محمد خير
“واصلنا نحن التحديق في النار، متجاهلين اقترابك. تعرف أن هذه عادتنا الأثيرة حين تعلو الدماغ ويصير لها أجنحة. ونعرف نحن أن التحديق في النار أمتع من الذهاب للسينما ومن قراءة الروايات، لأننا نختلق بأنفسنا الصور التي نشاهدها”.
تبدو الكلمات السابقة أكثر من مجرد أسطر عابرة في حكاية «يناير»، أولي حكايات مجموعة محمد عبد النبي «شبح انطون تشيخوف» (دار فكرة)، تبدو المجموعة كلها، القصص كلها، كأنها محكية في تلك الجلسة حول النار، لها تلك الحميمية وتلك البساطة التي يمنحها الليل حتي للمأساة، هناك الكثير من الحزن الكثير من التراجيديا، لكن المؤلف لا يلقيها في وجوهنا بل يمررها إلينا، يناولنا إياها كسيجارة مشتعلة في جلسة «تعلو الدماغ» فيها، هناك تأمل وثمة تعجب عابر من صروف الحياة، تعجب لا يخفيه بل يعلنه عبد النبي في كل سطر، مطلقًا العنان لمشاعر الراوي الذي يرتدي ضمير المتكلم الفردي حينًا والجماعي حينًا، ثم متنقلاً بين بقية الضمائر بسلاسة قلم مخضرم وحيوي في آن، يبوح راوي الحكايات بغضبه وبحزنه بل بغيرته أحيانًا من دون أن يخلّ بنعومة الحكي، بانسيابية السرد، ذلك أن الكتابة الرائقة هي عنوان المجموعة المكتوبة باستمتاع، كتابة تقترب من الشعر أحيانًا، سواء في الصياغة «فشلت في المطبخ وفي الحمام وفي البلكونة- حكاية مارس»، أو في الصورة «إنه يشبه رغبة في التثاؤب لم تتم – حكاية أبريل»، «ألم نشرب جميعًا من نبع الأخوة المخيف في صدره يا جماعة؟ – حكاية فبراير»، أو حتي في الخيال «كلما دخلت الحمام فاجأتك هناك فلاحة شابة تتعري في ترعة ضحلة- حكاية أغسطس»، و«أمها قاعدة تغسل، رغم أنهم دفنوها قبل سنوات- حكاية يوليو».
نحن أمام كتابة ليست كتلك التي يصفها صديق الراوي بأن ليس فيها «جملة واحدة صحيحة أو حتي جميلة، ثم إنه يحكي مذكراته الشخصية لا أكثر ولا أقل.كلهم هكذا، إذا زعل الواحد منهم مع صاحبته، يقوم يكتب رواية» والوصف هنا من الحكاية السادسة بعنوان «يونية»، لكن تسمية الحكايات بأسماء الشهور ليس لها أي مغزي محدد، هي محض لعبة لم تهدف ربما سوي لأن يسمّيها جميعًا في المفتتح «أصدقاؤنا الشهور»، لا يختلف ذلك عن لعبة أخري يستكشف فيها إمكانات جمع المؤنث في صفحتين كاملتين من الحكاية النزقة «ديسمبر»، حيث الراوية امرأة تخوض رحلة زمنية وجنسية بل ولغوية!، أو لعبة ثالثة «سبتمبر» يقود قارئه فيها بين عالم القصة وألعاب المسرح، فيستفيد من غموض السرد وحيوية الحوار، ماذا عن اسم المجموعة إذن؟ لا علاقة له بتلك الشهور، إذ إن «شبح انطون تشيخوف» معارضة قصصية نسجها المؤلف من وحي قصة تشيخوف الشهيرة «البدين والنحيف»، لا نري البطلين الروسيين في لغة عربية وعامية فحسب، بل يستجلبهما عبد النبي من محطة قطارهما إلي عيادة طبيب عبقري،أو مجنون، والمعالجة القصصية تبدو مسرحية أحيانًا، ولغة الحوار فصحي تتخللها عامية حسب الشخصية، أو حسب حالة الشخصية، والمعالجة برمتها لاتنتمي لبقية المجموعة إلا بأن منحتها عنوانها، كما أن ترجمة إنجليزية لها وحدها تضمها خاتمة الكتاب الانسيابي والشجيّ، الذي لا تتوقف شخوصه عن التعجب «يا الله! من كان يتصور شيئًا كهذا؟ مها؟ هذه هي لعبة التحولات والمصائر – حكاية مايو” .