أسامة كمال
لم أكن أدرك لفترة طويلة سر انجذابي وعشقي لشارع (أبو الحسن)، فالعشق له أسرار، وليس على العاشق ملام. هناك في فترة ما من نعومة الطفولة الاولى رأيت بعين الدهشة دخول الخيط الاول من النهار على الشارع بينما (الصحبجية) يتطوحون طوحة تلو اخرى ويتموجون موجة إثر موجة منتشين بغنائهم ورقصهم على ايقاعات (الضمة) الساحرة في دور (زارني المحبوب) وكأن المحبوب جذبهم من الأرض الى السماء حتى وصلوا إلى منتهى اللذة والبهجة وتخلوا عن ضيق أجسادهم وحلقت أرواحهم في فضاء سرمدي نوراني في سماء الشارع وكأنهم التقوا والتفوا وتماهوا في حلقة ذكر لله وللحياة.
لا يبعد شارع (أبو الحسن) سوى أمتار محدودة عن الافرنج (حي الصفوة والأجانب) في مدينة البحر – بورسعيد – ربما كان الشارع النقطة الأولى أو نطفة التكوين التي تجمع فيها النازحون من فقراء قرى الدلتا ومقهوري قرى الجنوب والصعيد الذين تركوا جذورهم وأتوا ليحفروا على الرمل قصة التقاء البحرين الأحمر والأبيض بالعرق والدم والأحلام ويقاوموا النهاية والفناء بالذكر والصلاة والغناء وحب الحياة.
يعود اسم الشارع إلى الشيخ أبى الحسن الذي يحمل الشارع اسمه وظله الذى خرج من ضيق الارض إلى رحابة الله، مفعماً بنور مريديه ومحبيه، فهم الذين التفوا حوله ورفعوه علي محفة محبتهم شيخاً وإماماً ورأوا فيه ولياً صالحاً وبنوا له من دون الناس مزاراً ومقاماً و شارعاً يسرى في قلب المدينة كوريد يتدفق بالحياة.
تقول الروايات: حين توفى إمام المصلين في بورسعيد لم ينتظر الأهالي تعيين أحد الأئمة من قبل الحكومة المصرية وأجمعوا على اختيار الشيخ (أبو الحسن) إماما للمسجد الشعبي الأول (مجهول الاسم) في المدينة والذى تحول من مخزن للغلال إلى جامع للمصلين قبل أن ينعم الخديوي على أبناء المدينة عام ١٨٨١ بالموافقة على بناء المسجد التوفيقي وعلى اختيارهم لشيخهم ومولاهم (أبو الحسن) شيخا واماما في أول المساجد الرسمية وأقدمها.
ولم يكن الشيخ (أبو الحسن) شيخا تقليديا بل كان جسرا انسانيا بين الدين والحياة، ودليل ذلك أن أبناء المدينة نعتوه باسمه فقط دون تعريف أو تعليل على اعتبار أن (أبا الحسن) رمز وليس اسما، نور متجدد وليس مجرد سحابة عابرة دون مطر.. رمزا للدين والدنيا معا وليس رقيبا على رقاب العباد، ففى هذا الشارع الحيوى المفعم بالحياة التقى الزاهدين والدراويش والمجاذيب فى حلقات الذكر وتوافد من كل شق عاشقى الطنبورة والسمسمية والضمة، وعلى بعد خطوات منه خرج الثائرون عام ١٩٢١ لوداع سعد زغلول إلى منفاه في جزيرة مالطا وسقط منهم سبعة شهداء مدرجين فى دمائهم بعد إطلاق النار عليهم، وتجمع المشجعون من كل صوب رافعين الرايات الخضراء للنادى المصرى، وتدفق المحتفون بليلة شم النسيم لألقاء عرائس القش (الألمبى) فى حرائق الثورة والرفض السنوية ؛ تلك الحرائق الرمزية البهيجة التى لم يبق منها سوى لمعان أرواح من تلظوا بوهج وهيجها وبهجتها، والتى لم يعترض عليها يوما شيخنا ومولانا (أبو الحسن)، وكيف يعترض وهو العارف بالحياة وبالدين والذى لم يسلم مزاره ومقامه من محاولة مقيتة وفاشلة لحرقه فى تسعينيات القرن العشرين، والتي لم يكن يدرك فاعلها ان المزار ليس لشخص أو لعارف أو لولى بل لمعنى أصيل من معانى الحياة، نفس المعنى الذى جعلني مجذوبا وعاشقا لشارع العارف بالحياة وبالدين مولانا وشيخها (أبو الحسن).