شاهيناز الفقي: أرفض تصنيف الأدب.. و أتطلع لقضاء إبداعي يسمح بالاختلاف وحرية التعبير

shahinaz al feki
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورها: صبري الموجي

تلمس في حديثها الصدق، وفي إبداعها التميز والقدرة على شدّ انتباهك من بداية العمل إلى نهايته، بدأت النشر متأخرة بعدما اكتمل نضجها الفني، وتملكت أدواتها، فكانت ” سعيدة .. ملحمة العشق والحرية ” أول أعمالها الروائية إرهاصا بمولد نجمة حقيقية في عالم الرواية، ثم توالت أعمالها، التي تلقفها القراء، وأشاد بها النقاد، فأصدرت رواية ” سنوات التيه “، و ” يا شمس أيوب “، و” حتما سوف يأتي “، و” نزيل جهنم “، ومجموعتها القصصية ” الدبلة والمحبس “، وعددا من القصص المترجمة للإنجليزية، إضافة إلى الشعر والنقد، امتازت بالخيال الرحب، والتعبير عن آمال الإنسان وآلامه .. تطالب بفضاء يسمح بالاختلاف والتعبير الجريء، وترفض التصنيفات الجامدة في الأدب، وترى أن العبرة بجودة الأدب وليس بكثرته .. مع الروائية المدهشة شاهيناز الفقي يدور الحوار.

قلتِ إنه ليس لديك خطوط حمراء في الكتابة .. أليست هذه جرأة غير محسوبة العواقب في مجتمع شرقي ؟

في مجتمعاتنا الشرقية، كثيرًا ما يُختزل مفهوم الخطوط الحمراء في إطار العلاقات الجسدية والجنس، باعتبارها من (التابوهات) المحرمة، لكن ما أعنيه هنا هو حرية التعبير عن الرأي، وانطلاق الفكر في سماء الإبداع دون قيود تحدُّ من الخيال أو تحاصر الكلمة. نحن بحاجة إلى فضاء يسمح بالاختلاف والتعبير الجريء، شريطة أن يكون هذا التعبير بعيدًا عن الفجاجة، ومتزنًا في طرحه، يحترم الذائقة دون أن يرضخ لرقابة المجتمع الصارمة، ورغم أنّ الرجل الشرقي قد نال قدرًا من حرية البوح، ما زالت الكاتبات تُحاصَر بضوابط ثقافية وأعراف اجتماعية  تُحجم طموحهن الإبداعي وتكبل أقلامهن.

تنوعت أعمالك النثرية بين الاجتماعية والنفسية والتاريخية، ولم يحط سفينك على شاطئ واحد .. فهل هو جموح الإبداع لخوض عوالم متعددة أم أنها حيرة البحث عن الذات؟

التنوع في أعمالي الأدبية سمةٌ أساسية تُميز كتابتي، لأنني ببساطة لا أؤمن بالتصنيفات الجامدة في الأدب، فلا أرى ما يُسمى بالكتابة التاريخية أو الاجتماعية أو أدب الرعب بوصفها حدودًا تفصل بين الأجناس، بل أتعامل مع الكتابة باعتبارها وسيلة للتعبير عن الإنسان، وعن قضاياه الإنسانية الكبرى، أيًا كانت الأزمنة أو السياقات، ويظل انفعالي الصادق بقضية ما هو المحرك الأول والدافع الحقيقي وراء الكتابة، لا التصنيف ولا التخصص، فعندما تراودني فكرة أو تؤرقني معاناة إنسانية، أجد نفسي أكتبُ، بغضّ النظر عن الإطار الزمني أو الشكل الأدبي الذي قد يندرج فيه العمل. فعلى سبيل المثال، رواية “سعيدة ملحمة العشق والحرية “، تتناول مفهوم الحرية، وصراع الفرد مع العبودية، سواء كانت عبوديته لسلطة خارجية أو استلابه لذاته، وتدور أحداثها في أواخر القرن التاسع عشر، أما رواية “سنوات التيه”، فهي ترصد محاولة الهروب من الزمن عبر غيبوبة اختيارية تلجأ إليها البطلة هربًا من صدمة الواقع، وتدور في فترة التسعينيات، وفي رواية “شمس أيوب”، نستعرض مآلات الحلم في ظل التحولات الاجتماعية بعد الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، حيث تتكسر الطموحات على صخرة الواقع القاسي، وفي رواية “حتماً سوف يأتي”، يواجه البطل نفسه بعد محنة قاسية يتعرض لها، ليكتشف في لحظة مواجهة صادمة أنه لم يكن يومًا البطل في حكايته، بل كان  دون أن يدري هو الشرير في رواية حياته. وهكذا، في كل رواية، يظل الإنسان هو البطل الحقيقي، حاضرًا في كلّ زمان ومكان، وتظل الكتابة عندي بحثًا دائمًا عن جوهره، عن هشاشته، عن مقاومته، وعن قدرته على النجاة.

برغم جودة الإبداع إلا أنّه قليل إذا ما قورن بالموهبة .. أسباب تأخر النشر ؟

إنّ العبرة في الأدب ليست بعدد الإصدارات، بل في قيمتها وعمق أثرها، فرُبّ عمل أدبي وحيد، يفوق في تأثيره مئات الأعمال التي لا تستحق حتى ثمن الحبر الذي كُتبت به. معظم الكاتبات في مجتمعاتنا الشرقية يبدأن مرحلة النشر في سن متأخرة، بعد أن يؤدين واجباتهن الأسرية تجاه الأسرة والبيت والأبناء، فالكتابة تأتي متأخرة حين تستقر الأوضاع، وأنا واحدة من هؤلاء، تأخرت في النشر، لا لأنّ الرغبة في الكتابة لم تكن موجودة، بل لأنّ الوقت لم يكن ملكي، وحين شعرت بأنّ الوقت قد حان، وأن تجربتي قد نضجت، ومشاعري وخبراتي  تراكمت، قررت أن أنشر، وهكذا بدأت رحلتي مع النشر، ربما تكون متأخرة ، لكنها جاءت في وقتها المناسب بالنسبة لي.

كتبتِ الشعر وتحولت منه إلى النثر رواية وقصة .. فهل لم تجدي ضالتك المنشودة في القصيد ؟

الأدب، سواء أكان شعرًا أم نثرًا، رواية أم قصة، هو في جوهره وسيلة للتعبير عمّا يجيش في صدر الكاتب من مشاعر، وما يدور في عقله من أفكار، وما يؤرقه من قضايا، وهي أدوات مختلفة، يختار منها المبدع ما يتفق مع رغبته وقدرته على التعبير بالشكل الذي يراه أصدق لصوته الداخلي.

أما بالنسبة لي فأنا  لم أتحوّل عن الشعر، غير أنني وجدت في الرواية متنفّسًا أوسع، وعالمًا أرحب.

لكلّ مبدع مثلٌ أعلى يترسم خطاه .. فمن هو مثل شاهيناز الفقي ؟

كلُّ مبدع صادق هو مثلي الأعلى، وهو النموذج الذي أقتفي أثره، بغضّ النظر عمّا إذا كنتُ أتفق معه في التوجه أو الأفكار، فالصدق هو الميزان الحقيقي الذي أزن به الكاتب؛ فإن كان مؤمنًا بما يكتب، يمتلكُ الشجاعة الكافية ليعبّر عن أفكاره، فهو بالنسبة لي قدوة ونموذج  يُحتذى.

 (يا شمس أيوب) عملٌ روائي قال عنه بعض النقاد  إنه نص مكتمل أسلوبيّا وبلاغيا ولغويا ..  فهل هذه الإشادة دافعٌ أم أنها مصدر للقلق ؟

إذا كانت رواية  يا شمس أيوب عملًا مكتملًا، فربما كان من الأفضل لي أن أعتزل الكتابة بعدها، إذ ليس بعد الاكتمال سوى النقصان، لكن الحقيقة أنّ الإعجاب بالعمل أحيانًا، خاصة من قِبل بعض النقاد، قد يدفع إلى شيء من المبالغة دون قصد. أما القلق، فهو رفيقي الدائم في كل عمل أكتبه، يلازمني منذ أن تبدأ الفكرة بمراودة عقلي، وحتى لحظة الانتهاء من الكتابة وطرح العمل أمام القارئ، ورغم أنّ هذا القلق مرهق نفسيًا وذهنيًا، إلا أنني أراه ضرورة صحية، فالكاتب الذي لا يقلق، قد يقع في فخ الاطمئنان الزائف، ويفقد شغفه وصدقه.

(مذكرات نزيل جهنم) آخر عهدك بالكتابة في الرعب .. سبب الإحجام عن هذا اللون؟

كتبتُ في أدب الرعب كنوع من التحدي لذاتي، لكن ما قدمته لم يكن رعبًا بالمعنى التقليدي، بل كان رعبًا نفسيًا، وهو  من وجهة نظري أكثر أشكال الرعب عمقًا وإثارة. هذا النوع من الكتابة استنزفني نفسيًا وذهنيًا، وأرهقني إلى حدٍ جعلني أقرر عدم تكرار التجربة، ومع ذلك، أُدرك أن قراري ربما كان نتيجة لحظات من الإرهاق والضغط النفسي، ولا شيء يمنعني من العودة إلى هذا الشكل الأدبي، إذا وجدتُ في داخلي الرغبة الحقيقية لخوضه من جديد.

لديك اهتمامٌ ملحوظ بالغلاف .. ألم يكن المضمون وحده كافيا لانتشارك أم لابد من الشكل؟

الغلاف جزء لا يتجزأ من العمل الأدبي، فهو العتبة الأولى للنص السردي، ومن خلاله يدخل القارئ إلى عالم الحكاية،  يقدم خلاصة بصرية مكثفة للمضمون، ويعبّر من وجهة نظري عن جوهر العمل بطريقة رمزية وجاذبة، لذلك أراه عنصرًا مهمًا لا يقل شأنًا عن النص ذاته، بل هو شريكه في جذب القارئ وإثارة فضوله.

في رواية(سنوات التيه) نلحظ ازدواجية في الشعور تجاه البطلة بين التعاطف وعدمه .. الدافع وراء هذا التنوع ؟

في سنوات التيه، تمر البطلة بأزمة نفسية عميقة تدفعها إلى الهروب، ومن هنا ينبع التناقض في تلقي القارئ لها؛ إذ قد يتعاطف معها إنسانيًا بسبب معاناتها، لكنه في الوقت نفسه يرفض موقفها من الأزمة، لأنّ الهروب لا يُعدّ حلًا لمواجهة المشكلات، فالهروب  يُطيل أمد التيه ولا يختصره، بينما المواجهة، مهما تكن قاسية، تظل أقصر الطرق نحو الحلّ والخروج من متاهة  الألم والانكسار.

كتبت النقد بجانب الإبداع .. فبرأيك النقد حصان يجرُّ الإبداع أم عربة تتبعه ؟

لا وجود للنقد دون إبداع، ولا يمكن للإبداع أن يتطور ويرتقي دون عين نقدية فاحصة ومحايدة، فالعلاقة بين المبدع والناقد علاقة تكامل لا تناقض، إذ يحتاج كلُّ منهما إلى الآخر، المبدع بحاجة لمن يضيء له مناطق القوة والضعف في عمله، والناقد لا معنى لجهده دون وجود من يبتكر ويخلق، فهما وجهان لعملة واحدة، وركيزتان أساسيتان في مسار أي حركة أدبية حقيقية.

(الدبلة والمحبس) مجموعة قصصية حققت دويًا.. فإلى الرواية أو القصة يميل قلبك؟

حققتُ نجاحا في مجموعتي القصصية الأولى (الدبلة والمحبس)، كما لاقت مجموعتي الثانية (نخلة عزرا) صدى واسعًا بين القراء والنقاد، أمّا بالنسبة للرواية أو القصة القصيرة فكلُّ عمل أدبي هو أداة للتعبير، ولكل من القصة القصيرة والرواية سحرها الخاص وطريقتها في الوصول إلى القارئ. الرواية عالم فسيح، متعدد الشخصيات والرؤى والأفكار والمشاعر، عالم يصنعه الكاتب بتفاصيل دقيقة، ويعيش داخله لمدة طويلة، أمّا القصة القصيرة، فهي لحظة خاطفة، لمحة مركزة، هي أشبه بومضة ضوء تكشف مشهدا أو حالة شعورية في زمن محدود، لذلك ربما  أميل إلى الرواية أكثر من القصة القصيرة؛ لما تمنحه من فسحة أوسع للتأمل والتعمق في الشخصيات والأحداث، ولقدرتها على احتواء تفاصيل الحياة وتناقضاتها وتعقيداتها في بعض الأحيان.

الجوائز والسينما ماذا يمثلان بالنسبة لشاهيناز الفقي ؟

تمثّل الجوائز الأدبية تقديرًا مهمًّا لمسيرة الكاتب، وتُعدّ بمثابة تتويج لأعماله، كما تسهم في لفت أنظار القرّاء والنقّاد إلى نتاجه الأدبي، ومع ذلك، فإن الجائزة، ليست الهدف الأساسي من الكتابة، ولا ينبغي أن تكون الغاية القصوى منها. أما السينما، فهي بوابة الشهرة الحقيقية للكاتب، لاسيما في مجتمع يعاني من ارتفاع معدلات الأمية وتراجع مستوى القراءة، ومن هنا، تُمثل السينما وسيلة أسرع، وأسهل، وأكثر انتشارًا لعرض أفكار الكاتب، وتسليط الضوء على قضاياه ورؤاه، ولدينا نماذج مهمة من الكتاب الذين تحولوا من الكتابة الأدبية  لكتابة الدراما وحققوا شهرة واسعة من خلالها، أبرزهم الكاتب والسيناريست الكبير أسامة أنور عكاشة والمبدع عبد الرحيم كمال الذي عاد مؤخرا للكتابة الروائية.

مقالات من نفس القسم