شاهدة قبر من رخام الكلمات

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يحيي السماوي*

(1)

ليَ  الان سَــبَـبٌ آخـر

يَمـنعُـني  من خـيـانـة ِ وطـنـي :

لـحـافٌ سَـمـيـكٌ مـن تـُرابـه

تـَدَثـَّرَتْ  بـه ِ أمـي ..

ووسـادة ٌ من حجارتـه

في سـريـر قـبـرهـا !

 (2)

وحـدُهُ فـأسُ الـمـوت

يـقـتـَلِـعُ الأشـجـارَ من جـذورهـا

بـضـربـة ٍ واحـدة ..

3)

قـبـلَ فِـراقـهـا :

كـنـتُ حـيّـا ً

مـحـكـومـا ً بالمـوت ..

بـعـدَ فـراقـهـا :

صـرتُ مـيـتـا ً

محـكـومـا ً بالـحـيـاة !

 (4)

فـي أسـواق ” أديـلـيـد “

وجَـدَ أصـدقـائي الـطـيـبـون

كلَّ مـسْـتـَلـزمـات ِ مَـجـلـس الـعـزاء :

قِـمـاشٌ أسـود ..

آيـاتٌ قـُرآنـيـة  ٌ للجدران ..

قـهـوة ٌ عـربـيـة ..

دِلالٌ وفـَنـاجـيـن ..

بـخـورٌ ومـاءُ الـورد..

باسـتِـثـنـاء شيء ٍ واحـد :

كأسٌ مـن الـدمـوع  ـ ولو بالإيـجـار

أُعـيـدُ بـه ِ الـرطـوبـة َ

إلى طـيـن ِ عـيـنـيَّ

الـموشِـكـتـيـن  

عـلى الـجَـفـاف !

(5)

لمـاذا رَحَـلـت ِ

قـبـل َ أنْ تـَلِـديـني يا أمـي ؟

أدريـك ِ تـُحِـبّـيـن َ الـلـه ..

ولـكـنْ :

أمـا مِـنْ سـلالـمَ  غـيـرُ الـمـوت ِ

لـلـصـعـود  إلى الـمَـلـَكـوت ؟

 (6)

لم تـَحـمِـلْ نـَعْـشـَهـا  عَـرَبـة ُ مـدفـع ..

ولم يُـعـزَفْ لـه مـارش ٌ جَـنـائـزيّ ..

الـقـَرَويّــة ُ أمـي

لا تـُحِـبُّ سَـمـاع َ دويِّ الـمَـدافـع

ليس لأنه يُـفـزع ُ

عـصـافـيـرَ نخـلـة ِ بـيـتـنـا ..

إنما

لأنه يُذكـِّرُهـا بـ ” جـعـجَـعَـة ِ الـقـادة “

الـذين أضـاعـوا الـوطـن ..

وشـرّدوني !

تـَكـرَهُ  أصـوات  الـطـبـول

( بـاسـتِـثـنـاء طـبْـل المُسـَحّـراتي ) ..

نـَعْـشـُهـا حَـمَـلـَتـْهُ  سـيـارة ُ أجـرة ..

وشـيَّـعَـتـْهــا :

عـيـونُ الـفـقـراء ..

الـعـصـافـيـرُ ..

ويـتـامى كـثـيـرون ..

يـتـَقـَدَّمُـهـم شـقـيـقـي بـِطـَرَفِـه ِ الإصطـنـاعـيـة ..

وشـقـيـقـتـايَ الأرمَـلـَتـان ..

وجـدولان ِ من دمـوعي !

(7)

كـيـفَ أغـفـو ؟

سَـوادُ الـلـيـل ِ

يُذكـِّرُني بعَـبـاءتـهـا ..

وبـيـاضُ الـنـهـار

 يُـذكـِّرُني

بالـكـَفـَنْ  !

يـا لـلحـيـاة مـن تـابـوت ٍ مـفـتـوح ..

أشـعـرُ أحـيـانـا ً

أنَّ الحـيَّ

مَـيْـتٌ يَـتـَنـَفـَّس ..

والـمَـيْـتَ

حَـيٌّ

لا يَـتـَنـَفـَّس !

 (8)

الأحـيـاءُ يَـنـامـون َ فـوقَ الأرض ..

الـمـوتى  يـَنـامـون َ تـَحْـتـَهـا ..

الـفـرقُ بـيـنـهم :

مَـكـانُ الـسَّـريـر

ونـوع ُ الوسـائـد ِ

والأغـطـيـة !

 (9)

آخـرُ أمـانـيـهـا :

أنْ  أكونَ

مَـنْ يُـغـمِـض ُ أجـفـانَ قـبـرهـا ..

آخـرُ أمـنـيـاتي :

أنْ تـُغـمِضَ بـيَـدَيـهـا أجـفـاني ..

كـلانـا فـَشِـلَ

في تـحـقـيق ِ أمـنـيـة ٍ

مُـتـَواضِـعـة !

 (10)

أيُّـهـا الـعـابـرُ .. لـحـظـة ً من فـضـلِـك ..

هـلاَّ الـتـَقـَطـْتَ ليْ

صـورة ً تـذكـاريـة ً مـع الـهـواء ؟

وأخـرى مـع نـفـسـي ؟

وثالـثـة ً عـائـلـيّـة

مـع الـحـزن والـوجَـع ِ الـوحـشـيِّ

وأمي الـنـائمـة ِ

في قـلـبـي ؟

 (11)

سُـبـحانـكَ يا رب!!

أحَقـَّا ً أنَّ عَـذابَ جَـهَـنـّم

أشــدُّ قـسـوة ً مـن عـذابي

حين تـَعَـذرَ عـليَّ

تـوديـع ُ أمي ؟

آه .. لـو أنَّ سـاعي بـريـد ِ الآخـرة

وضـَعَ الـرسـالـة َ في صـندوق عـمـري

لا عـلى وسـادة  أمي .. !

 (12)

أيتها  الحَـمـاقـات ُ ..

الـلـذائـذ ُ ..

الـنـَّزَق ُ ..

الـطـَّيْـشُ ..

الـبَـطـَرُ ..

الخـطـيـئـة ُ ..

الجـنـوح ُ ..

المـعـصـيـة ُ  :

ها أنا أخـلـَعُـكـنَّ من حيـاتي

كما أخـلعُ قـمـيـصـا ً وسِـخـا ..

عليَّ منذ الان

التوضـّـؤ بالكوثـر

كي يسـمَـحَ لي الـلـه

بـدخـول فـردوسـه

لـرؤيـة أمي !

 (13)

الـفـصـلُ ليس شـتـاء ً

فلـمـاذا غـَطـّاها  أشـقـائي

بكلِّ هذه الأغـطـيـة من الـتـراب ؟

ربما

كي لا تـسـمـعَ نحـيـبـي

وأنا أصـرخُ في بـراري الـغـربـة

مثـل َ طـفـل ٍ خـطـفـوا دُمْـيَـتـَه :

أريـدُ أمي ..

فـتـبـكـي !

 (14)

لسـتُ سـكـرانـا ً ..

فلمـاذا نـظـرتـم  إليَّ بازدراء

حـيـن سَــقـَطـْـتُ عـلى الـرصـيـف ؟

مَـنْ مـنـكم لا ينزلِـق ُ مُـتـَدَحْـرجا ً

حين تـتعـثـَّرُ قـدَمـاه بـورقـة ٍ

أو بقـطـرة ِ ماء

إذا كان

يـحـمـلُ الـوطـن َ عـلى ظـهـره ..

وعـلى رأسـه

تابـوتُ أمـِّـه ؟

 (15)

يـا كلَّ الـذين أغضـَبْـتـُهـم  يومـا ً

من أصـدقـاء طـيـبـيـن ..

 ومجـانـيـن ..

وبـاعـة ِ خـضـروات ..

وزملاء طـبـاشـير ..

وطلبـة ٍ رائـعـيـن أبـعَـدَتـني  الـحـكومـة ُ عـنـهـم ..

ورفاق ِ مـعـتـَقـلات ٍ ومـعـسْـكـرات ِلـجوء

وأرصـفة ِ مـنـافي :

إبـعـثـوا إليَّ بعـنـاويـنـكم

وأرقـام هـواتـفِـكـم ..

فأنا أريـدُ أنْ أعـتـذرَ منكم

قـبـل ذهـابـي لـلـنـوم

في حُـضـن أمي !

 (16)

وأنـتم أيـهـا الـهَـمَجـيّـون

من مُـتـَحَـزِّمـيـن بالـديـنـامـيـت

وسـائقـي سـيّـارات ٍ مُـفـَخـَّخـة

وحَـمـَـلـَة ِ سـواطـيـر وخـنـاجـر :

كفى دويَّ انـفِـجـارات وصَـخـَـبـا

ألطـيِّـبـة ُ أمي لا تـُطـيـق ُ الـضـجـيـج

فـدَعـوهـا تـنـام ُ رجاء ..

 (17)

الـطـيِّـبـة ُ أمي

ما عـادتْ تـَخـافُ الـمـوت ..

لـكـنـَّـهـا

تخـافُ عـلى الـعـصـافـير

من الشـظـايـا ..

وعـلى بـخـور المـحـراب

من دخـان ِ الحـرائـق ..

والأمّـهـات ِ اللائي

أنـضـبَ الرعـبُ أثـداءَهـن !

 (18)

حـيـنَ أزورُ أمـي

سـأنـثـرُ عـلى قـبـرهـا

قـمـحـا ً كـثـيـرا ..

أمي تـُحِـبُّ الـعـصـافـيـر ..

كلَّ فـجـر :

تـسْـتـَيْـقِـظ ُ عـلى سـقـسـقـاتـهـا ..

ومن ماء وضوئـهـا :

كانت أمي

تـمـلأ  الإنـاءَ ا لفـخـار قرب نـخـلـة الـبـيـت

تـنـثـرُ قـمـحـا ً وذرة ً صـفـراء ..

وحين تـطـبخُ رُزّا ً

فـلـلـعـصـافـيـر ِ حِـصَّـتـُهـا

مـن مائـدة أمي !

 (19)

في صَـغـري

تـأخـذني مـعـهـا إلى السـوق 

وبـيـوت ِ جـيـرانـنـا ..

حتى وأنـا فـي مُـقـتـَبَـل الـحـزن

لا تـُسـافـرُ أمي إلى كربلاء

إلآ وتأخـذني  مـعـهـا ..

أنـا عُـكـّازُهـا ..

وفـانـوسُـهـا ..

وحـامِـلُ صُـرّتـِهـا المـلـيـئـة

بـ ” خـبـز الـعـبّـاس ” ..

والبيض الـمـسـلـوق ..

و إبـريـق ” شـاي الـزهـرة ” ..

فكيف سـافـرتْ وحـدهـا لـلـقـاء الـلـه ؟

ربـمـا

تـَسْـتـَحـي من ذنـوبـي !

آه ..

من أين ليْ بأمّ ٍ مـثـلـهـا

تـَغـسـلـني من وحْـل ِ ذنـوبي

بـكـوثر دُعـائـهـا

حـين تـفـتـرشُ سـجّـادة َ الـصّـلاة ؟

 (20)

يـا أحِـبـائي الـطـيـبـيـن

أرجوكم

لا تسـألـوا الـلـه أنْ يـملأ :

صَـحـني خـبـزا ً..

وكـوزي كـوثـرا ً ..

وجسـدي عـافـيـة ً ..

وروحـي حـبـورا ..

فأنـا بحـاجـة ٍ الان إلى :

صَـبـر رمـال الصحراء على العـطـش ..

وتـَجَـلـُّد ِ بـغـل ٍ جَـبَـلـيّ ..

وبَـلادة ِ خـروف ..

ولا مُبالاة حـمـار ..

وإلى خـيْـط ٍ من جـنـون

أرتـقُ بـه ِ

جُـرحَ عـقـلـي !

 (21)

لم تـكـن أنـانـيَّـة ً يـومـا ..

فلمـاذا ذهـَبَـتْ إلى الـجـَنـَّـة ِ وحـدهـا

وتـَرَكـتـني

في جـحـيـم الـحـيـاة ؟

 (22)

مُـذ ماتت الطـيـبـة ُ أمي

لم أعُـدْ أخـافُ عـلـيـهـا

من الـمـوت ..

لـكـنـهـا بـالـتـأكـيـد

تـخـافُ الان عليَّ

من الـحـيـاة !

 (23)

أغـيـثـوني ..

أريـدُ أوراقـا ً من مـاء

لأكـتـُبَ

كـلـمات ٍ

مـن جـمـر !

 (24)

حين مات أبي

ترَك لي ” فاتورةَ كـهـرباء ” ..

حين مات  ولدي

ترك لي

بدلة َ العـيـد الذي لم يعِـشـه ..

أمي ؟

تركت لي عباءتها ..

سـأتخذ مـنـهـا سـجّادة لـلصـلاة ..

أمّـا أنا

فسـأترك لأطـفـالي

قـائمـة ًطويلـة

بأمنياتي التي لم تـتحـقـق ..

منها مثلا  ً

أن يكون لي وطـنٌ آمنٌ .. و

قـبـر !

 (25)

الـطـيِّـبـة ُ أمي لم تـمُـتْ ..

لا زالت

على قـيـد دموعي

 (26)

دفءُ أمـومـتِـهـا

وليسَ حَـطـَبُ مـوقِـدِنا الطيني :

أذابَ جَـلـيـدَ الـوحشـة

في شـتاءات عـمـري ..

رائحـة ُ يَـدَيـهـا

وليس نـوعُ الحـنطـة ِ :

جـعـل خـُبـزَهـا

ألذ َّ خبـز ٍ

في الـدنـيـا  .. !

دعـاؤهـا

ولـيـسَ الـحـظ ّ

أبْـعَـدَ  الـحـبـلَ عـن رقـبـتي  !

 (27)

يومَ صَـفـَعَـتـني

بكـيـتُ كـثيـرا ..

ليس لأن الدمَ

أفـْزَعَ الـطـفـل َ الـنائم في قـلبي 

ولكن :

خـشـيَة َ أنْ يكون وجهي الفـتِيّ

آلـَمَ كفّ أمي ..

(28)

مذ غـادر أبي بيتنا

وهي تجلس عـلى حـافـة الدنـيـا

بانتظار ” هدهد الآخرة ” ..

 (29)

مـرَّة ً

لـَسَـعَـتْ   نـحـلـة ٌ جـيـدَ  أمي ..

ربما

ظـنـَّتْ  نـقـوش جيـدِهـا ورودا زرقاء

لـتـَصْـنـعَ من رحـيـقـها  عَـسَـلا  ..

خـُضـرَة ُ عـيـنـيـهـا

أغـوت الـفـراشـات ِ للإقامـة

في بـيـتـنـا  الطينيّ  !

 (30)

ألـيـوم َ

سَـقـَطـَتْ  حـفـنـة ُ أوراق

من شـجـرة مـخـاوفـي :

أمي لن  تمرَض َ بـعـد الان  ..

لن تـُشـقـيـهـا غـُربـتي ..

لـن تـُرعِـبـَهـا  أسـئـلـة ُالشـرطـة عـني ..

وأنـا  ؟ منذ الـيـوم :

لن أخـافَ عـلـيـهـا  من الـمـوت ِ

أبـدا .. !

 (31)

آه ..

مـَنْ لملايين الـفـقـراء ..

المرضى ..

المُـشـَرَّدين ..

وكلِّ مـَنْ كانت الطـيِّـبـة ُ أمي

تـُطـعِـمُـهـم كلَّ يـوم

خـبـزا ً دافـئـا ً من تـنـّورِ  دُعـائـهـا

بـعـد  كلّ ِ  صـلاة ؟

 (32)

أيـهـا الـعِـمى

لـن أخـافـَكَ بـعـد  اليـوم ..

عـيـنـاي أصـبَحَـتـا

 فائـضـتـيـن عن الـحـاجـة ..

تمـامـا ً كـالـزائـدة الـدوديـة ِ

ما دمتُ لـن أطـبـق َ بـهـمـا

عـلى وجـه ِ أمي !

 (33)

لـو أنَّ مـنْ شـيَّـعْـتُ

يُـفـدى

أبْـدَلـتُ بالـدارَيْـن ِ

لـَحْـدا

أو أنَّ شـَقَّ الـثـوب ِ يُجدي

قـد شـَقـَقـْتُ عـلـيـك

جـِلـدا

 

وأذبْـتُ شـَحْـمَ الـمُـقـلـَتـَيْـن

تـَفـَجُّـعـا ً

ولـَطـَمتُ خـَـدّا

 (34)

جـلـدُها المُـطـَرّز ُ بالشـذر

لا تجري تـحـتـه قـطـرة ُ دم ٍ زرقـاء ..

قـد يـكون لـونُ دمِـهـا أحمرَ

لـكـثـرة ما شـاهَـدَتْ

مـن دم ٍ عـلى الأرصـفـة ..

أو أخضرَ

لكثـرة ما حَـمَلـتْ من عُـشـب..

أو أصـفـرَ

لكثـرة ما طـحَـنـَتْ من سـنابـل

وخـَبَـزتْ من خـبـز ..

أو أسْـوَد َ

لكثرة ما  حـَدَّقـتْ في ظلام الـعـراق !

(40)

أرجـوك اسـتـيـقـظي لحـظـة ً يا أمي

لأقـول َ لـك ِ

تـُصـبـحـيـن عـلـى جَـنـة  ..

 (41)

يـوم رحَـلـت أمي :

جـفَّ حـلـيـبُ الـطـفـولـة في فـمي ..

والـزَبَـدُ في مـفـرقي

لم يَـعُـد مـلـحَ السـنـيـن ..

صـار أولى خـيـوط كـَفـَني !

مـذ رحَـلـتْ أمـي

وأنـا :

جـثـة ٌ

تمـشـي  عـلـى قـدمـيـن

في مـقـبـرة ٍ

إسـمُـهـا الـحـيـاة !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*شاعر عراقي يقيم في استراليا

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم