شاي

سارة عبد النبي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سارة عبد النبي

 يترصد حواس ضحاياه في غفلتها، يعاير الضعف في ميزانه، كفة النظر مقابل كفة السمع. إحداهما تترنح خفتها لأعلى سريعًا، وثبة ارتشاف السحر..  يتخير الثغرة المناسبة لكل ضحية، ليخترق سهمه المسموم بالحيرة والقلق شغاف القلب.. تدريجيًا يتمكن الضعف، ويتداعى الخلل في باقي الحواس.. فتستسلم دون مقاومة..

 في الحقيقة ربما كل منهما يترصد الآخر، الضحايا بأعين نصف مفتوحة تراقب تحركات القناص، تخشى أن يفقدها، في زخم الوجوه المتألقة النضرة، التي تليق بالعشق وتتقنه، تخشى أن تضيع، تقدم القرابين وتنتظر المطاردة.

يقترب هو بحذر وذكاء وصبر، أما الضحايا فينفلتون، كالنجوم خارج المجرات، يتخبطون في فضاء حر، يغترفون  من آبار الوهم بلا حساب، ينهكون أنفسهم في اللاشيء، ويغزلون جراحهم بأيديهم أيضًا، يريدون ألا يفوتهم من الحب حتى قهره.

قهر الحب، من  يحتمل تلك اللوعة،  صولو كمنجات حزين، لا يتوقف عزفه، جملة النهاية تقودك للبداية من جديد.. يدفعك لأن تُسقط نفسك لأعمق مكان في نهر بارد، ليتجمد حزنك بداخلك.. أفق غائم يطبق على الروح، فتصبح جسما معتما، ظلا مكسورا على الطرقات الخالية، حيث انتظار بلا مواعيد..

سلم قلبه كضحية محتملة، وجد نفسه داخل الصندوق العجيب، وهو ما زال بعيدًا.. فغرق كعصفور صغير في ماء، كان يشرب منه بتعقل منذ قليل، جعل جسده آذان صاغية، وآذانه عيون مفتوحة، نهم الخيال.. مستلق، ينتظر مصيره بين قفازي الساحر. مستسلمًا لطعنات سيوفه وخناجره برضا. لأجزاء سيتفرق جسده، وتغترب روحه عما حوله، دون صراخ، دون دماء..

فطن للألم ينبت، وراعاه كقرنفلة صغيرة، ينثر لها الحنان، والشمس والظل والماء، كما تهوى.. تركه يندفع لأطرافه، استعذبه، لذيذ أحيانًا، يتدفق في خلاياه كالمخدر، خمر، سره مذاقه للمرة الأولى، وكان فيه من الزاهداين.. لكنه غامض حزين معظم الوقت، جعل عيونه شاردة، يلفها ضباب اليأس، ابتسامته لمن حوله محنة، حجر ضاغط على القلب.. قايد على الطمأنينة، في لعبة خطرة، منحته الحيرة قدر دائم.. كل الأشياء تريحه وتزعجه.. الانغماس.. الهروب.. لا احتمال راجح لديه…

على بعد أمتار من سيارته، يقف منتصبًا في صحراء، حوله بعض الأشجار العجوزة.. تتحرك غصونها بشق الأنفس، الأغصان يابسة والهواء ساكن.. جفاف الطبيعة الخانق..

 تطل من فتحة في أحد جوانبه الخشبية، في مواجهته، نخلة باسقة، يميل منها جبينها يمينًا ويسارًا، مستغرقة تمامًا في  السمع، وهو مستغرق معها، رحلة عبر الألحان، أصوات غارقة في النعومة، أحيانًا غارقة في الحدة، تنال من الحياة ما تريد عبر غناءها، لا حدود للمغامرة. عاصفة من الشجن، تجتاح حناجر لا مثيل لها في عذوبتها، فتُخلق العاطفة من العدم.. كل واحدة غريبة، جميلة، محيرة وشهية.. صوتها يشق السماء، تصعد بروحه الآهات لأعلى، فوق جميع الأشياء يطير، ويكون للنظر لذة أخرى. تمنحه تكرار مقاطعها الملح نشوة الدوران في فلك الحلم. وبهجتها تعوضه عن انقطاع الأمل، قطع من حبات سكر النبات تذوب تحت لسانه، تتدافع حلاوتها في حلقه كزخات مطر عذب..

خفوتها التدريجي في أذنه، لذة الضياع بعد الخسارة، اشتهاء الموت كملاذ أخير.. تشق السماء، فما بالك بقلبه الهش..

  زارت أذنه صندوق النخلة، كمن لم يستمع من قبل.. وهو على الطرقات، مسافر.. زاده في المسافات خيالات أغنية، عيون فتاة نجلة في مرآة سيارته، تبتلعه. سجائر، غرباء غايتهم الوصول، وتركه وحيدًا بعد الرفقة.

  أدرك أن أغنياته كانت بلا صوت، ومسافاته التي يقطعها خيال لم يعرف البهجة الخالصة، ولا الحزن الدفيء، الذي لا  غنى عنه في بعض الأحيان.. عندما تفجرت حوله الصحراء ألغام مفخخة، من نغمات حقيقية، تلتهمه. تتكون صورتها المطلة من الصندوق في واحدة، وتمحوها أخرى. 

في سيارته، هدنة بدأت قصيرة، يراقب طيفها النحيل، ثم استمرت ساعات، لا يمل…

لم يكن للصندوق وجود بالأمس.. أكان مستغرقًا في أفكاره لهذه الدرجة ولم ينتبه. أصوات ثرثرة ركابه حجبت عنه هذا السحر.. ولكنه لم يكن هنا منذ أسبوع على الأقل. بألوانه الباهتة كالطيف. وهذا المنزل الصغير الذي يحتمي خلفه. ربما هو سراب الصحراء الشهي، ماء الظمآن، ضلالات اليائس..

مر عليه في أوقات مختلفة من اليوم، نهارًا وليلًا، يباغته ليتأكد أنه حقيقة، الغريب أن الأصوات لا تنقطع.. في الليل طيف النخلة يغيب، الصندوق والمنزل يلفهما الظلام، يتوحدان.. ولكن الأصوات لا تخفت أبدًا.. ربما سكنته هو، عندما يمر بالمكان، تصدح روحه بها..

يومًا غادر سيارته عدة مرات مستكشفًا، خطوتان بالعدد ويعود مترددًا.. حتى الاقتراب الأخير، لاحظ أنها رأته، وجهها يمامة بيضاء صغيرة، عطوف. شعر برغبة أن يحتويه بكفوفه، هكذا سريعًا أحبه. رفعت عيناها مستفهمة، فألقى بقلبه المضطرب داخل مروجها الخضر. كانت السكرة الأولى، وضاعت كل الأفكار. هواء صباح شتوي بكر، لفح حدقتي العين برحيق زهرة. لم يرتبك، تحد وخز قلبه، أنغام نايه  الذي يئن..

-علبة سجائر وزجاجة مياه- تفضل- بكم- كذا- شكرًا… هذا كل شيء… وفي اليوم التالي، والثالث، حتى المئة.. يذهب ويعود بالسجائر والمياه. وسطوة ملاحة الملامح على قلبه. بهجة قصيرة وابتسامة يصيبها ذبول. لا شيء سوى ذلك.. ثم ماذا..

 لاحظ أنها بدت أكثر بشاشة. لان صوتها له كصديق، شيء من الألفة تحقق، ادعى فقدان هاتفه، حجة كلاسيكية، أعطها رقمه، طلب منها تنتظر خمس دقائق حتى يعود للسيارة، وتطلبه، ربما مفقود في مكان بها بعيد عن ناظره…..أتى صوتها قريب من أذنه،  شكرها، وأغلق مضطر. أصبح هاتفه طفله، لا يفارقه إين ذهب، كأنها تسكنه، ألم يمر صوتها من خلاله إليه، بين دقيقة وأخرى يتفحص الأرقام، يطل وجهها الجميل من بينهم، يجد نفسه يتمتم أغنية حب، فيها شيء من الأمل، والكثير من اليأس..

اقعد اشرب شاي… انفرطت فصوص قلبه على شفتيها وهى تنطق الكلمات. بين يديها وهى تصب له كوب. تسارع النبض كقطار، وتباطأ كنفس يصارع في حلق غريق.. قدماه سائلتان، عوده انسكب، شربته الأرض التي دعته للجلوس عليها.. تدفق دمه، باقة زهور حمراء تسبح وتتمدد لتصل لها.. كأن قلبه رضيع يصرخ، يسمع غناء أمه وهدهدتها للمرة الأولى، فيغفو هانئًا. يريد النوم كالمجهد ساعة الشفق بعدما طحنته الشمس، يلوذ بظل نخلة..

جملة من ثلاث كلمات، وكانت سؤال خاطف، كمن لا يعني الشيء فعلًا. البراد تهدر مياهه على النار، كوب واحد معد للاستخدام، تكاسلت في إعداد الآخر، الأغلب استحت منه، الأكيد عزومة مراكبية. وليكن، جملة من ثلاث كلمات تحصن بها قلبه كدرع أمان وطمأنينة، الرمق الأخير.. نقطة التقاء تمنها، قبل أن يتضاعف جبل الثلج بينهم، يتقاسمان الوقت والشاي والكلمات..

هو سراب حقًا، لا يشبه أي واقع عرفه، مذهولًا يتابعها، في خطواتها تتجلى ضلالاته. تتقدم ومعها الصينية عليها كوبين، ثم في نقطة معينة تتلاشى، تحجبها خيوط الشمس، تلفها بألف لون، وهج ينطفئ له أنوار العالم، يحترق بصره إذا استقر عليه ثواني.. تسقط غارقة في الرمال، فيمد شهقته من صدره حبالًا ليدها، تظهر قبل أن تستنزف حنجرته حياته.. تقترب وتبتعد.. تتسع حدقتاه إثر حركتها الوئيدة.. كأنها لن تأتي أبدًا.. يتقدم فخذيها ويتراجعا في تناغم مع خصرها النحيل، بديعة الصنع في سرابه الخلاق.. حركة جسدها المتأني مع ذبذبات الصورة المتكررة عشرات المرات، تخدعه، تمتد يده للكوب ملتاعة، ويجدها ما زالت تناضل في الوصول إليه.

اقعد اشرب شاي.. من أين أتت الغواية، وكان كلامها صارمًا، كحد السيف.. ورغبتها في أن يمضي تنذر رغبته  في البقاء.. وعيناها لا تراه.. ربما من الخبز، لِما أحضرته؟، حتى يطول اللقاء.. وكل شيء في خياله له تصور ونغم رنان.. على الصينية، ناداه جوفه الفارغ من حنان.. طالما أراد تذوق خبر امرأة يحبها.. تشمر ساعديها في فجر يوم نسمته رائقه، داخل الإناء منهمكة، ووجها يتجلى كالقمر في ضوء الحطب، والرغيف يتسع، قمر بلا مدى. وعلى الجبين قطرات، ضاعت بعض ملامحها منه، فقط حركة تشير للفم، يمضغ ما صنعت، مع ابتسامة غصنها الأخضر ممتد من القلب، وخاطرة تسري في البال، تسري في الجسد فيرتجف، سيتذوقه الحبيب عندما يمر غدًا.. يضحك.. خياله يريحه ويعذبه.. ملأ فمه بالشاي، وقلبه بالخبز، وعينه بالثناء على هذه اللحظات…

طرف الثوب الطويل، منسدل على الأرض، على مسافة منه، يغريه، هو منها وليس منها، أراد أن يمسه بأصابعه، كوصال بائس. لا إثم في ذلك، يثقل صحيفة ذنوبه. بأي عذر، وبأي جرأة لا يمتلكها.. نظر لأصابعه، أسلاك رفيعة شائكة، بها ثنايا من جلد أسود تغطيها، لم يلحظها من قبل.. دارى يده في ثوبه.. أبعد أقدامه عن ناظريها.. غاصت ملامحه في وجهه.. كيف لم ينظر في مرآة من قبل.  الحق أن رأسه هو المتعب الآن، أفكاره قهرت لذته. رأسه تريد هذا المهد، ياسمينات ثوبها البيضاء، وموجات الأزرق الحزين التي تتدافع خلفها، كامتزاج الشمس بماء النهر، تمتص عينيه، كل أفكاره، تمتصه.  يريد السقوط، يذوبه الملح ويمحيه.. غنيمة للعدم..

أين الكلام.. جفت حنجرته، وانزوت في حلقه، لن يتقدم خطوة إلا بالكلام..  أراد أن تشبه كلماته قلبه، حتى لا يغترب معها، لو كلمها كما يكلم الناس لأنفك السحر، وانتهى كل شيء…

-بتسمع مين في الطريق يا أسطى.. يا الله، بهذه البساطة نطقت أول جملة.. فكر.. ما تكون الإجابة الصحيحة.. يريد الإجابة الصحيحة- أم كلثوم – فل عليك يا أسطى..  أحبك يا رب، رددها في قلبه. يومها أحب الست أيضًا.. من عندها لباقي طريق الرجوع، شجته الآهات، وأسئلتها الجارحة المحيرة، التي لا جواب لها، هو صحيح الهوى غلاب.. ولدت في قلبه كل أغانيها التي يعرفها والتي لا يعرفها، صوتها وطن يحتمى به ساعة القلق، صلة أبدية، ربطته بها كلماتها تلك، قرأ لها الفاتحة مئة مرة, أقسم أن يزور قبرها يومًا ما، يخبرها بامتنانه لكل حرف من حروف اسمها، لصوتها الواثق حتى في حيرته، لن يخونه مع غريم.. من أين له بهذا الصدق، التألق في المناجاة، التردد المريح في الهجران، العبور بسلاسة بين العتاب والحنين والاستسلام.. 

  فى المساء احتضن الراديو، قبله، ومن شوقه لها بكى، وهى تقول بدلال معرفش أنا.. كانت تهمس له بقلب يخفق على طرف لسانها، اقعد اشرب شاي. أليس صحيح،  طعمه ما زال عالقًا بريقه.. صدى يؤنسه، وفتنة لا تقل عن فتنة أغنية حب للست.. ذاب صوتها في نسمات الليل، في أوردة قلبه.. على استحياء قام وتمايل مع كمنجات اللحن الحزين، ارتجف في وحدته، عندما وجدها تتمايل معه.. بعيد، في غرفتها الصغيرة، ذرات النور تتسرب من مصباح مشتعل في سقف ممر ضيق مؤدي للغرفة، تنثر ضوئها الشحيح على ثنايا الجسد، ببراعة تلاعبه لعبتها المفضلة، الغواية، هنا ظلام، هنا ضوء، تبرز وتخفي، ترسم بدقة خطوط الفتنة المتوارية في الأثواب. تسقط على شعرها الأشقر الذي يستأثر الهواء بفلتانه، فيتضاعف الضوء، ينير حواف فكها الرقيق، المسحوب لأعلى، منحنى حاد، وطن يعبره، كمن يمشي على حبل، لا يخشى السقوط، ولكنه يخشى التوهان.. تجده المروج الخضر مراساة. تتأرجح بين جفنيه وهو يغالب النوم..

 ثم يهرب من جديد لنشوة الصحو، كلما يتذكر اندفاعها وحديثها الأخير بلا تكليف.. فل عليك يا أسطى- فل علي عيونكِ أنتِ.. ينتفض قلبه من مكانه لعندها.. الكشك الصغير، المنزل، وهى، ثلاثة في مواجهة كثافة الظلام وكآبته.. لِما لم يبقى.. كيف حملته قدماه من عندها، ربما كان عليه أن يموت هناك.. جيش جرار من الأفكار تفتك برأسه.. تختفي الغواية كفتنة أنثى.. وتبدأ الغواية كمخاوف تهلك قلبه عليها.. وحيدة تنفض غبار الشقاء والأحزان، تاريخها متأصل على بشرتها الشاحبة، خطوط جبهتها، نحولها الشديد، كلماتها التي تلتصق بحلقها.. أصابعها أسلاك شائكة، تشق الأثواب إذا مستها، وأقدامها مغبرة بالأتربة، فوق طبقات من جلد أسود يكافح الموت.

يراها تدخل البضائع.. صناديق الكولا والمقرمشات.. وحدها.. تتلفت.. كمن يخشي شيئا سينقض بين لحظة وأخرى.. تمسك طرف ثوبها وتحبكه عليها من هبات هواء معتم، كأن التصاق الثوب ونس.. تعد نقودها القليلة ويكسو وجهها الكدر، فينبعث في نفسه شعور بالضآلة، قلة الحيلة.. هذا الليل الذي كان يضمه سعيدًا، راقصًا نشوانًا، الآن يطل كوحش يلتهمها بعيدة عنه، كلب أسود يركض ورائها بتحد، يتضاعف سواده مع المسافات. يصبح غير محتمل, عندما تغلق الباب، يرتد في صدره.. خلفه عالم تصدر فيه أصوات السيارات ممزوجة بمرور صوت رياح الصحراء، متقطعة موحشة..  يدفن رأسه في الوسادة -بتسمع مين في الطريق يا أسطى – ندائها الخفي يلاحقه – نظرة وكنت أحسبها سلام وتمر قوام.. يستيقظ في سكون الليل، نفسه يضيق، كأن به قطع من سحاب غائم، ينذر بالمطر، لكنه لن يمطر أبدًا.. يضع البراد على النار.. يصب كوب ممتلئ.. لا تغريه رشفة واحدة منه.. ثم يهج في الخلاء الممتد..  يتطلع للأفق.. ربما ينجيه… فتشير إليها أذرع النجمات..

 

مقالات من نفس القسم