في روايته القصيرة – نوفيلا – «هيا نشترِ شاعراً»، الصادرة عن دار مسكيلياني بترجمة عبد الجليل العربي، تخيل الروائي البرتغالي «أفونسو كروش» عالماً مستقبلياً استشرت فيه المادية، حتى صارت الأرقام لغته السائدة ومقياس كل شيء، فتحولت العلاقات الإنسانية إلى مجموعة من المعادلات الحسابية، واستغنى البشر عن التحايا الاعتيادية بعبارة «نمو وازدهار» ذات الطابع المادي، في حين استُعيضت أسماء الشخوص برموز وأعداد، وغدا الشعراء والمبدعون عرضة للشراء والبيع كأي سلعة أخرى، ومجرد إضافات شكلية كاللوحات المعلقة على الجدران أو أسماك الزينة والببغاوات، تقتنيها لتستأنس بوجودها وتباهي بها أصدقاءك، بعد أن فقد الفن قيمته الروحية، فاستحال طلاسماً غامضة في بيئة لا تكترث بالإنسان ومشاعره، بل بكم يجني ويصرف، سيراً على مبدأ «أنا أنتج وأستهلك، إذن أنا موجود».
بطلة الرواية طفلة صغيرة، التمست من والدها أن يشتري لها شاعراً، وبالفعل أخذها إلى السوق، واختارت شاعراً قصيراً، أخنفاً وأحدباً، أعطي مساحة صغيرة تحت الدرج ليعيش فيها، فكتب جملة شعرية على الحائط فوق سريره «كيف للبحر الكبير جداً أن تحويه نافذة صغيرة جداً؟»، مدعياً أنه يفتح بها نافذة على البحر. شكلت تلك الكلمات صدمة للعائلة المكونة من أب يعمل في التجارة، وأم ربة منزل، وأخ وأخت، إذ اعتادوا لغة جافة فرضها مجتمع نخرت فيه الرأسمالية، لغة تحدد كم غراماً من السبانخ أكلت هذا اليوم، وكم مليغراماً من اللعاب ترك الأب على وجهك عند التقبيل.
يتمكن الشاعر بفضل شعره وروحه المتعالية فوق العالم المحسوس، أن يخلق لدى الأسرة تساؤلات لا تنتهي بحسب تعبير نزار قباني «ما دام الإنسان السؤال منتصباً على وجه هذه الأرض، يحب ويكره، ويبكي ويضحك، فلا فرار من الشعر، ولا انفلات من أصابعه الساحرة»، ويحفز فيهم الرغبة في رؤية العالم عبر نافذة الشاعر، ليُحدث بذلك تغييراً جذرياً في نظرتهم تجاه الأشياء، فباتت لغتهم نابضة بالمشاعر، وفهمهم للذات الإنسانية أشد عمقاً وروحانية، ملهماً الأب حل مشكلاته التجارية، وممهداً للأم الطريق كي تدرك أن للمرأة كياناً مستقلاً لا ينبغي أن يؤطره الزواج ويلغيه، وموحياً للابن سبل نيل حب يحلم به، أما الفتاة فأبصرت بمعين من إضاءاته المجازية جوانب جديدة للوجود، فهل فعلاً يستطيع الشعر دفع الإنسان لفهم ذاته وحل مشكلاته المعيشية والوجودية؟ وهل بإمكان الشاعر أن يكسر بحروفه جمود الواقع وماديته، ويعيد للإنسان روحه المسلوبة وسط مجتمع استهلاكي؟ كما تراءى لهيدغر «الفيلسوف يعبر عن الكينونة، أما الشاعر فيقول المقدس».
يستعين «أفونسو كروش» في روايته بخيال خصب ليرسم من خلاله معالم عالم واقع مرير، تجري فيه أحداث قد تبدو للوهلة الأولى شطحات فانتازية لمستقبل سوداوي، مستخدماً لغة اتسمت بخلوها من العاطفة الإنسانية، لاسيما في الصفحات الأولى، بغية تصوير مجتمع مغرق في المادية، إذ يرى «أن الخيال ليس هروباً من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاماً مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية».
ولم يكتفِ المؤلف بمحاكاة مجتمع كئيب لا روح فيه، بل سخَّر اللغة بأسلوب مبتكر لينسج بقلمه مواقف طريفة وعديداً من العبارات الساخرة الذكية، والغير مألوفة للقارئ، متجاوزاً نمطية الكتابة التي اعتدنا عليها في كثير من الأعمال الأدبية، وكأننا في دنيا جديدة تحاكي عوالم الشعراء العجائبية، كما يعبر محمود درويش في أبياته:
يا رفاقي الشعراء
نحن في دنيا جديدة
مات ما فات
فمن يكتب قصيدة
في زمان الريح والذرة
يخلق أنبياء
ويوثق الكاتب في ختام روايته مدى تأثير الثقافة على الدخل القومي للمجتمعات، ويورد لنا أهمية قطاع الثقافة في البرتغال وكيف تتجاوز عوائده الاقتصادية بعض القطاعات كالفلاحة والصناعات الغذائية، إذ يرى أنه حتى لو تم التغاضي عن “أشياء سخيفة” مثل السعادة والنمو الشخصي، فإن غياب الاستثمار في الثقافة يعد جهلاً مدقعاً، وأنه إن لم يكن للفن وللثقافة أهمية، فلا أحد يُقبل على حرق مكتبة الإسكندرية أكثر من مرة، أو على تدمير بوذا باميان وآثار تدمر، يقول غورينغ «عندما أسمع كلمة ثقافة، أرى حافظة مسدس»، إشارة لقدرتها على التهديد أسوة بالأسلحة.
«هيا نشترِ شاعراً» نوفيلا ساخرة غرائبية، تسلط الضوء على قيمة الفن والأدب في حياة الإنسان، وتدفعنا إلى التساؤل حول دور الشعراء في صناعة الغد وتغيير العالم، «أفونسو كروش» يقول «إن الشعر يغير العالم ويبرز الحقيقة مكتوبة بغموض الدقة المطلق»، مشيراً إلى دوره في تحرير البشرية وخلق قيم الجمال «إن أبيات الشعر تحرر الأشياء، وإننا حين ندرك شاعرية الحجر فإننا نحرره من تحجره، ننقذ كل شيء بالجمال، ننقذ كل شيء بالشعر».