محمد الفخراني
بلدتنا كلها شياطين، عدا شارع واحد يسكنه الإنس، تَجمَّعوا فيه، مكانه بمنتصف البلدة تقريبًا، كنت أجرى عندما أضطرُّ إلى المرور من أمامه، أخطف نظرة سريعة حتى أتأكد أن أحدًا من الإنس لن يخرج فجأة ويخطفنى، شارع ملتوٍ، نخاف أن ندخله، أنا وأصدقائى الأولاد الشياطين نراه بلا نهاية، كأنه بحر بلا قرار.
دخلْتُه للمرة الأولى عندما أرسلنى أبى لأجلب واحدًا منهم، من الإنس، كى يُصْلِح لنا باب البيت الخشبى، ظللْتُ واقفًا أمام الشارع، أخشى أن أدخله، ومن وقت لآخر يسألنى واحد منهم أثناء دخوله أو خروجه: “عايز حاجة؟”، أهزُّ رأسى وشىء بداخلى يرتعش، لم أكن أخاف منهم عندما أراهم فى شوارع البلدة، أتعامل معهم بشكل عادى، مثلهم كأىّ شيطان، بعض أولادهم زملاء لى فى المدرسة، أو أصدقاء، المشكلة كلها هنا، عندما أقترب من شارعهم، “شارع الإنس”، أو أصادف أحدهم بالقُرب منه.
كنت أنتظر أن يظهر زميلى فى الفصل “ياسر ابن الإنس”، الذى يسكن هناك، لم يظهر، دخلْتُ أخيرًا، شعرْتُ أن الشارع لن ينتهى، أنا حتى لا أعرف البيت المطلوب، أبواب البيوت مفتوحة، ألمح خيالات تعبُرُ بالداخل فيرتجف قلبى، وجدْتُ نفسى فجأة مُحاصَرًا وسط نساء إنسيَّات يجلسن أمام بيوتهن، يُجهِّزْنَ طعامًا، أو يُخَيِّطْنَ ملابس، ينظرْنَ إلىَّ ويبتسمن، ارتعَبْت، ابتساماتهن مخيفة، يعرفْنَ أنى شيطان، ولا بد أنهن يتساءلن لماذا أنا هنا، سألتنى واحدة: “عايز مين يا حبيبى؟”، تجمَّدْت، دمى نشف، كانت تنتظرنى وبيدها سكين تُقطِّع بها بطاطس أو رؤوس عيال، “عم كمال النجار”، لم أقُلْها، انطلَقَتْ هى منى، أشارت الإنسيَّة بالسكين فى عمق الشارع، وقالت: “الباب لازرق”.
بعد عودتى من الباب الأزرق، لن أجرى كما توقَّعْتُ من نفسى، سأمشى على مهل، لم أعرف هل هو اطمئنان مفاجئ أم خوف فوق احتمالى، سأشُمُّ رائحة طعام لطيفة تخرج من البيوت، أُلاحظ أن النساء الإنسيَّات جميلات، تبتسم لى الإنسيَّة التى دلَّتْنى على البيت، وتقول “اتفضَّل”، صوتها حلو، أهمس لها “شكرًا” وألاحظ أن ابتسامتها جميلة، بعدها أرى بنتًا فى مثلى سِنِّى، بعيون خضراء، تقف فى فتحة بابهم وتبتسم لى، فأرتبك جدًا ويتكَسَّر لوح ثلج على قلبى، ألاحظ أن تيارًا من الهواء المُنعش يسرى فى الشارع كله، هو نفسه التيار الذى كان يرعبنى كلما لمَسَنى وأنا أجرى أمام الشارع، أتذكَّر قبل خروجى أنى نسيت أن أسأل عن بيت زميلى “ياسر”، أعرف السبب: البنت التى كَسَّرَتْ لوح ثلج على قلبى.
فى الفصل بالمدرسة، أجلس بجوار “ياسر ابن الإنس”، لن يُصدِّقنى عندما أقول له أنى دخلْتُ شارعهم بالأمس، أصِف له الشارع، والبنت التى كسَّرَتْ الثلج على قلبى، يضحك ويقول: “يارا.. اسمها يارا”، أطلب منه أن أذاكر معه فى بيتهم بعد أن رفضْتُ عَرْضَه المُرعب مرات كثيرة، سأفعل أىّ شىء لأرى “يارا”، كانت تسبقنى بسنة دراسية واحدة، تضعها فى مرحلة دراسية أخرى، وتَنقلها فى مدرسة خارج البلدة.
والدة ياسر، “أبْلَة نادية”، تُدَرِّس لنا مادة الشِّعْر، عندما تدخل الفصل لا تنظر إلى “ياسر” أبدًا، لا تُوَجَّه له أسئلة، هى جادَّة جدًا، وجميلة، الآن جميلة فقط، كانت جميلة ومرعبة قبل أن أدخل شارعهم، سنراها تبتسم عندما تنظر بطرف عينها من نافذة الفصل وتَلمح سحابةً ملوَّنَة، كلنا يعرف أن “عم سَمَاوى” جَدّ “ياسر”، ووالد “أبْلَة نادية”، هو مَنْ قام بتلوين السحابة، نعم، “عم سَمَاوى” يُلوِّن سحابَ بلدتنا، يعمل يومين فى الإسبوع، أحدهما يوم إجازتنا من المدرسة، فننتظره قريبًا من “شارع الإنس”، يخرج صباحًا ومعه دلو بلاستيك به بعض الماء، وسلَّم خشبى قصير، نمشى معه لأحد أطراف البلدة، يُثبِّت السُلَّم بالأرض، ويصعد، ومع كل خطوة تظهر له درجة جديدة حتى يصل إلى السحاب، فى الوقت نفسه نرى السحاب يقترب منه، يُعَلِّق الدلو فى قمة السلَّم، يغمس فرشاته فى الماء، فتخرج باللون الذى يريده، ويُمَرِّرُها على السحابة، يتنقَّل بالسلَّم وهو ما يزال بالأعلى، لا ينزل إلا بعد أن ينتهى من التلوين، كنا نهتف له من أسفل بالألوان التى نريدها: “لَوِّنها أزرق يا عم سَمَاوى، أصفر يا عم سَمَاوى، أخضر وأحمر”، يسمعنا هناك، يُلوِّن السحاب بما نختاره، ونعود إلى بيوتنا وملابسنا بها رذاذ الألوان سهل التنظيف، لم تكن أمهاتنا تحرمنا هذه المتعة مع “عم سَمَاوى”.
أهلنا، الشياطين، كلهم، لا يُجيدون غير الزراعة، أما الإنس فمنهم بنَّاءين ونجَّارين وخيَّاطين وطبَّاخين، يعزفون، ويرقصون، ويُغنُّون، لمّا يكون عندهم فرح، خطوبة، أو زفاف، يمتلئ شارعهم بنا، ونصعد فوق أسطح بيوتنا لنتفرِّج عليهم، ومَنْ لا يستطيع الوصول إليهم بعينيه، يستمع إلى أغانيهم، ويرى الأضواء المبهرة الملوَّنة التى يُعلِّقونها على بيوتهم، عندهم أيضًا تلك الأعجوبة: “الزغرودة”، لا تستطيع أىّ شيطانة أن تُزغرد، هذا خاص بالإنسيَّات فقط، الكثير من الشيطانات حاولْن أن يتعلَّمنها من الإنسيَّات وفشلن.
أولاد الإنس أيضًا عندهم معجزة “الطائرات الورقية”، لا أحد منا، أولاد الشياطين، يستطيع أن يصنع طائرة ورقيَّة، نشعر فى الوقت نفسه، نحن الأولاد الشياطين، وهذا يغيظنا، أن لا شىء نفعله إلا ويستطيع أىّ عبيط من الأولاد الإنس أن يفعله.
أذاكر مع “ياسر” فى بيتهم، وهناك أرى ابتسامة أمه، “أبْلَة نادية”، طوال الوقت، سآكل سندويتشاتها اللذيذة بأنواع من الجبن لونها أصفر وبرتقالى، وألوان أخرى، كنت أعتقد أن الأبيض هو اللون الوحيد للجبن، والأسود والبُنِّى هما اللونان الوحيدان للعيون، لكنى فى “شارع الإنس” سأكتشف الأخضر والأزرق والأحمر والأصفر، الإنس لديهم الكثير من الألوان غير المُتوقَّعَة لأشياء غير مُتوَقَّعة.
سأعرف مواعيد “يارا” التى كسَّرَتْ الثلج على قلبى، هل قلتُ من قبل أن عينيها خضراوان؟ (ثانية واحدة، سألقى نظرة)، نعم، خضراوان، أحصل منها على ابتسامات، وأقضى بسببها أوقاتًا طويلة فى “شارع الإنس”، أتجرأ وأكتب لها بالأخضر، لون عينيها، على جدار بيتها: “أنا أحب يارا”، طلبْتُ اللون والفرشاة من “عم سماوى”، أخبرتُه بما سأفعل وشجَّعنى، ستقرأ “يارا”، وتبتسم لى، لكنها لن تكتب شيئًا.
لم أكن الوحيد الذى كسَّرَتْ على قلبه شيئًا ما، عرفْتُ أنها كسَّرَتْ الزجاج على قلب أولاد غيرى، البعض كان نصيبه حجارة، ومساكين دفَنَتْ فى قلوبهم جمرة صاحية، أعرف فيما بعد أن بنات جنسى الشيطانات أكثر رأفة وحِنيَّة.
كانت صدمة حلوة عندما اكتشفْتُ أن بعض الشياطين مِنا يسكنون فى “شارع الإنس”، بيت أو بيتان، أنْ تسكن فى شارع الإنس فأنت نصف شيطان نصف إنس، وهذا لطيف جدًا بالنسبة لى.
بالمناسبة، مقابرنا بجوار مقابرهم، لا يفصل بيننا غير ممرّ صغير، معلومة قديمة، واكتشفْتُ بالمصادفة أن قططنا وكلابنا مثل قططهم وكلابهم، مذهل، شعرى وقف لمّا عرفت.
نحن الشياطين، كبار وصغار، لا نتسلَّق الشجر، ليس لأننا لا نستطيع، إنما لأننا نتوه هناك، بمجرَّد أن يصعد أحدنا شجرة، مهما كانت صغيرة، فإنه لا يستطيع العودة، يتوه بين أغصانها، وعند لحظة ما يختفى، يضيع، ولا يظهر ثانية، فى الوقت نفسه لا يمكن لأحدنا وقتها أن يقفز عن الشجرة، لأن شعور الشيطان منا بأنه تائه هناك يجعله مرعوبًا، ويعتقد أن القفزة ستظَلُّ تَهوى به إلى الأبد دون وصول، لا تستغربوا، اسألوا أنفسكم، هل رأى أحدكم شيطانًا صغيرًا أو كبيرًا يصعد شجرة؟ ها؟ الآن عرفتم السبب، كان هذا يُضحِك “ياسر ابن الإنس”، منظرنا البائس عندما يصعد وحده شجرة التوت، ونبقى نحن على الأرض، زملاؤه، تسعة شياطين، ننتظر أن يَتعطَّف علينا ويهزّ الشجرة، وهو يُقهقه فوقنا، الإنسى الصغير، الملعون.
من وقت لآخر، أرى واحدة من الأمهات الشياطين، تجرى إلى “شارع الإنس”، وتصرخ: “الحقونى، ابنى تاه فى الشجرة”، فيخرج لها أىّ واحد من الإنس، يتسلَّق الشجرة وينقذ ابنَها قبل أن يضيع للأبد، لكنه لا يُسَلِّمه لها قبل أن يحَلِّفها أنها لن تضربه.
كان هذا عجيب بالنسبة لنا، كيف يمكن لأىّ أحد، مهما كان، أن يتسلَّق شجرة، أىّ شجرة، ولا يتوه، يعود هكذا ببساطة، فقَدْنا فى الأشجار الكثير من صغار الشياطين، والكثير من الكبار الذين جازفوا بأنفسهم لإنقاذهم، ولم يعودوا.
بعد كل هذه السنوات، وعندما أزور بلدتى، أمرُّ أمام “شارع الإنس”، أتمهَّلُ قليلًا، فيلمسنى تيار الهواء المُنعش، ما زلتُ أفكر فيه كشارع مسحور، وأبتسمُ له.