفتح ساقيها”، لا يبكى “عزت” على شىء فى حياته إلا على ما يفوته منها من متعة ومؤخرات، ستصفعه النساء كثيرًا بملبن أجسادهن “يُصعرّن له الملبن، يضربنه به خفيفًا” -ويلك يا عزت-، ومثلما يتقاطع الموت والحياة فى الروايتين، فإن “الفناجيلى” الذى قيّد الموت قلبه وروحه، سيلازم “عزت” الذى أطلق قلبه وروحه للحياة، فيصاحبه فى جموحه، يبكى معه على المؤخرات الضائعة، ويكون شاهدًا على مغامراته النسائية، لكنه لا يشاركه فيها، وطوال الوقت يتمادى “عزت” فى شبقه بالحياة، ويحاول أن يدفع “الفناجيلى” إليها: “اقتل موتك بالحب”.
فى “أحمر خفيف” تُحلّق كل شخصية فى أسطورتها الخاصة، وتشارك بها فى صياغة الأسطورة/الحكاية الكليّة، نرى “أبو الليل”، “الساهر على ليله، محروم من كل شىء”، المجذوم، وهو يصاحب الليل هربًا من عيون وكلام الآخرين، يمارس السرقة ليس إلا لينتقم من تلك العيون التى تؤذيه بقسوتها، والنساء اللواتى يرفضنه لجذامه، وهناك فى ليله، يصاحب “فرج”، “الطائر، ولا عشّ، يجمع قشة من هنا وقشة من هناك”، صاحب البشرة السوداء، الذى يطارده تاريخ عبودية أبيه وجده، يعانى “فرج” من ماضيه هذا، ومن لونه، حتى يصير “عاهته”، التى بسببها ترفضه النساء، أو أنه لم يحاول حتى مع إحداهن، وفى الوقت الذى يحاول كل منهما أن يسمو فوق قسوة الآخرين، يبدو أن “أبو الليل” قد نجح فى التصالح مع عاهته بدرجة كبيرة، لذا قرر أن يؤجل فكرة الحصول على الوليفة لحياة أخرى، بهذا الترتيب: تصالح مع عاهته أولاً، ثم تخلى عن “وليفة” فى هذه الحياة، أما “فرج” فلم يتصالح مع عاهته بنفس الدرجة، لأنه مهتم طوال الوقت بأن يتوصل لطريقة يقهر بها تلك العاهة، والطريقة فى رأيه أن يتزواج بامرأة بيضاء، لكن أيًا منهما فى النهاية لا يحصل على “الوليفة”، ولا يصل للسلام النفسى الكامل إلا عندما ينفرد بنفسه بعيدًا عن قسوة الآخرين، أو عندما يُحلّق مع صاحبه فى ليلهما المشترك، ورغم كل شىء سيحاول كلٌ منهما طوال الوقت أن يسمو ويتعالى على قسوة الآخرين، فتترواح مشاعرهما بين السموّ، الألم، الانتقام، التعالى، التحليق، والسخرية، إلا أن “فرج” يكون أكثر حدّة، فتحمل طريقته الكثير من العنف والغضب، وهو يمشى رافعًا رأسه، فاتحًا صدره، يحدّث الآخرين بتعال متعمد يريد أن يشعرهم به، بينما يكتفى “أبو الليل” بأن يرفض النقود التى يضعها أخوه “محروس” له فى حجره، ويخرج ليلاً بخطّافه ونايه، يسرق ما يكفيه، ثم يسرق بزيادة ويرمى فى الشوارع والزوايا المعتمة، وعندما نرى مفردات “هبط”، “يهبط”، “يصعد” أو إحدى مشتقاتها فى كل ظهور ليلىّ “لأبو الليل”: “صعد الليل”، يهبط على الليل”، سنرى ونشعر علاقته الخاصة مع هذا الليل، ويبدو كما لو أنه يطير فيه أو يسبح.
سيكون “لأبو الليل” و”فرج” ظهورًا مميزًا دومًا فى (أحمر خفيف)، بتلك الهالة التى يصنعها الليل لهما وحولهما، وتلك الكتلة/التركيبة من المشاعر التى يشعلانها داخل الليل، فتضىء وتدفىء دون أن تحرق، ينسجان أسطورتين صغيرتين كل ليلة، ويصنعان جناحين مميزين للرواية ضمن أجنحتها لترتفع أعلى، ويظل كل منهما يحمل مأساته/أسطورته الصغيرة، ويسمو بها، فيجمعهما عالم وليل يخصهما.
من بين تلك الأساطير التى تحملها الشخصيات على كتفها، “الفناجيلى”، الذى يطارده الموت مع أول دخول له فى الحياة، ولا ينجو إلا بعد أن يضعوه رضيعًا فى النعش بين الأذان الأول لصلاة الجمعة والأذان الثانى، وحتى من لم تضرب حياته حادثة غريبة تفتح فى حياته مدخلاً سهلاً لأسطورة، فإنه يمارس حياته تلك بطريقة خاصة، داخل هذا الفضاء المشحون، فتمتزج حياته بحيوات كائنات مسّتها أسطورة ما، ثم هناك “راو” يدفع بحكايات، وطريقة حكى، ولغة، ترتفع بالمكان فلا يطير ولا يحط، ويظل يتقلّب بعوالمه، يمزج حكاياتها ومصائرها بعضها ببعض.
فى “ألعاب الهوى”، وعلى طريقته نرى “الشيخ قرد” وهو “يموت فى الحياة موتًا”، كما يصفه الكاتب الذى يدمج الحياة والموت معًا بتلقائية فى جملته، كان الموت قد لازم “الشيخ قرد” سنوات وكاد يحصل عليه لولا أخوه “النادى” الذى ظل يحمله على صدره ويعالجه فى أى وأبعد مكان حتى حصل له على الحياة، هل كان “النادى” يحب أخاه وفقط أم أيضًا يحب الحياة؟ وهو الذى فعل كل شىء ليحقق أحلام قريته.
“النادى” شبقه بالحياة كان على طريقة الحب، ثم “الشيخ قرد” بعد أن يغادره الموت نرى شبقه بالحياة لكن على طريقة الجشع.
فى نهاية الروايتين يحضر الموت من جديد، لكن هل تبدّل الأمر، وصار جديًا هذه المرة فى “ألعاب الهوى” وهو يظهر مرتين “للشيخ حامد” فى جنازة “نميرة”، وكأنه لن يتركه هذه المرة، ثم فى نهاية “أحمر خفيف” نقرأ جملتين هما معكوس جملتى البداية: “النعش ليس على باب المستشفى والملائكة تفرقت”، هل يبدو فى الأمر مزحة ما؟ ماذا حدث هناك؟ هل نهض “محروس” من احتضاره؟ لا أحد يعرف بشكل مؤكد، ولا أحد يريد أن يعرف، هل ألقى الموت الذى يميل للمزاح فى “ألعاب الهوى” بظلّه على الموت الجاد فى “أحمر خفيف”؟ والعكس أيضًا؟ هل تبادلت الروايتان شخصية الموت فى كل منهما؟
نساء “أحمر خفيف” و”ألعاب الهوى”، وكلٌ منهن فخ للغرام، تشارك على طريقتها فى صياغة وصنع الأسطورة/الحكاية، تتقاطع ظلالهن، لكن يمكن بسهولة تمييز كل واحدة عن الأخرى بحكاية صغيرة تخصها، أسلوب حياة، رائحة، طريقة غرام، ومثلما الحال دائمًا لا تكتمل الحكايات إلا بوجودهن:
“عزيزة” (أحمر خفيف)، “جسدها الفالت، روحها الخفيفة وطلّتها الحلوة، أنف نافر من الناحيتين مثل مهرة شبقة، فم شهوانى، ممتلئة بحساب، جلباب نظيف ورائحة حلوة”، ستكون فخًا للغرام حتى وإن كانت “عمشاء” كما هو حالها فى الرواية، ستحب “فرج”، وأخيرًا ترسل له إشارات ليطلبها للزواج وهى تمشى بجواره، وعندما يفهم إشاراتها لا يبدو متحمسًا للفكرة، لكنها لا تتراجع، تستمر فى محاولتها معه بكلامها المُحب، دون أن تستغل جسمها بشكل مباشر، لكن هذا الجسد لا يمكن أن يمنعه شىء عن أن يكون حاضرًا بقوة، ستكون هشّة، رائقة، ثم بشكل ما تتفهّم تمنّعه، هو الذى لن يتجاوب معها، لأنها غير كافية فى رأيه ليقهر بها “عاهته”، يريد/يحتاج امرأة بيضاء، و”عزيزة” ليست كذلك، لا يريد حبًا ولا متعة، لا شىء غير أن يقهر عاهته، لن تغضب “عزيزة” من تمنّعه، وعندما يسألها عن امرأة أخرى لا يبدو مهتمًا بها بشكل حقيقى: “هى هنيّة سخنة ولاّ لأ يا عزيزة؟”، ستقول له: “…..اللى أنا متأكدة منه دلوقتى إن أنا سخنة”، هنا تنكسر هشاشة “عزيزة”، تتهشم تلك اللحظة الناعمة عندما يصدمها جسد “عزيزة”، أفكر، هل يمكن أن تقول مثل هذا الآن؟ ربما فى وقت آخر.
“الفنجرية” (ألعاب الهوى)، امرأة وحيدة، جميلة، “تكسب من عرق جبينها، أكلَتها الألسنة عندما جاءت إلى البرية، لكنها شدّت شدتها على رأسها، حتى استرخت الشهوات عنها، بدت كرجل يكدح، لم تنحن لأحد، تبيع وتشترى، وعندما جرى القرش فى يدها فردت جناحها على المطاريد، ثم انتشرت يومًا بعد يوم تحت إبط النسوة وبين أفخاذهن”، بعد أن عملت “بلاّنة” تنظف الأماكن السرية فى أجساد النساء، تعرف أسرار القرية، ولا يعرف أحد سرها، فقط “النادى” الذى ساعدها فى بداية مجيئها للبرية ربما يعرف عنها شيئًا ما، “جميلة من الغجر” هكذا يقول عنها، ويبدو أن هذا كل ما يعرفه، “الفنجرية” فخ للجمال، لها حكايتها الصغيرة التى تُحلّق بها فى فضاء الأسطورة/الحكاية الكليّة.
“جنات” (أحمر خفيف)، تحاول مع زوجها “الفناجيلى” الذى يمنعه عنها ملازمة الموت لروحه، لكنها الآن “تقرفص أمامه، عيونها فى عينيه، تشد خيوط الخوف من وجهه، صدرها يقفز على صدره، تدسه ليشم رائحته التى عشقها، تكلمه بأعضائها، تُلصق الحاجات بالحاجات”، هل فضّل الكاتب ألا يذكر كلمة مكشوفة هنا، فقال “الحاجات”، أم أنه احتار ماذا يقول لأنه كان يريد أن يلاحق مشاعر “جنات” دون أن يتعثر فى فخاخ أعضاءها، فقال “تلصق الحاجات بالحاجات”؟ أم فكّر بأن “الحاجات” ستعبر بشكل أكثر عن عضوها/فخّها الحميم، أم أن المقصود “بالحاجات” هنا كل “حاجة” فيها، وكل “حاجة” فيه؟ سأختار لنفسى الحالة الأولى، أنه كان يلاحق مشاعرها.
وغيرهن كثيرات، “جنات”، و”عزيزة” التى سيكون لها دائمًا ظهور مميز يشبه ظهور “أبو الليل” وفرج”، ثم “إنصاف” ابنة “محروس”، التى ظلت عند قدميه وهو ممدد فى سريره بالمستشفى تتحدث إليه وتدعوه للنهوض من احتضاره، تفعل ذلك لمدة عدد كبير من الصفحات دون أن يبدو ما يُعرف به أنها ابنته، تظل طوال هذا الوقت مثل حبيبة زوجة وحتى أم، إلى أن تقول له: “قوم يابا”، وعندما نعرف ذلك لن تنمحى عن “إنصاف” صورة الحبيبة، فهى بالنسبة لأبيها “الإبنة الحبيبة”، كما أنه بالنسبة لها “الأب الحبيب”.
السخرية طبع أصيل فى لغة الروايتين، ليست متعمّدة، لا تفكر فى طريقة، ولا تبحث عن أسلوب أو مفردات تستعملها لتُصدّر عن نفسها هذا الانطباع، فالسخرية بالأساس أحد طباعها، وفى الوقت الذى يبدو وكأن شخصية ما قد خرجت من “ألعاب الهوى” لتحكيها بلغتها وطريقتها فى استقبال العالم والتواصل معه، وشخصية من “أحمر خفيف” قد فعلت معها نفس الشىء، فإن لغة “أحمر خفيف” توغل أكثر فى نبرة الأسطورى، وتحمل بُعدًا روحيًا، ذلك لحضور ظلال الصوفية والدراويش فى مساحات منها.
وطوال الوقت ستحمل اللغة فى الروايتين، أشواكها الحادة وأوراقها الرهيفة جنبًا إلى جنب، وبسهولة يمكن الوقوع فى فخاخ من مشاهد أو جمل تتناثر هنا أو هناك:
“الملائكة تعرق كأطفال تنقية الدودة”، “الليل يجعل الناس كلهم ذوى عاهات”، “تقترب أكثر، تلوّح أمام أنفه بملفحته، ملفحته الصفراء التى أخذتها منه، ودفنتها بين نهديها ليلة، وبين أوراكها ليالى وربطتها على سرتها شهورًا طويلة”، “قدماه خفيفتان، روحه ملونة”.
“أسئلة الحياة-أسئلة الكتابة”، تلك المعادلة التى لا بد وأن تتعامل معها كل كتابة/رواية، وأن تكون هناك مقاربة بينهما، وحوار يبدو كأنه لن ينتهى، يخترع أسئلة جديدة عنهما، ويفتح آفاقًا رائعة على العالم، الحياة، والكتابة، فى “ألعاب الهوى” و”أحمر خفيف”، بدا أن “وحيد الطويلة” كان مشغولاً بأسئلة الحياة أكثر من انشغاله بأسئلة الكتابة، يبدو أن هذا اختياره الشخصى فى هذين العملين، حتى وإن لم يكن هذا الاختيار متعمدًا بشكل كامل، بعد أن شارك فيه لا وعى الكاتب.
“شبق الحياة-شبق الموت”، كنت أفكر فى شبق الروايتين بالحياة والموت، وليس شبق الحياة والموت بهما، الروايتان تعيشان الموت والحياة، كأنهما بذلك تعيشان كل ما فى العالم.
الموت والحياة خُلقا ليكونا هنا، لنا، لعالمنا، و”ألعاب الهوى”، “أحمر خفيف” اختارتا أن تعيشا الحياة والموت حد الشبق.